القارئ بين هالة الجوائز وفتنة الأثر

مع كل إعلان عن نتائج تحكيم لجان الجوائز نشهد عديد التفاعلات والمقالات تطرح الأسئلة المعتادة.
في "قيامة الحشاشين" يكتشف أستاذ التاريخ في بستانه قبرا يحوي عددا من الوثائق القديمة 
"القلعة البيضاء" و"قيامة الحشاشين" نموذجا

لم يعد ممكنا اليوم إنكار أهمية الجوائز الأدبية التي تمنحها المؤسسات أو الأفراد في عصرنا أو تجاهل قدرتها على الترويج للكتاب ودفع المتلقي للاطلاع على الأعمال المتوّجة والتفاعل معها إعجابا حينا وتشكيكا في قيمتها وجدارتها بالتكريم أخرى.
لذا نشهد مع كل إعلان عن نتائج تحكيم لجان الجوائز عديد التفاعلات والمقالات تطرح الأسئلة المعتادة: هل تعتبر الجوائز مؤشرا وحيدا أو أساسيا في إثبات قدرة المبدع وتميز النصّ؟ ما أثر المعايير المحددة سلفا في اختيار الكتاب المتوّج وإثبات قيمته؟ وهل يكون التشكيك في مصداقية لجان التحكيم سبيلا لنفي قيمة العمل الحاصل على الجائزة؟ والأسئلة نفسها وغيرها يطرحها المتلقي (القارئ) أحيانا حين لا يجد في ما رشحته لجان الجوائز الأدبية ما يرضي ذائقته أو يكفل المتعة والحلم والتوق إلى استكشاف رؤى جديدة أو ما يساعده في فهم ذاته وفهم العالم.
لا جدال في ما أقرّته الدراسات الحديثة من تأكيد على أهمية الاختلاف في تقييم النص الواحد. فاختلاف القراءات والمقاربات يعدّ ضربا من الإثراء للنص وإثباتا لأهمية القارئ في استكناه خفايا النص وتأويل علاماته واستنطاقه في ضوء ما ترسّب لديه من ثقافة ومعرفة. لذا اعتبرت القراءة "إعادة كتابة للنص وممارسة إنتاجية" (محمد بوعزة: استراتيجية التأويل ص45). 

novel
لم تحقق المتعة التي وعِد بها القارئ 

أستعيد إشكالية الجوائز الأدبية واللغط حولها بعد قراءة روايتين إحداهما تحصّل صاحبها على جائزة نوبل للآداب، ولم تحظ الثانية – وهي حديثة العهد نسبيا – بما يؤكد جدارتها وقيمتها بعد، رغم ترشيحها لجائزة البوكر العربية. 
الرواية الأولى هي "القلعة البيضاء" للكاتب التركي أورهان باموق (ترجمة عبدالقادر عبداللي, ورد للطباعة والنشر ,سوريا, ط 1, 2000) و قد فازت بجائزة نوبل للآداب سنة 2006 وجعلت صاحبها في مصاف الكتاب العالميين. 
أما الرواية الثانية فهي "قيامة الحشاشين" للروائي التونسي الهادي التيمومي (دار مسكلياني للنشر, تونس 2020) وهي الرابعة في قائمة إصداراته. 
ما وجه المقارنة والجمع بين روايتين متباعدتين ظاهريا شكلا ومحتوى؟ الجامع بينهما ذاتي هو قراءتهما في وقت متقارب, الواحدة تلو الأخرى, والاختلاف الكبير في التفاعل مع كليهما. 
قرأت الرواية الأولى "القلعة البيضاء" فاستبعدتها في الأثناء مرارا ولم أجد في حبكتها ولا في أسلوبها ولا في شخصياتها وعالمها ما يجعل القارئ (الذي هو أنا) ما يولّد اللهفة ولا التفاعل ولا المتعة رغم الصدى الطيب الذي أحدثته في الصحافة العالمية. وقد أورد ناشر الرواية في الغلاف بعض مقتطفات مما كتب عنها في الصحافة العالمية من قبيل "إنها تجذب القارئ بسحرها .. إنها متعة حقيقية" أو "حكاية لا تنسى". صحيح أنها تنهل من تاريخ تركيا في القرن 17 لتصوغ منه فانتازيا تاريخية, وأنها تتناول علاقة الأنا بالآخر أو الشرق بالغرب في رؤية جديدة نسبيا. بيد أنها لم تحقق المتعة التي وعد بها القارئ في الغلاف ولم يحصل الانجذاب الوجداني والفكري نحوها. والأسباب حتما تعود إلى نوع المتلقي أو ذوقه وانتظاراته أو غير ذلك من العوامل الذاتية التي لا يمكن إنكارها. لذلك كانت الرواية "قلعة بيضاء" على وجه الحقيقة والمجاز.
 في المقابل قرأت رواية الهادي التيمومي "قيامة الحشاشين" مباشرة إثر الأولى، فإذا هي "قلعة" أخرى محكمة البناء تأسر القارئ, قلعة رمزية وفضاء فكري عقائدي مغلق, مدارها قلعة حصّنها الحشاشون أو أتباع الحسن بن الصباح (إمام فرقة باطنية في القرن الخامس الهجري) برموزهم وأساطيرهم وطوّقوا بها علومهم وأسرارهم وتاريخهم قبل أن يستعيده أحفادهم في العصر الحديث . 

القارئ وحده هو من يتحكم في خيوط اللعبة، فيقرر تتويج مبدع وتخليد نصه لتتسع سطوته أو يعلن تجميد حروفه وموت كتاباته أو موت مؤلفه

في رواية "قيامة الحشاشين" يكتشف أستاذ التاريخ في بستانه قبرا يحوي عددا من الوثائق القديمة (المزامير) فتنطلق مع هذا الكشف رحلة بحث طويلة ومشوّقة بل رهيبة ومرعبة, فإذا هو بحث معرفي في أحد وجوهه إذ يحاول السارد (أستاذ التاريخ) فهم دلالات المزامير الرمزية وتبيّن قيمتها التاريخية, وهو بحث عقائدي لدى بعض الشخصيات (الحشاشين) التي ستحاول حماية ذاكرتها ورموز تراثها متبعة وصايا إمامها الحسن بن الصباح. ويتولد عن ذلك بحث بوليسي عن حقيقة هؤلاء الذين يرومون نشر الفكر الأسطوري وتوظيف الدين لدعم عقائدهم ولو باستباحة القتل والنهب والترويع في بلد مهدّد باللصوص والإرهابيين (تونس) .
ويتحول أستاذ التاريخ في الرواية من مساءلة الماضي والتراث والبحث عن الحقيقة المعرفية  إلى إنسان مطارد, تطارده شخصيات مختلفة الانتماءات لكنها تلتقي في حرصها على تقديس التأويل العقائدي الذي ينسب إلى الفرق الباطنية (الاسماعيلية) وترفض كل اختلاف فتحاول محو مخالفيها بالحرق والقتل والإرهاب. 
بين مطاردة بوليسية وبحث فكري لمحاولة فهم لغز / ألغاز الحشاشين القدم والجدد, واستكشاف رموز القبر وقراءة المزامير المدفونة فيه, يتابع القارئ بلهفة وخوف أحداث الرواية وتقلباتها, يعيش الرعب الذي ولدته الفانتازيا التاريخية والتخييل ليكتشف في كل ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين الأسطوري والعقلاني, بين التاريخ والتخييل, بين الوهم والواقع. فإذا هو إزاء حوار خفيّ وضمني بين الروائي وثقافته, فيه اتكاء على التاريخ والأسطورة, وتداخل العقلي بالوهمي والخرافي, ومحاولة حفر في التاريخ الإسلامي المشحون بالأوهام والأكاذيب والأساطير وتفكيك لمقولات ترسخت في التراث. 
توقع الرواية بتشابك أحداثها وغرائبيتها ومتانة حبكتها وأسلوبها القارئ في أسر الوهم ليعيش مع الشخصيات وخاصة مع السارد, أستاذ التاريخ, الخوف والرعب من امتداد تعفن الجثة والقبر المفتوح على أسرار الماضي, الرعب من عودة سكان قلعة ألموت وقيامة الحشاشين الجدد في عصرنا بعد اكتشاف حقيقة القبر وقراءة الرسائل الرمزية التي يوجهها إمام الحشاشين إلى المتمسكين بالأساطير والأوهام. تكاد أنفاس القارئ تتقطع في ملاحقة المغامرة ومحاولة فهم رموز المزامير ومتابعة المطاردة التي يعيشها أستاذ التاريخ, لكنه يعود, بعد أن كاد ييأس من إمكانية النجاة من أوهام السحر الأسود وسطوة الماضي, يعود إلى الجادة حين يسترجع السارد بمساعدة شخصيات أخرى قدرة العقل على الشك وطرد الأوهام وتفنيد الأكاذيب.

novel
مطاردة بوليسية وبحث فكري 

رُشّحت رواية "قيامة الحشاشين "للبوكر العربية، ولم تحظ بالتكريم, لكنها ستحظى حتما بحظوة القارئ، وتفتح له آفاق الشك والتفكير والمتعة, تفتح له أبواب التأويل واسعة لفهم أوجه التشابه بين الدواعش في عصرنا والحشاشين في قلعة التراث العربي الإسلامي. إذ لم يكن التوجه التاريخي في الرواية سوى حفر في ماضينا لفهم حاضرنا وإعادة قراءة التراث المشوّه بالأساطير والخرافات.
هل نتهم بعد هذا الجوائز ولجان التحكيم بالتقصير أو نشكك في قيمة الآثار المتوجة؟ الجواب حتما سيكون النفي. ذلك أن هالة الجوائز لا ينبغي أن تحجب عنا أهمية القارئ (الجمهور الواسع) طرفا أساسيا في عملية التلقي. إن قيمة العمل الأدبي حسب ياوس تتمثل في قدرته على خلخلة المعايير الفنية والجمالية المتحكمة في أفق توقع القارئ, غير أن هذه المعايير الجمالية تتشكل وتتطور في ضوء الأوضاع التاريخية والاجتماعية والثقافية ,مما يجعلها معايير متقلبة متحولة. لعل أهم فكرة في نظرية التلقي هي أهمية المشاركة الفعالة بين النص والمتلقي متعة وتفاعلا ونقدا وتأويلا. أي أن قيمة النص الحقيقية لا تتجلى إلى مضامينه ومعانيه وأساليبه بقدر ما تتجلى في الأثر الذي يحدثه في النفوس والتفاعل الوجداني والفكري بين النص وقارئه.
ويبقى السؤال الأهم قادحا لمزيد البحث: هل احتاجت كتابات دوستويفسكي وتولستوي وبوشكين وموباسان وزولا وكونديرا وزفايغ .. وغيرهم من الروائيين والأدباء إلى جوائز لتنتشر وتلقى الحظوة لدى القراء في شتى أنحاء الأرض؟ هل انتظرت روايات نجيب محفوظ جائزة نوبل ليقبل عليها القارئ العربي؟ ثم كم من رواية حصلت على جوائز عربية مهمة فانتشرت حولها هالة ضوء ساحرة ثم طواها النسيان، وأهملها القارئ ولم يجد فيها ما يحقق متعة أو خلخلة لأفق توقعه أو فكره فخابت انتظاراته من الكاتب والكتاب والجائزة. هل نعيد مرة أخرى السؤال الذي طرحه سارتر "لمن نكتب؟" هل نكتب للجان الجوائز فنسعى لتكييف النص وفق معاييرها ومقاييس نعرفها سلفا تضمن حظوظا لنيل الجائزة؟ أم نكتب لقارئ كوني سيجد في النص بعضا من ذاته ومن عالمه مهما اختلفت الأزمنة والظروف؟
ألا يمكن الإقرار في النهاية أن القارئ وحده هو من يتحكم في خيوط اللعبة، فيقرر تتويج مبدع وتخليد نصه لتتسع سطوته أو يعلن تجميد حروفه وموت كتاباته أو موت مؤلفه؟ إن الوسائط العديدة المتحكمة اليوم في عمليات الإشهار للكتاب وتوزيعه يمكن أن تعطي انطباعا خاطئا عن النص وتحقق شهرة مزعومة لكن أثرها يبقى نسبيا وزائفا ما لم يسفر هذا الانتشار عن تفاعل حقيقي بين المتلقي والأثر يتجاوز كل الظروف العابرة والتأثيرات الهامشية.