القاهرة.. وتشكيل جماليات المكان

دعاء عبدالحميد عبدالعزيز تدرس عنصر المكان في روايتي: "نساء القاهرة دبي" و"ثلاث سيدات في القاهرة". 
"نساء القاهرة دبي" تدور حول أسرٍ ثلاثِ نساء صديقات من الطبقةِ الوسطى التي تمثلُ العمودَ الفِقْريّ للمجتمع المصري
"ثلاث سيدات في القاهرة" تسردُ حيوات ثلاث سيدات سويديات وهن مقيمات في مصر لثلاثة أزمنة مختلفة في القاهرة

يعدُ المكانُ عنصرًا جوهريًا لا يمكنُ الاستغناءُ عنه داخل البنيةِ السرديةِ للنص الروائي، وذلك لأن "العملَ الأدبيَ حين يفقدُ المكانية فهو يفقدُ خصوصيتَه، وبالتالي أصالتَه".
فالمكانُ يقومُ بربطِ أطراف السرد الروائي؛ ولذلك "فإننا لا نستطيعُ بسهولةِ تصور أيةِ لحظةٍ محدودةٍ في الوجود دون وضعِها في سياقِها المكاني". فهو ذلك البناءُ اللغوي الذي تقدمه الكلماتُ انصياعًا لأغراضِ التخييل وحاجته. وهو نتاجُ مجموعةٍ من الأساليبِ اللغويةِ المختلفةِ في النص.
 هذا ما استهلت به الباحثة المصرية دعاء عبدالحميد عبدالعزيز، المعيدة بكلية الآداب جامعة حلوان، رسالتها لنيل درجة الماجستير في الأدب المقارن وموضوعها: (القاهرة.. قراءة في تشكيل جماليات المكان بين روايتي: "نساء القاهرة دبي" للروائي المصري ناصر عراق،  ورواية: "ثلاث سيدات في القاهرة" لآن إيدلستام.. دراسة مقارنة)، وهي الرسالة التي نوقشت خلال الأسبوع الماضي أمام لجنة ضمت الدكاترة: محمد علي سلامة (رئيسًا ومناقشًا)، جلال أبوزيد هليل (عضوًا ومناقشًا)، مها حسني، ورشا صالح (مشرفتين) ومنحت الباحثة درجة الماجستير بتقدير ممتاز.
وتشير الباحثة إلى أن روايتي: ناصر عراق، وآن إيدلستام ركزتا على المكان أو بمعنى أدق على مدينةِ القاهرة تحديدًا بكل تفاصيلِها، وما تحتويه من أحياءٍ جرت فيها أحداثٌ زمنيةٌ مختلفة. وترى الباحثة أن المكانُ اندمج مع الزمان فأخرج لنا هذين العملين.
أولًا: نساء القاهرة. دبي لناصر عراق:
تعدُ روايةُ "نساء القاهرة.. دبي" رواية أجيال، كما أنها تدور حول أسرٍ ثلاثِ نساء صديقات من الطبقةِ الوسطى التي تمثلُ العمودَ الفِقْريّ للمجتمع المصري.

المقارنة بين الروايتين ساعدت الباحثة على استيعاب العمل الروائي الذي تناولته بالتحليل لأن العناصر النصية تظهر بجلاء عندما توضع في سلسلة من العناصر المشابهة، وبخاصة من حيث وظيفتها في العمل الأدبي 

ترصدُ الروايةُ التحولاتِ السياسيةَ والاجتماعيةَ والاقتصاديةَ التي شَهدَها أبناءُ هذه الطبقة، وتسلطُ الضوءَ على حي شبرا حيث التعدديةِ الثقافية، والتنوعِ الديني الذي يَبرزُ أيضًا من خلالِ الصديقات الثلاث/، اثنتان منهن مسيحيتان، وواحدة مسلمة.
تبدأُ أحداثُ الروايةِ في اليومِ الذي مات فيه طه حسين 28 أكتوبر/تشرين الأول 1973 وهو اليوم الذي يمثلُ انتهاءَ زمنٍ كان فيه الجدُ المسيحي تلميذًا له، وبدايةَ زمنٍ مختلفٍ ترصدُه الروايةُ/ زمنٍ يَشهدُ أمواجَ التقلبات والتحولات السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية/ والتطرف الديني على مدى أربعين عامًا تقريبًا حتى ثورة يناير 2011.
ثانيًا: ثلاث سيدات في القاهرة" لآن إيدلستام:
تسردُ حيوات ثلاث سيدات سويديات: الجَدةُ هيلدا، والأمُ إنجريد، والحفيدة آن، وهي الكاتبة، وهن مقيمات في مصر لثلاثة أزمنة مختلفة في القاهرة. ومن خلال تتبع البطلة (آن) لجذور عائلتِها في السويد، ووصولًا إلى القاهرة، ترصدُ الروايةُ على مدى أحداثها التغيراتِ الاجتماعيةَ والتاريخيةَ والسياسيةَ والاقتصاديةَ والدينيةَ داخلَ المجتمع المصريّ. 
كما تكشفُ أوجُه الاختلاف بين الثقافةِ السويديةِ والمصريةِ وتتوقف أحداثُها عند الانتخابات الرئاسيةِ في يونيو/حزيران 2012.
تقدمُ الروايةُ تصوراتٍ عن السياسية في القاهرة، والاقتصادِ والتقاليد الاجتماعية، والدينية من وجهات نظر الغرباء، والأصدقاءِ وزملاء الكاتبة من المصريين الذين يعيشون في القاهرةِ، كما أنها تثيرُ التساؤلاتِ حول بعض المشكلات التي يعيشُها المجتمعُ المصري مثل التلوثِ والكثافة السكانية والإرهاب.
أسباب اختيار هذه الدراسة:
دفعت الباحثةُ إلى دراسة هاتين الروايتين عدة أسبابٍ منها:
كثرةُ النقاطِ التي تتلاقى بين هذين العملين، والتي كانت سببًا رئيسًا في اختيارِهما؛ فمدينة "القاهرة" عنصر مشتركٍ بين الروايتين، ليس فقط على مستوى مكان الأحداث، وإنما حملت الروايتان عنوانًا يسلطُ الضوءَ على القاهرة وحدَها، كما في روايةِ آن إيدلستام، والقاهرةُ أحد طرفي المكان في رواية ناصر عراق، وتتنوع الأمكنةُ في فضاءِ القاهرة ما بين المنازل والأحياء المختلفة والمقاهي وكلية الفنون الجميلة وأماكن تجمع الأجانب في مصر ولقاءات شباب الأحزاب السياسية في أماكن متعددة.

University papers
أوجُه الاختلاف بين الثقافةِ السويديةِ والمصريةِ 

وتتلاقى الروايتان أيضًا في نقطة مهمة تتمثلُ في اختيار ثلاث سيدات في كلِ رواية، وهو وجه مقترن بالأجيال الثلاثة التي تدور حولها الروايتان موضوع الدراسة.
الروايتان بالرغم من اختلاف المبدعيْنِ تُبرزان ملامحَ المجتمعِ المصري من عدة زوايا، كما ترصدان التغيرات الطارئة والأزمات من وجهات نظرٍ مختلفة.
وعن أهمية هذه الدراسة تقول الباحثة إنها دراسة المكان أي (القاهرة) في روايتين تنتميان إلى ثقافتين مختلفتين، بغية استكشافَ علاقةِ المكان بعناصر البنية السردية الجمالية، ورصدَ جماليات المكانِ وبنائِه الفني في هذين العملين، لأن المكانَ هو أحدُ عناصر الروايةِ الفنية التي تجري فيه الأحداث، ويحتوي كلَ العناصرِ الروائية حيث يرتبط بالزمان، وبالأحداث، وبالشخصيات، وهو الحاملُ لرؤية هؤلاء الشخوص، والممثلُ لمنظور المؤلف.
وتتساءلُ الدراسةُ عن مفهوم المكان في الروايتين، وعن آليات بنائه الفني، وعن دورِه في الروايتين، وأثرِه في الشخصيات، وعن التقنيات التي استخدمها الكاتبان لتصوير جماليات المكان.
وقد اعتمدت الدراسةُ على منهج البنيوية التوليدية؛ وهو الأقرب للتطبيق على الروايتين، لأنه يتعامل مع النص الأدبي وعلاقتِه بالمجتمع والتاريخ، ولا تعزِله عن مجتمعِه الذي هو جزءٌ منه، كما أنه لا يمكنُ دراسةُ أيِ نصٍ أدبي باعتباره بنيةً مغلقةً منعزلةً عن مجتمعِها الذي يمثل البنيةَ الكبرى.
وقد جاءت هذه الدراسة في مقدمةٍ، وتمهيدٍ، وثلاثة فصولٍ، وخاتمة.
تناول التمهيد مفهومَ الجمالياتِ، وعرضت فيه الباحثة مفهومَ الجمالِ في الفلسفة، وأوضحت أن الجمال ليس في الأشياء المرئية أو الأشياء المادية فحسب، وإنما هو يكمن في المعنويات أيضًا، كالضمائر والعادات والأخلاق الجميلة وما إلى ذلك.
كما تناولت مفهومَ الجمال ِفي النقد، وكيف انتقل الجمالُ من الفلسفة إلى المجال الأدبي؛ حيث اهتم بالجماليات المكانية التي تنعكس بدورِها على الشخصيات في عاداتِها، وطريقة حياتها، وفي طباعها وثقافتها.
ثم تطرقت إلى بيان طبيعة العلاقة بين كل من: المكان والفضاء والحيز. وسبب اختيار الدراسة لمصطلح المكان دون غيره، وبعد ذلك تناولت المفهوم الفلسفي للمكان، ومفهوم المكان في الرواية.
 ومن مفهوم المكان في الرواية انطلقت لتعريف القارئ بالبنية الداخلية والخارجية للروايتين موضوع الدراسة.
أما الفصل الأول من الدراسة فقد جاء في ثلاثة مباحث؛ المكان المفتوح، والمكان المغلق، وجدلِ الداخل والخارج، أي جدلُ المكان المغلق والمفتوح طبقًا لتنوع الأمكنة التي وردت في الروايتين.
ويناقش الفصل الثاني التشكيل المكاني والمنظور؛ وينقسمُ إلى مبحثين؛ الأول المشهد السردي وعلاقته بالوصف، والثاني: يتناولُ علاقةَ المكانِ بالراوي، ويدرس الرؤيةَ المهيمنة، والرؤية المصاحبة، والرؤية من الخارج.
ويأتي الفصل الثالث ليناقش المكانَ والزمانَ والشخصية، وهو ينقسمُ إلى مبحثين؛ الأول علاقة المكان بالزمان أو الزمكانية من خلال تقنيتي: الاسترجاع والااستباق. والثاني: علاقة المكان بالشخصية.
وأخيرًا جاءت خاتمةُ الدراسةِ لتبرزَ أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة، حيث تتوصل الباحثة إلى وجود عدة سمات أسلوبية وفنية في إبداع هذين الكاتبين، أبرزت وعيهما الفني بأدوات السرد التي وظفت لتمكين المغزى، وضمان انفعال المتلقي بتجربتهما الروائية، فكانت جماليات النص بما توفره من متعة فنية جزءًا لا ينفصل عن الدلالات التي يختزنها، وتكشف عن جماليات المكان الروائي.
وقد اتضح في رواية "نساء القاهرة دبي" انتماء كاتبها وانحيازه إلى قضايا الفقراء والمهمشين من أبناء مجتمعه الذين كان العمل الروائي نصيرًا لهم، وصوتًا معترضًا في وجه هذا الظلم الطبقي، معبرًا عن انكسارات الضعف التي تركت بعضهم صريعًا بين أقدام الحياة، وظهرت هذه الصورة بوضوح في حي شبرا الخيمة.
كما ظهر اهتمام ناصر عراق في روايته "نساء القاهرة.. دبي"، وآن إيدلستام في روايتها "ثلاث سيدات في القاهرة" بالجانب النفسي للشخصيات، وحرصهم على النفاذ إلى دواخل الشخصية، والتعرف إلى النوازع النفسية والمحفزات السلوكية التي تنشأ عن الصراع الداخلي لديها.
ولعل نماذج شخصيات رواية ناصر عراق التى جسدت ملامح البؤس والانكسار وتعرية الواقع هي التي جعلت هذا العمل يرقي إلى مستوى النموذج الإنساني الذي يتخطى خصوصية الحقب الزمنية، والحدود المكانية، بتجسيد كوامن النفس البشرية ونوازعها، وغرائزها التي يشترك فيها جميع بني البشر، وما يمكن أن تعكسه من اتجاهات نفسية وفكرية وسلوكية لأصحابها.  

University papers
الصورة بوضوح في حي شبرا الخيمة

أما آن إيدلستام فقد استخدمت في روايتها المكتوبة بالإنجليزية تقنية الوصف بصورة كبيرة؛ لرصد معلومات وبيانات ضرورية لتصوير معالم مصر وثقافتها، ولتحديد أبعاد المكان وبيان جزئياته والتماسك القائم بين المكان والشخوص.
وقد تناولت الروايتان جميع شرائح المجتمع، مع تركيز الرواية المصرية على الطبقة الوسطى،  وتركيز الرواية الإنجليزية على الطبقة العليا.
واستطاع الكاتبان بمهارة فنية خلق شخصيات مقنعة داخل كل عمل روائي؛ مما أدى إلى معايشة القارئ للأحداث لحظة بلحظة.
ومهما تكن من اختلافات وائتلافات بين العملين، فإن الأمكنة لم تطرح فيهما بشكل عشوائي، وإنما خضعت لأنساق تصورية وأيدلوجية كشفت عن رؤية اجتماعية، وسياسية، واقتصادية.
وقد أسفرت سمات التنوع المكاني وجمالياته في الروايتين عن النتائج الآتية:
بيان تميز المكان عن غيره من عناصر السرد على الصعيد الروائي، لأنه الوعاء الذي يحتوي الشخوص، ويعمل على خلق صورة انعكاسية لهم.
وتكمن الغاية من رصد العلاقة الكائنة بين المكان والشخوص في توضيح الكيفيات التي يظهر من خلالها المكان على مستوى العمل الروائي.
وقد نتجت الكثير من القيم والجماليات المكانية عبر تلك العلاقة الجدلية القائمة بين الشخوص والأمكنة.
وتشير الباحثة إلى أن غاية القراءة في تشكيل جماليات المكان تهدف إلى استنطاق أحياء القاهرة لما فيها من دلالات وقيم تختلف عن غيرها من الأمكنة. وإلى إقامة علاقة بين هذا الإبداع الأدبي وفترات المجتمع، وإظهار أبعاد الملامح الاجتماعية فيه.
ورصدت الروايتان الملامح الأساسية لبنية المكان في كل نص، وعلاقته بعناصر السرد الأخرى.
وتصل الباحثة إلى أن المقارنة بين الروايتين ساعدت على استيعاب العمل الروائي الذي تناولته بالتحليل لأن العناصر النصية تظهر بجلاء عندما توضع في سلسلة من العناصر المشابهة، وبخاصة من حيث وظيفتها في العمل الأدبي.