الوباء في "اللوكاندة"

ناصر عراق: في روايتي أوضحت لماذا قرر الوالي عباس تأسيس مجلس الصحة عام 1850 وجعل الإسكندرية مقرًا له.
بدون التكنولوجيا، يعترى الجنون نصف سكان الكوكب، ويذلّ الاكتئاب النصف الآخر
المصالحة التاريخية بين الدول والطبقات والأعراق والأجناس أضحت ضرورة حتمية قبل أن تتعرض البشرية للفناء على يد مجرم غامض يعيث في الهواء فسادًا
ما يرتكبه كورونا من جرائم في كل لحظة على مستوى العالم يحتاج إلى وقت ليستوعبه الأدباء 

في روايته الأحدث "اللوكاندة" تناول الرؤائي المصري ناصر عراق شراسة الوباء عندما تمكن من المصريين في القرن التاسع عشر، وقد رأيت أن أبدأ الحوار معه عن تجربته في توظيف مثل هذا الوباء فنيًا في عمل أدبي، فقال: أذكر جيدًا أنني عندما شرعت في كتابة "اللوكاندة" في 2018 وكيف كنت أحرص بشدة على تصوير ما أسفر عنه وباء الكوليرا الذي فتك بآلاف المصريين في منتصف القرن التاسع عشر، فأحداث هذه الرواية تتناول فترة حكم الوالي عباس حلمي الأول الذي جلس على أريكة عرش مصر بين عامي: 1848 و1854، فابتكرت شخصية الفلاح الذكي البسيط "عليوة أبو زهرة" الذي فقد أمه في هذا الوباء، كما أوضحت لماذا قرر الوالي عباس تأسيس مجلس الصحة عام 1850 وجعل الإسكندرية مقرًا له، لأن معظم الأجانب المقيمين في مصر كانوا يعيشون في هذه المدينة العتيدة، وكان الوالي يخشى الأجانب، وقناصل الدول الكبرى مثل: بريطانيا وفرنسا وروسيا، فعمل على إرضائهم بتأسيس هذا المجلس الذي يتولى رعايتهم صحيًا.
 ومن أسف أن هذا الوالي لم يهتم بصحة المصريين، علمًا بأن عددهم قد بلغ نحو خمسة ملايين نسمة في منتصف القرن التاسع عشر.
 وهكذا حاولت أن أبتكر حبكة روائية جديدة تستعرض العلاقة بين الحاكم والشعب من خلال استلهام فترة تاريخية غامضة في تاريخنا لم يتعرض لها أحد روائيًا من قبل كما أظن.
ويرى الكاتب ناصر عراق أنه في التو واللحظة لن ينتج الإنسان أدبًا حقيقيًا يمكنه التعبير عما يجرى في العالم من وقائع كارثية بسبب فيروس الكورونا البشع، ولنا في التاريخ أسوة حسنة، فعندما اندلعت الثورة الفرنسية عام 1789 وما رافقها من صراعات دموية موجعة، توقف المبدعون الفرنسيون نحو عشر سنوات عن كتابة شيء لافت، حتى استقرت الأوضاع، فشرع الكُتّاب في تأمل تلك السنوات المترعة بالعنف والحلم والأمل وعكفوا على كتابة الشعر والقصة وخلافه.

إذا كان الإنسان بهذا الضعف الشديد أمام عدو غير مرئي، فلماذا لم يخصص المليارات للإنفاق على تطوير العلوم الطبية، بدلًا من إنفاقها على الأسلحة الثقيلة، والمعدات الحربية التي تستهدف قتل أخيه الإنسان

والأمر ذاته حدث حين اشتعلت الحربان العالميتان، إذ تعطل الأدب العظيم، وكذلك غاب الإبداع الجاد المؤثر عقب الثورة الروسية في 1917، وحتى عندنا في مصر، لم يكتب أحد شيئًا ذا قيمة عقب ثورة يناير 2011 مباشرة، لأن الأحداث الكبرى تحتاج إلى وقت كبير نسبيًا حتى يستطيع الكاتب الموهوب هضمها واستثمارها إبداعيًا.
وما يرتكبه فيروس كورونا من جرائم في كل لحظة على مستوى العالم يحتاج منا إلى وقت ليستوعب الأدباء هذا القاتل الوقح، وأفعاله المخزية في حقنا نحن البشر. ومع ذلك، فربما يكتب أحد الشعراء قصيدة لافتة، أو يقدم مطرب ما أغنية معبرة كرد فعل آني لما اعترى البشرية من فزع وهوان على يد فيروس حقير.   
ويعترف ناصر عراق بأن نظام حياته اليومية تأثر كثيرًا من تحت رأس هجمة هذا الفيروس، بعد أن أجبره الفيروس الشؤم على البقاء في بيته، إذ أصبح يتابع أخبار جرائمه بانتظام أكثر، ويحاول جاهدًا تهدئة خوفه المتزايد على أبنائه؛ "هديل" و"عمر" اللذين يدرسان في كندا، بعد أن عجزا عن العودة للإقامة معه في دبي،  بسبب توقف حركة الطيران.
والخوف ذاته يمتد إلى ابنه الثالث "باسم" الذي يعيش معه في دبي، كما يحرص على قراءة ما ينشر حول إمكانية التوصل إلى لقاح او علاج منه.
وعلى الرغم من يقينه التام بأن الإنسان قادر بعلمه وجديته ودأبه وإصراره وعشقه للحياة على ابتكار العلاج الناجع الذي يمحق هذا الزائر الوغد، إلا أن القلق يرافقه كلما شاهد أرقام الوفيات والإصابات ترتفع من يوم إلى آخر!
وحتى لا يغدو فريسة للهلع، فقد اعتصم بالكتابة اليومية كما كان يفعل من قبل، حيث يستيقظ في الصباح المبكر، ويشرع في استكمال روايته الجديدة، ثم يزكي الوقت بعد ذلك بالفراءة، ومشاهدة الأفلام المصرية، والأجنبية الممتعة. 
وعندما سألته: هل ترى أن هناك جوانب إيجابية لما نمر به الآن؟ أجاب: بكل تأكيد، فالمجرم الجبان عمل، دون قصد منه، على تعزيز الروابط الإنسانية، فكلنا في الهم شرق... وغرب أيضًا.
وكلي أمل في أن تخرج البشرية من هذا الحصار الكوكبي أكثر إنسانية ورحمة، وتدرك أن الصحة أهم مليون مرة من القنبلة، وأن الأخوَّة أقوى من المدفع، وأن مستقبل البشرية مرهون بتعاونها الخلاق، لا بأطماعها الفجة، وحروبها المدمرة. 
ووافق ناصر عراق بشدة على أنه بدون التكنولوجيا، يعتري الجنون نصف سكان الكوكب، ويذلّ الاكتئاب النصف الآخر؛ فالتليفزيون والكومبيوتر ووسائل التواصل الاجتماعي كلها متاحة بين يدي المرء في إقامته الجبرية، وعبر نعمة التكنولوجيا هذه تمكن الإنسان من مقاومة جنون العزلة المقيتة، فتفاعل مع أخيه الإنسان في أي مكان في العالم، واطلع على أحواله وأخباره، كما بث قلقه ومخاوفه على الفيسبوك، وتويتر، وغيرهما. فتخفف من أسر الهلع، وحافظ على اتزانه النفسي بقدر لا بأس به. 
وهو يرى أن العالم، بكل أسف، لن يتغير كثيرًا في المستقبل المنظور، كما يتخيل أو يتمنى، ولنا في التاريخ أسوة حسنة، وربما سيئة، فقد شهد العالم كوارث الحرب العالمية الأولى، ومع ذلك لم يتردد الكبار في إشعال الحرب العالمية الثانية بعد عشرين عامًا فقط من انتهاء الأولى.
فقد أشعلوها من أجل تعظيم مصالحهم وأطماعهم؛ فالصراع بين بني البشر جوهر الحياة، والنظام الرأسمالي الذي استقر عالميًا منذ عقود طويلة يؤجج هذا الصراع بشكل كبير ومنفر، ومع ذلك، فالأمل لا يزال يراوده في أن ينتاب البشرية الكثير من الحكمة بعد الخلاص من هذا الفيروس الملعون، فتهتم أكثر بحياة الإنسان وصحته وسعادته.

corona
الوالي لم يهتم بصحة المصريين

ولذا فهو يتوقع أن يلعب الأدباء والفنانون والمثقفون ومؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان أدوارًا مهمة في الضغط على حكومات العالم لتمنح الإنسان المزيد من الرعاية والاهتمام، ولتنبذ فكرة الحرب، وتفضح منظومة الاستحواذ على خيرات الشعوب الأخرى، وستنجح هذه الضغوط  إلى حد ما مع مرور الوقت.  
ويؤمن ناصر عراق بأن من يملك السلاح والمال سيظل حاكمًا للعالم بعد أن يلقي الأطباء كلمة الختام، وبعد أن تسحق البشرية هذا الفيروس الشرس، فلم يحدث أن حكم العالم، الأدباء أو العلماء أو الأطباء أو المفكرون، وإنما يحكمه من يملك القوة والمال والطموح والدهاء أيضًا. فإذا كان الأطباء هم أسياد المشهد الآن بعلمهم وتفانيهم وإخلاصهم، فإن الدول الكبرى، وأميركا فعلتها، وستيسر لهم كل السبل لاستقبالهم على أرضها ومنحهم الجنسية ليستثمروا علمهم في الحفاظ على حياة أبناء هذه الدول فقط، وليذهب باقي البشر إلى الجحيم، أو فليصطادهم فيروس غادر جديد.
 لكن سيظل الأمل في انتصار الرحمة على القنبلة هو البوصلة التي ترشد البشرية إلى حياة أكثر عدلا وحرية وجمالا. 
ويذكر ناصر عراق بأن البشرية لم تشهد من قبل عاصفة مرضية عاتية تزلزل أركان الكوكب كله مثلما يحدث الآن مع فيروس كورونا الخبيث، فالتاريخ يقول لنا إن الأوبئة كانت تنتشر في بقعة من بقاع الأرض فتقتل أهلها وسكانها فقط، لكنها لا تجتاح مجمل الكوكب كما نرى حاليًا مع كورونا البغيض.
 فقد ساعد التطور الصناعي والتكنولوجي على انتقال هذا الفيروس من دولة إلى أخرى، ومن قارة قريبة إلى أخرى بعيدة؛ فسهولة تحرك الإنسان أو سفره بالطائرة أو السفينة أو السيارة أجج حماسة الفيروس اللعين في إيذاء مئات الآلاف، وتهديد الملايين الآخرين.
ومن هنا، فعلينا أن ننتبه جيدًا في المستقبل، فالتطور المدهش الذي أفاد الناس قد ينطوي على مخاطر جمة إذا لم يفطن الإنسان إلى الجوانب السلبية المحتملة التي تواكب هذا التطور الكبير. 
ويقول إن المفاجأة البائسة التي أفرزها الهجوم المباغت لهذا الوباء الكريه أثارت في جمجمته العديد من الأسئلة الحرجة مثل: إذا كان الإنسان بهذا الضعف الشديد أمام عدو غير مرئي، فلماذا لم يخصص المليارات للإنفاق على تطوير العلوم الطبية، بدلًا من إنفاقها على الأسلحة الثقيلة، والمعدات الحربية التي تستهدف قتل أخيه الإنسان؟! ومن أين أتت الدول الكبرى بكل هذا الغرور الفج، وهي تأمر وتفرض وتتحكم في الدول الفقيرة، بينما وقفت شبه عاجزة أمام مجرم متخف يقتات على أجساد أبنائها؟ ثم، هل سيتعلم الإنسان الدرس، ويوفر الأموال الطائلة من أجل الحفاظ على حياته من غدر الميكروبات، والفيروسات، والأمراض الفتاكة، فيسعى بجدية إلى اكتشاف خبايا العالم وكائناته الغامضة ليتقي شرها؟
 وهل سيغلق مصانع الأسلحة ومختبرات البارود والديناميت والقنابل النووية، ويفتتح بدلًا منها المعامل والمستشفيات وكليات الطب والعلوم؟ ومتى يدرك الإنسان أن مستقبل حياته مرهون بالتعاون الخلاق بين البشر جميعًا، وأن المصالحة التاريخية بين الدول والطبقات والأعراق والأجناس أضحت ضرورة حتمية قبل أن تتعرض البشرية للفناء على يد مجرم غامض يعيث في الهواء فسادًا.