الكاظمي وزيارة كردستان.. عهد جديد من الانفتاح

لا يحتاج العراقيون أن يذهبوا بعيدا لكي يدركوا أن خيار التقدم والعمران هو الخيار الحقيقي الوحيد أمام موجة التخلف السائدة. أمامهم كردستان.
زيارة الكاظمي لم تدخِل الارتياح للكثيرين من أقطاب العملية السياسية
عهد جديد من الانفتاح على العراقيين أولا وعلى محيطهم العربي والاسلامي
الكاظمي ليس محسوبا على من حكمونا بإسم الطائفة والمذهب ويريد ان يكون عراقيا

التجربة النموذجية الرائدة في كردستان تشكل مصدر فخر لكل العراقيين، وتكاد تكون أنموذجا يسر كل دول المنطقة، وليس العراق فحسب. وزيارة الكاظمي لها تكتسب أهمية خاصة، إذ انه رئيس الوزراء العراقي الوحيد الذي تفقد كل معالم الحياة في الإقليم، في أقصى بقعة منه، وأطلع بنفسه على معالم الجمال والروعة التي تزدان في هذا الإقليم، والتي صارت مثلا يحتذي وحلما لكل عراقي أن تصل محافظاتنا الى ما وصلت اليه من تقدم وعمران شاهق. وكم يتمنى العراقيون لو يحاول السيد الكاظمي نقل معالم تلك التجربة المشرفة الى بغداد والمحافظات، التي تحولت الكثير منها الى قرى، وليس مدنا عامرة بالحياة، كما كانت تنعم بالحياة البهية في السبعينات والثمانينات وحتى الى فترة بداية التسعينات.

نعم تجربة الإخوة الكرد هي مفخرة لنا جميعا، والطبيعة الساحرة التي وهبها الباري عز وجل لكردستان ومعالم شوارعها وبنائها الشاهق الجميل تعد بحق معلما للحرية وللسعادة وللشعور بالكرامة، وتلك التجربة يفترض الإستفادة منها لتغيير معالم الحياة في مدن العراق ومحافظاته، التي تنقرض فيها معالم الحياة شيئا فشيئا، حتى كأنها تعود الى القرون الوسطى.

ومما يؤسف له ان زيارة السيد الكاظمي لكردستان ولقائه كبار قياداتها لم تدخل الارتياح للكثيرين من أقطاب العملية السياسية، وهم يريدون ابقاء تلك العلاقة متوترة على الدوام، ولا يريدون الاستفادة من تجرية حكم الإخوة الكرد، الذين أشادوا كل تلك المعالم الشامخة، بعقول أبنائهم وحكمة قياداتهم، التي أوصلت كردستان الى كل هذا الرخاء والازدهار، بالرغم من صعوبة الاوضاع الاقتصادية التي كان ساسة البلد هم من يتحملون اوزارها، وهم من أوصلوا العراق بفسادهم وطغيانهم الى الحالة التي لا تسر، ولا تشرف أي عراقي ان يصل حال العراق الى تلك المراحل المتدنية في كل معالم الحياة وبأبسط صورها.

أجل، فأن أغلب قادة الكتل، وكثير من ساسة العملية السياسية لايروق لهم ان تذكر تجربة كردستان في الحكم الفريد الرشيد، كونهم لم يجلبوا للعراق غير الخراب والدمار والحروب ولغة الانتقام والولاء للآخر الذي يتربص بالعراق الدوائر، ويتخذ من بعض ممن باع بلده بثمن بخس ليكون عونا له في افقار العراقيين ونهب خيراتهم وثرواتهم وفراغ خزينتهم، وهم اوصلوا شعوبهم في دول الجوار الى معالم التقدم والرخاء، ونحن بقينا في آخر سلم الحياة من التخلف والإنهيار، وربما يتحول العراقيون الى مرحلة الإستجداء، علهم يجدون من يعينهم على مصائب زمنهم الأغبر اللعين، والبعض يرى في زيارة الكاظمي الى كردستان إغاظة لهم، وحنقا عليهم، وربما سيكون السيد الكاظمي أقرب الى نقل تجربة كردستان، لانهم لا يريدون ان يكون العراق سيد نفسه، ولأن الرجل ليس محسوبا على من حكمونا بإسم الطائفة والمذهب ويريد ان يكون عراقيا، وانسانا بسيطا لا يحمل من عقد التاريخ، في التعامل مع شعبه ومع محيطه العربي والاسلامي، ويريد ان يغير معادلة الحكم في هذا البلد، فالرجل يريد أن يحتكم الى العقل والمنطق، ولا يريد ان يكون عامل تعكير للاجواء، بقدر ما يبحث عن أي سبيل لأن يخلص بلده من جائحة اقتصادية ومالية وأمنية، هي أخطر من كورونا، وتهدد مستقبل العراق، حيث لا يجد العراقيون ان بمقدورهم الحصول على مرتباتهم في الأشهر والسنوات المقبلة، إن بقي حكم الطائفة والمذهب هو السائد، والرجل يريد كما يبدو أن ينهي، حقبة "حكام الطوائف" اللعينة ويودع زمنها الأغبر الى غير رجعة، كونها أصبحت مثلا سيئا للحكم، لم يشهد له التاريخ العراقي مثيلا، بل هي الأسوأ والأكثر بشاعة، بين كل تجارب الحكم في العالم أجمع.

وأرى ويرى كثير من العراقيين الحريصين على سمعة بلدهم، أن في زيارة السيد الكاظمي لأربيل والسليمانية ولقاءاته مع كبار قياداتها فرصة لحوار ايجابي، يضع حلولا للمشكلات العالقة، وهي ليست معقدة الى الحد الذي لايمكن حلها، وهم يرون أنفسهم عراقيون، وهم سيعتزون بعراقيتهم لو وجدوا قلبا رحيما من بغداد، لكن التعامل الفوقي معهم من أغلب ساسة الحكم وعدم رغبة البعض بأن يروا تلك التجربة الرائعة، مثلا يحتذى به امام العراقيين، فالغيرة لدى بعض الساسة واحقاد البعض الآخر لا يريدون ان يروا أية بقعة عراقية تنير بأضوائها، وهي أجمل من مدنهم واكثر كرامة وتوفيرا لسبل العيش، ويتمنون لو أن كردستان مقفرة على شاكلة محافظات العراق في الوسط والجنوب، حتى لايحملهم شعبهم المسؤولية عن تردي أحوال بلدهم، وهم يرون في كل معالم تقدم أنها تحز في نفوسهم وتنخر في عقولهم، وهم يتمنون أن يبقى الجهل والتخلف والأمية ولغة الحروب والإنتقام والاقتتال ينخر جسد العراقيين، فالعلم بالنسبة لهم حرب ضدهم، وهم يرون في الجهل والخراب والتخلف وفي حمل راية الدين السياسي المغلف بالأحقاد، وسيلة لاستعباد شعبهم واذلاله، ولا يسرهم ان يروا الاخرين وقد أوصلوا شعوبهم الى كل هذا التقدم والازدهار والحياة الآمنة الكريمة، وبقي العراقيون يلطمون أقدارهم، ولا يوجد لديهم بصيص من الأمل يمكن ان ينتقل ببلدهم الى الحالة الافضل، إن بقي هؤلاء المهيمنون على السلطة يتحكمون برقابنا ويذيقوننا كؤوس العلقم ومرارة العيش، وكل أمل العراقيين في كل محافظاتنا أن يخلصنا منهم، ويلعنوا تلك السنوات العجاف التي تسلطوا فيها على رقاب العراقيين، واوصلوا بلدهم الى الحالة التي يرثى لها، وتشكل مصدر انتهاك للكرامة وللحياة في أبسط صورها.

إتركوا الرجل يرى كيف يبني الآخرون، عله يكون بمقدوره ان يعيد بناء البلد، ويضع له خارطة طريق، تنتشلنا جميعا من المأزق الخطير، وأتركوا أحقادكم وضغائنكم وتبريراتكم غير المجدية، واتركوا مرارة عيشكم، فالرجل أمام محن ومصائب وبلاوي كثيرة، لاتحصى ولا تعد، والخزينة خاوية، والبلد على وشك الانهيار التام، ويفترض ان تشكروه وتساندوا جهده ومثابرته، لأنه يريد ان يبني بقلب مفتوح عامر بالإيمان الحقيقي وليس المغلف بالأهواء، لكي يوصل العراق الى أولى مراحل شاطئ الأمان.

إنه عهد جديد من الانفتاح على العراقيين أولا، وعلى محيطهم العربي والاسلامي، وكل الدول التي يكون بمقدورها أن تكون عونا للعراق في محنته، التي طال إنتظارها..ودعوات بأن يحقق للعراقيين بعد كل سنوات الضيم التي عاشوها، ما يشكل انتقالة نوعية بأحوالهم الى حيث يأملون ويحلمون.