الورق والطباعة والبوصلة والبارود أعظم اختراعات الصين

بذور الرأسمالية التي ظهرت في أواخر عهد أسرة مينغ وأوائل عهد أسرة تشينغ تعرضت للإعاقة الشديدة من قبل الدولة.
الصين قدمت إسهاماٍت كبرى تعد من أهم أسباب دفع وتطور العلوم والتكنولوجيا وتقدم الحضارة البشرية
الحضارة التي بذل فيها الصينيون الأوائل جهودًا مضنية، تعد جزءًا لا يتجزأ من حضارة العالم، حيث ساهمت هذه الاكتشافات العظيمة في إبراز مكانة الصين بين الحضارات

قدمت الصين إسهاماٍت كبرى تعد من أهم أسباب دفع وتطور العلوم والتكنولوجيا وتقدم الحضارة البشرية، تلك الحضارة التي بذل فيها الصينيون الأوائل جهوًدا كبرى، وتمثل جزًءا لا يتجزأ من حضارة العالم، فقد أسهمت هذه الاكتشافات في إبراز مكانة الصين بين الحضارات، وهذا الكتاب "الاختراعات الصينية" والذي يأتي ضمن سلسلة الصين في مائة عام الصادرة عن مؤسسة بيت الحكمة، لمؤلفه تشينغ قوو تشو، ترجمة هند سلطان ومراجعة د.أحمد سعيد، يتناول عدة محاور أساسية، منها الانطلاق من الاختراعات القديمة إلى التقنيات الفائقة، بما في ذلك اعتماد الصينيين على مدخلات العلوم والتكنولوجيا الغربية الحديثة، كما يستعرض الإنجازات العلمية الحديثة، والتطور العلمي والتكنولوجي خلال فترة الجمهورية الصينية، بالإضافة إلى سبل إحياء العلوم والتكنولوجيا في الصين الجديدة لتدخل عصًرا جديًدا مشرًقا.
ويفتخر الصينيون دائًما بكونهم أصحاب الاختراعات المشهورة الأربعة القديمة، وهي البوصلة والبارود والورق والطباعة، والتي ساهمت بشكل كبير في تشكيل حضارات العالم القديمة على مر العصور. ظهرت البوصلة في عهد الممالك المتحاربة، ثم نقلت العرب من الصينيين آليات تصنيع البوصلة، ثم انتقلت إلى أوروبا إلى أن أصبحت الأداة الأساسية للرّحالة في تحديد الاتجاهات وكان لها إسهام كبير في التواصل بين البلدان فيما بعد. 
ويعد البارود ثاني الاختراعات التي تركها الصينيون الأوائل، حيث انتقل الناس بفضل هذا الاختراع من عصر الأسلحة البيضاء إلى عصر البارود وكان لها إسهام في التطور المدني. كما ابتكرت الصين فن صناعة الورق والذي يعد جزًءا أساسًيا من الثقافة الصينية، حيث يشّكل خصائص محلية فريدة تختص بها الصين دون غيرها، أما الطباعة فهي من المقتنيات الأثرية والثروات غير المادية للحضارة الصينية منذ القدم.
يؤكد قوو تشو أن الصين دولة عظيمة، وليس ذلك بسبب أن الحضارة الصينية القديمة هي إحدى الحضارات القديمة الأربع فحسب، بل لكونها الحضارة الوحيدة المتواصلة حتى الآن. وعلاوة على ذلك، فخلال تاريخها الذي يعود لآلاف السنين، قدمت الصين إسهاماتٍ عظيمة يشهد لها العالم بأنها من أهم أسباب دفع وتطور العلوم والتكنولوجيا وتقدم الحضارة البشرية. كما أن تلك الحضارة التي بذل فيها الصينيون الأوائل جهودًا مضنية، تعد جزءًا لا يتجزأ من حضارة العالم، حيث ساهمت هذه الاكتشافات العظيمة في إبراز مكانة الصين بين الحضارات.

الصين فقدت القوة الأساسية التي تمكنها من تطوير العلوم والتكنولوجيا الحديثة، في ظل الحالة الاقتصادية غير المستقرة التي دامت لفترة طويلة

ويشير إلى إن من أهم الأشياء التي يجب على الإنسان الذي يعيش فوق هذه الأرض، هي معرفة وجهته وتحديدها، ومن ثم يصبح على دراية كاملة بالبيئة المحيطة به، وبالتالي يتمكن من توسيع نطاق أنشطته. فعلى سبيل المثال، تعد البوصلة، وهي أداة لتحديد الاتجاهات، إحدى الاختراعات الأربعة المشهورة التي اخترعها الصينيون في العصور القديمة، حيث ظهرت في عهد الممالك المتحاربة، وقد تم استخدامها في الملاحة في عهد أسرة سونغ الشمالية، بينما في عهد أسرة مينغ استوعب البحار الصيني الشهير تشنغ خه في رحلاته السبع كل التقنيات الملاحية المتقدمة، حيث اعتمد على البوصلة والخرائط الملاحية معًا. وفي عهد أسرة سونغ الشمالية، تعلم العرب من الصينيين آليات تصنيع البوصلة، ثم انتقلت مباشرة من الصين إلى أوروبا، حيث طوّر الأوروبيون البوصلة إلى أن أصبحت أداة مهمة لتحديد الاتجاهات أثناء الرحلات البحرية وتسلق الجبال.
ويلفت إلى إن اختراع الورق من الاختراعات الأثرية التي اشتهرت بها الصين، فقد ابتكرت الصين فن صناعة الورق في عهد أسرة هان الغربية، وفي عهد أسرة هان الشرقية عمل تساي لون على تحسين فن صنع الورق، ومن ثم انتشرت صناعة الورق بسرعة كبيرة في جميع أنحاء البلاد. كما أن صناعة الورق تعد جزءًا أساسيًا من الثقافة الصينية، حيث شكّل اختراع الورق خصائص محلية متنوعة. علاوة على ذلك، فإن ورق شيوان (نسبة إلى مدينة شيوان بمقاطعة آنهوي وهي مدينة المنشأ) يعد أفضل أنواع الورق، حيث يتميز بسمعة طيبة لجودته العالية وبقائه لآلاف السنين. ولم يمض وقت طويل على اختراع الورق حتى وصل هذا الفن إلى غرب آسيا، ثم انتشر بعد ذلك في شتى أنحاء العالم.
 ويتابع قوو تشو أن البارود يعد ثاني الاختراعات التي تركها لنا الأجداد، حيث قامت الصين باستخدام البارود في صناعة الأسلحة في حوالي القرن العاشر الميلادي، لتظهر الصواريخ المصنوعة من البارود في أوائل عهد أسرة سونغ الشمالية، أما في أواخر عهدها فقد تم استخدام البارود في صناعة الكثير من الأسلحة كالبنادق والسهام النارية والمدافع والقذائف والقنابل اليدوية... وغيرها، أما في عهد أسرة مينغ فقد استخدم البارود في صناعة الكثير من الأسلحة النارية الأشد قوة، مثل العربات الحربية القاذفة وغيرها من الأسلحة. وقد انتشرت صناعة البارود والأسلحة النارية مثل النار في الهشيم في البلدان الإسلامية. وفي بداية عام 1249، قلّد الأوروبيون، البارود الصيني، ثم وصلت صناعة الأسلحة النارية بعد ذلك إلى المناطق الساحلية الإفريقية وغيرها من المناطق الواقعة بالقرب من المحيطات الثلاثة.
ويضيف "اخترع الصينيون فن الطباعة في عهد أسرتي تانغ وسوي، حيث نشأت تقنية الطباعة بالقوالب الخشبية، أما في عهد أسرة سونغ الشمالية فقد اخترع بي شنغ تقنية الطباعة بالحروف المنفصلة، الأمر الذي مثّل ثورة في تاريخ الطباعة. وفي عهد أسرة يوان استخدم بعض الناس، القصدير لصناعة الحروف المطبعية، ويعد هذا النوع من أقدم الحروف المطبعية في العالم. ثم اخترع وانغ تشن في عهد أسرة يوان، طريقة استخدام الحروف المطبعية الخشبية لطباعة المؤلفات، وبعد ذلك انتشر فن الطباعة الخشبية حتى وصل إلى اليابان وكوريا وفيتنام وغيرها من الدول المجاورة.
في عام 1970، أطلقت الصين أول قمر صناعي، حيث كان نشيد "أحمر الشرق" الذي أذيع في ذلك الوقت يصدح في كل مكان. وعمت الفرحة أرجاء البلاد، ومع ذلك، فإن الكثير من الناس يعرفون أن هذا النشيد قد تم عزفه باستخدام 13 آلة موسيقية منذ أكثر من ألفي عام. وفي عام 1978، اكتُشفت مجموعة من الأجراس المترابطة من البرونز في مقبرة تسينغ هو يي بمقاطعة هوبي، حيث يبلغ وزن الأجراس البرونزية 2.5 طن، ويعتقد خبراء الموسيقى أن هذه الآلات الموسيقية القديمة المنضبطة إلى حد كبير والتي ما زالت تحافظ على صوتها الأصلي تتميز بـ12 نصف نغمة صوتية ولا مثيل لها في العالم. وبهذا تعد هذه الآلات من معجزات الحضارة الصينية، كما أنها في نفس الوقت شاهد تاريخي على الثقافة الصينية القديمة والتقدم التكنولوجي.

وكون الصين بالأساس دولة زراعية يعمل غالبية شعبها بالزراعة. فإن الصينيين اكتسبوا الكثير من الخبرات المتميزة في جميع الأنشطة المتعلقة بالزراعة، مثل تحسين التربة واستخدام الأسمدة وتناوب المحاصيل وتربية سلالات البذور والحفاظ على رطوبة التربة وإدارة الحقول والعناية بالأرض وغيرها من الجوانب، إلا إن تكنولوجيا الإنتاج الزراعي التقليدية لا تزال تتمتع بمغزى عملي محدد حتى اليوم. 
وعلى الجانب الآخر، فإن العصور القديمة في الصين قدمت إسهامات عظيمة في شتى المجالات، وبفضل الإنجازات التي حدثت في العصور القديمة تبيّن العالم أن الصين أصبحت رائدة في شتى العلوم كالرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والفلك، والطب، والهندسة المعمارية وغيرها.
 ويرى قوو تشو أن العصور القديمة في الصين قدمت للبشرية، إنجازات علمية رائعة، وبفضل هذه الإنجازات أصبحت الصين دولة رائدة في العالم في شتى المجالات، وذلك في الفترة من القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن السادس عشر، حيث كانت الإنجازات العلمية في الصين إبان هذه الفترة تمثل ما يزيد على 54% من الإنجازات العلمية في العالم بأسره.
ويقول "منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي، قامت الثورة الصناعية البريطانية والثورة البرجوازية البريطانية الفرنسية بتمهيد الطريق أمام الغرب للدخول في المجتمع الصناعي الرأسمالي الحديث، وعلى الرغم من ذلك التقدم في الدول الغربية، فإن المناطق الشرقية في الصين كانت لا تزال تعيش في ظل الأنظمة الإقطاعية المتخلفة والتي تعتمد بشكل أساسي على الاقتصاد الزراعي والأنشطة الفلاحية محدودة النطاق. وفي الوقت الذي كان يتمتع فيه الغرب بالازدهار الرأسمالي، كانت الصين الشرقية تعيش في عزلة عن العالم. وبعدما عاشت الصين لفترة قصيرة في جو من الازدهار والرخاء في فترة حكم الإمبراطور كانغ والإمبراطور تشان لونغ بأسرة تشينغ، انزلقت مرة أخرى نحو التدهور. 
في ظل التقدم الغربي، نجد أن الإنجازات العلمية والتقنية التي كانت تحتل بها الصين الريادة في العالم بدأت تنزلق نحو الانخفاض في أواخر القرن السادس عشر، ومن ثم أصبحت هذه الإنجازات تمثل 0.4% فقط في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي. وبعد حرب الأفيون استخدمت الدول الغربية، القوة لغزو الصين، ومنذ ذلك الحين تحولت هياكل المجتمع الصيني تدريجيًا من المجتمع الإقطاعي إلى مجتمع شبه مستعمر وشبه إقطاعي. ولقد أدت هذه المعاناة التي عاشتها الصين في المائة سنة الأخيرة إلى التخلف في المجال التقني والعلمي بعدما كانت الصين رائدة في هذين المجالين، وأخذت الفجوة تتسع أكثر فأكثر بين الصين والدول الغربية، وذلك في ظل التقدم الغربي منقطع النظير في شتى المجالات".
ودائما ما يدور سؤال في غاية الأهمية: لماذا نلاحظ أن العلوم والتكنولوجيا في الصين تنتقلان من سيئ إلى أسوء بعد القرن السادس عشر؟ ولماذا انتقل التقدم العلمي والتكنولوجي من الصين إلى الدول الغربية؟ ويجيب قوو تشو "إن من أهم الأسباب التي أدت إلى التخلف في مجالي العلوم والتكنولوجيا في الصين، هي القيود التي فرضها النظام الإقطاعي لفترة طويلة من الزمن، كما أن الصين تعد هي الدولة الوحيدة التي عاشت في ظل النظام الإقطاعي لأطول فترة ممكنة على مستوى العالم، حيث كان المجتمع الصيني إبان هذه الفترة يعتمد بشكل أساسي على الاقتصاد الفلاحي محدود النطاق الذي تُعد فيه الأسرة وأفرادها وحدة واحدة، وهذا النظام يعمل على الدمج بين الزراعة والحرف اليدوية بالإضافة إلى أنه يستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي.
وقد تعرضت بذور الرأسمالية التي ظهرت في أواخر عهد أسرة مينغ وأوائل عهد أسرة تشينغ، للإعاقة الشديدة من قبل الدولة، وذلك في ظل السياسة التقليدية التي كانت تهدف إلى الاهتمام بالزراعة وإهمال التجارة، وفي نفس الوقت لم تتمكن القوى الإنتاجية المجتمعية من التطور بشكل سريع، كما أن العلوم والتكنولوجيا إبان هذه الفترة لم تتمكن أيضًا من مواكبة الاحتياجات العصرية الضرورية. وبالتالي، فقد الصين القوة الأساسية التي تمكنها من تطوير العلوم والتكنولوجيا الحديثة، في ظل الحالة الاقتصادية غير المستقرة التي دامت لفترة طويلة، وعلى العكس تمامًا فقد ساعد التطور السريع للنظام الرأسمالي بعد عصر النهضة الأوروبية على تطوير العلوم والتكنولوجيا في البلاد خلال هذه الفترة، وقد شكل هذا تناقضًا حادًا".