الكاظمي.. الفرصة تأتي مرة واحدة لإيران

العراق يتحرك على واقع جديد في علاقته مع إيران والولايات المتحدة. واقع ما بعد اغتيال سليماني ونهاية زمن الحكومات المتعثرة والضعيفة.

في التاسع من نيسان/أبريل حمل رئيس الدولة العراقية برهم صالح كتاب تكليف مصطفى الكاظمي بيده مخاطباً الحاضرين في قصره: "انه يوم مشهود لنا جميعاً سنتجاوز به مرحلة كانت صعبة علينا." وصف كهذا لوحده يظهر مدى حجم الكارثة التي كانت تحاصر مخيلة الزعامات السياسية العراقية في حال فشلت هذه المرة في اعادة ترميم توازناتها وتسمية بديل لرئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي.

من الداخل اظهرت لنا ازمة البحث عن البديل انها كانت في اعمق نقطة من الجدل والخلاف غير المحسوم بين الشيعة انفسهم. صدع شديد يقسم القوى الاسلامية البارزة داخل الطائفة الواحدة الى قسمين، قسم يرى نفسه في مرحلة الوصول الى السلطة التي توجب عليه دعم من لا يهدد مكاسب وفرتها له حكومة عبدالمهدي، وقسم آخر كان يمني نفسه برهانات جر الضغوط الخارجية الى مساحته من ثم الاستثمار في معادلتها سعياً لفرصة تدويره، وكل على حسب أدائه الخاص انتهى بهم المطاف الى مصطفى الكاظمي الذي نال قبولاً من الجميع حتى ممن لم يكن راضياً عليه لا في منصبه كرئيس لجهاز المخابرات العراقية ولا مرشحاً لزعامة الحكومة! ما الذي دفع الامور الى تغيير تلك القناعات؟ وكيف رتب الشيعة موقفهم؟ وهل لإيران طموح آخر يختلف عما كان في زمن سليماني؟

لقد راقبنا في يوم 30 اذار/مارس 2020 اول زيارة للعميد إسماعيل قاآني، قائد "فيلق القدس" الإيراني للعراق وكانت سرية؟ انها المرة الاولى التي يتواجد فيها مسؤول إيراني رفيع يتساوى بالتأثير والنفوذ بسلفه سليماني داخل العراق ولأول مرة تنقسم الكتل الشيعية الى جبهتين في كل القضايا التي تحتاجها ايران منهم، وابرزها تهيئة الحرب مع أميركا والوقوف ضد ترشيح الزرفي.

تذهب بعض المصادر العليمة إلى تفسير تواجد قاآني بين بغداد والنجف بانه كان يريد ان يثبت اقدامه للمرة الأولى في العراق بصناعة المشهد السياسي والاتفاق على شخصية لرئاسة الحكومة، بعد فشل الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، في زيارته مطلع آذار/مارس، وحل الأزمة السياسية ذاتها.

كان هنالك جموح مزدوج لهذه الزيارة: اعادة اكتشاف وتوحيد الفصائل الشيعية المسلحة لمواجهة المرحلة الجديدة التي تظهر معالمها منذ أن قامت واشنطن باغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس في كانون الثاني/يناير، وتعبئة الدعم ضد رئيس الوزراء المكلّف عدنان الزرفي، الذي اعتبرته قوى موالية لطهران مؤيداً لأميركا.

أعقب زيارة قاآني صدور بيان غير مسبوق في الرابع من نيسان/أبريل، استنكر الوجود العسكري الأميركي المستمر في العراق ووصف الزرفي بأنه عميل أميركي، وقعت عليه 8 من أبرز الفصائل المسلحة ضمن الحشد الشعبي، وهي: حركة عصائب أهل الحق، كتائب سيد الشهداء، حركة أنصار الله الأوفياء، كتائب جند الإمام، حركة حزب الله النجباء، كتائب الإمام علي، سرايا عاشوراء، وسرايا الخراساني.

ولان البيان ظهر في وقت مزامن مع تواجد قاآني في العراق، فمن المرجح ان يكون جُهز بمعرفة الحرس الثوري، الا ان كتائب "حزب الله"، وهو الفصيل المسلح الذي يعتبر الاكثر نفوذاً في العراق لقربه من ايران، كانت غائبة عن اللائحة، كما لم تعطِ رأيها بشأن اختيار الزرفي او عدمه، الا انها رفضت اتفاق الاحزاب الشيعية والكردية والسنية العراقية على منح مصطفى الكاظمي فرصة تشكيل الحكومة واتهمته باعطاء الولايات المتحدة تسهيلات للقضاء على قاسم سليماني.

يبدو أن الإيرانيين بدأوا يمارسون ادواراً مزدوجة محفوفة بالمغامرة هذه المرة. فعلى الرغم من أنهم وافقوا في النهاية على ترشيح الكاظمي كحل وسط من أجل منع الزرفي من الوصول الى منصب رئيس الوزراء، وتجنب المزيد من الركود في العراق، إلا أنهم في الوقت نفسه قد يقومون برعاية وتأهيل جيل جديد من المقاتلين الموالين لهم على غرار "عصبة الثائرين" و"أصحاب الكهف" من أجل ترسيخ مكانتهم في العراق والتصدي بشكل أفضل للوجود الأميركي الراسخ ودفاعاته القوية في العراق.

وتزعم "عصبة الثائرين"، التي ظهرت في منتصف آذار/مارس، أنها فصيل "مقاومة" جديد كلياً، وتبنى هذا الفصيل الجديد المسؤولية عن الهجوم الأخير على قاعدة التاجي الذي أدى الى مقتل جنديين أميركيين وجندي بريطاني، بموازاة ذلك فإن "أصحاب الكهف" هم جماعة ناشئة نشرت مقاطع فيديو وأظهر بعضها هجمات غير مؤكدة ضد موكب أميركي قادم من اربيل ومتوجه نحو صلاح الدين شمالي بغداد. ينبغي التمعن في مثل هذه الأنشطة جنباً إلى جنب مع البيان الذي اصدرته "كتائب حزب الله" في السادس من نيسان/أبريل والذي اكدت فيه أنها ستمتنع عن استهداف القوات الأميركية خلال انسحابها من قواعدها الحالية، هذا يترك الاحتمالات مفتوحة لاستئناف الحرس الثوري الهجمات حالما تستقر هذه القوات في قواعدها الجديدة، وذلك باستخدام جماعات خاصة أو جرى تجديد شعارها ويصعب رصدها وملاحقتها. وقد تنمو هذه الهجمات تدريجياً من حيث الكمية والخطورة، حيث لن تستهدف القواعد العسكرية الأميركية المتبقية فحسب، بل المنطقة الخضراء وتحديداً السفارة فيها أيضاً.

وهكذا يتوجب على المكلف مصطفى الكاظمي الضغط على الاطراف السياسية من أجل تشكيل حكومة مقبولة من جميع الزعامات العرقية والسياسية في العراق، ينبغي عليه ايضاً الاستمرار في اتخاذ جميع التدابير الضرورية لتأمين افراد وعناصر الولايات المتحدة في العراق، بالإضافة الى ذلك يجب عليه ان يقنع الايرانيين بانه معني في مثل هذه الحقبة بالتواصل مع واشنطن من اجل ضبط العلاقة استراتيجياً معها وهي علاقة مطلوبة منذ مدة طويلة والمرحلة اليوم تشهد أولى بوادرها التي تحققت بإجماع الموقف في الداخل والخارج حوله، العدو له والصديق.

وأمام الكاظمي الآن فرصة لتشكيل حكومة تنال ثقة مجلس النواب لتداخل مهامها مع خطوات متعلقة بسياسة الولايات المتحدة في العراق. ففي 25 نيسان/أبريل الجاري، سيتوجب على واشنطن أن تقرر ما إذا كانت ستمنح حكومة الكاظمي إعفاءً جديداً من العقوبات يتيح لها مواصلة استيراد الغاز الطبيعي والكهرباء الإيراني ام لا. والثانية هي ما اقترحته إدارة ترامب من إطلاق حوار استراتيجي مع بغداد في حزيران/يونيو القادم، مع سعي وزير الخارجية مايك بومبيو إلى إعادة ضبط العلاقات في إطار "اتفاق الإطار الاستراتيجي" لعام 2008.

عندما يجلس القادة العراقيون والاميركيون وجهاً لوجه في الاشهر القادمة وتحت عنوان "اتفاق الإطار الاستراتيجي"، ينبغي أن يكون حسم مصير العلاقة بين البلدين في طليعة أولوياتهم، ويجب ترك مساحة للاعتراف بالمصالح المتبادلة، فضلاً عن المجالات التي يمكن أن يتفقا فيها أو يختلفا حولها، ففي طوال فترة العام الذي شغل فيها عادل عبدالمهدي منصب رئاسة الحكومة إلى مكانته الحالية كرئيس حكومة مستقيل لم يكن لدى الولايات المتحدة أي احساس بشريك لها نشط وذكي في أعلى مراكز الدولة العراقية وفيما لو حاز الكاظمي على تصويت البرلمان واصبح رئيساً للوزراء، فيمكن للأميركيين الوثوق والاطمئنان من أن أي قلق أو ارتياح يعبر عنه لهم فسيصدر عن رجل عراقي مؤثر وقوي.

انها الفرصة التي تأتي مرة واحدة لإيران، من الان عليها ان تبدأ بوضع الخط بين زمنين، وزمن اليوم يوجب عليها ان ترى العراق محور له مكانه الثابت في المنطقة ويقوده فريق من الحكماء قادر ان يزيل الأفعال المعادية لها ولمصالحها القومية من المنطقة، عليها ان تثق بالقرار العراقي اكثر من ذي قبل وتساعد حكومة الكاظمي من خلال تعبئة جميع وكلائها لتشجيعها على القيام بتجارب واعدة من الحوارات مع الدول الكبرى. انها مرحلة إعادة ثقة العالم بقدرة العراقيين على جعل عاصمتهم ميدان لتقارب المصالح متى ما استغنى الإيرانيون عن وضع العوائق أمامهم.

‏مصطفى الكاظمي هو اخر فرصة للإيرانيين، حيث مهمته ان يقلل عزلتهم أو يضاعفها.

‏الاصرار على مواجهة اميركا في العراق عبر جيل جديد من الفصائل المسلحة اصبح اجراء مكشوفا. العقلانيون فقط هم من يمد الحكومة المقبلة بالثقة كي تصوغ رسائلهم وتنقلها بثقة الى ترامب دون احراجها بالصواريخ او العبوات.