باحثة مصرية تبحث عن الوطن في النثر الأندلسي

عُلا علي إبراهيم تحصل على الدكتوراه من جامعة المنيا عن أطروحتها "الوطن في النثر الأندلسي من عصر ملوك الطوائف حتى السقوط.
أمراءَ العصر الأندلسي كانوا بغاةً على رعيتهم
الأمراء الأندلسيون فرضوا الضرائبَ التي أثقلت كواهلَ المواطنين
الأمراء الأندلسيون انغمسُوا في اللهوِ والترَفِ ما أدى إلى ضياعِ القيمِ الأخلاقيةِ والدينيةِ

نالت الباحثة المصرية عُلا علي إبراهيم درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من قسم الدراسات الأدبية بجامعة المنيا عن أطروحتها التي حملت عنوان "الوطن في النثر الأندلسي من عصر ملوك الطوائف حتى السقوط.. (دراسة فنية)". وقد أشرف عليها الدكتور عبدالجواد شعبان الفحام، أستاذ الأدب العربي القديم بالكلية، والدكتورة هبة نورالدين، استاذ الأدب العربي المساعد بالكلية نفسها.   
وأكدت الباحثة أن المصادر الأندلسيةُ تُجْمِعُ على أن حكمَ ملوكِ الطوائفِ كانَ البدايةَ الحقيقيةَ لسقوطِ الوطنِ الأندلسيِّ (العامِّ والخاصِّ)، وقالت إنه مما يدعو للأسفِ أنَّ أمراءَ ذلك العصرِ كانوا بغاةً على رعيتهم؛ فقد فرضوا عليهم الضرائبَ التي أثقلت كواهلَهم حتى امتلأت خزائنُهم بالمالِ واتخذوا من ثرواتِ رعاياهُم وسيلةً لتحقيقِ مطامعِهم في تشييد القصورِ وملئِها بالجواري والعبيدِ، حتى انغمسُوا في اللهوِ والترَفِ، مما أدى إلى ضياعِ القيمِ الأخلاقيةِ والدينيةِ.
ومن هنا بدأَت الأندلس أثناء حكمهم لها في التفككِ والانهيارِ، حيثُ انفصلتِ المدنُ عن بعضِها البعض، وأصبحَ كلُّ أميرٍ من هؤلاءِ الأمراءِ يستأثرُ بحكمِ إمارتِهِ، ويسعى إلى الانقضاضِ على مَنْ جاورَه من الأمراءِ طمعًا في الحكمِ، الأمرُ الذي كانَ له بالغَ الأثرِ في تفشي عديدِ من الآفاتِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ والاقتصاديةِ داخلَ ذلك العصرِ المضطربِ سياسيًا، الذي كان بدايةً لسقوطِ الأندلس، حيث بدأَت المدنُ الأندلسيةُ في التساقطِ مدينةً تلوَ الأخرى، كأوراقِ الشجرِ في خريفِها، وهو ما أدى إلى استمراريةِ حركةِ الصراعِ المريرِ بين المسلمين الفاتحين والسكانِ الأصليين زمنًا ليس بالقليل امتدَّ منذُ عصرِ ملوكِ الطوائفِ حتى السقوطِ النهائيِّ للأندلسِ وضياعِهِ من أيدي العربِ المسلمين.

الضيقَ المادي داخل الوطن الأندلسي كان أحدَ أهمِّ الأسبابِ التي أفرزت بعضَ الآفاتِ الاجتماعية كالتسولِ وغربة المدينين بينَ جدرانِ السجون خاصةً في العصرِ المرابطي

ومن ثَمَّ كانَ لتعاقُبِ الأحداثِ في الأندلسِ عبرَ العصورِ التاريخيةِ المختلفةِ دور في ظهورِ معنى خاص للوطنِ لدى الأندلسيين، وهو ما كان دافعًا وراءَ ظهورِ جيل موهوبٍ من الكتاب الذين استطاعوا أن يعبِّروا عن صورةِ الوطنِ الأندلسي في مختلف العصورِ الأندلسيةِ، وذلك من خلالِ الفنونِ النثريةِ المختلفة، وبخاصة الرسائل التي كانت تدعو إلى الحفاظِ على سلامةِ الوطن وأمنه من ناحية وتتغنَّى بمظاهرِهِ الطبيعية من ناحية أخرى، إذ لم تكن هذه الفنونُ تتناولُ صورةَ الوطنِ أثناءَ الصراع السياسي فحسبْ، بل تعدَّت ذلكَ إلى عرضِ الصورِ الاجتماعية والاقتصادية لهذا لوطنِ الأندلسيي، وبعضِ المظاهرِ الأخرى التي كانت وليدةَ البيئةِ الأندلسية على مرِّ العصورِ التاريخية المختلفةِ.
وعلى الرغمِ من أنَّ معظمَ كتاب الأندلسِ تناولوا صورةَ هذا الوطنِ بمختلف مظاهرهِ، فإننا نجدُ فئةً بعينِها تحملت مهمةَ الدفاع عن الأندلس في فتراتِ الازدهارِ والانكسار؛ ففريقٌ منهم جعلَ من مظاهرِ الطبيعةِ مجالًا خصبًا للتغني والمفاخرة بوطنِه، وفريقٌ ثانٍ اتخذَ من النزاعِ الدائرِ بين ملوكِ الطوائف دافعًا لدعوتِهم إلى وحدةِ الصفِّ بينهم حفاظًا على وطنِهم، وفريقٌ ثالثٌ لجأَ إلى الاستغاثة وطلبِ العون من ملوك المغرب وخاصة يوسف بن تاشفين، تخليصًا للوطنِ من يدِ العدوِّ الذي باتَ يتربصُ بالأندلس طمعًا في الاستيلاءِ عليه، والفريقُ الأخيرُ اتخذ من الأحداثِ الجسامِ التي أصابت الوطنَ سبيلًا لعرضِ الآفات الاجتماعية والاقتصادية التي عانى منها الأندلسيون في أوطانِهم، فلجأوا إلى اختيارِ الغربةِ عن وطنِهم هربًا من قسوة تلكَ الظروفِ التي ألمَّت بهم داخلَ أوطانِهم.
وترى الباحثة أن ابنَ الأبارِ البلنسيَّ، وابنَ طاهرٍ الأندلسيَّ، وابنَ الدباغِ، وأبا عميرةَ المخزوميَّ، وابنَ عبدالبرِّ، وعبدَاللهِ بنَ أبى الخصالِ، ولسانَ الدينِ بن الخطيبِ، من أهمِّ كتَّابِ الأندلس الذين حملوا على عواتقِهم قضيةَ الدفاعِ عن الوطن الأندلسي.
وتشير إلى تنوَّع نصوصُهم النثريةُ في سردِ صورِ وطنهم وقضاياه. وتضيف بأنه مع هذه الأهمية التي اكتسبَها الوطنُ لدى كُتَّابِه، فهو لم يحظَ بأيةِ دراسةٍ أدبيةٍ أو نقديةٍ عُنيت به، ولم يتطرقْ أحدٌ من الباحثين ولا سيما في مجالِ النثرِ الفنيِّ الأندلسيِّ بالبحثِ فيه، باستثناء بعضِ الإشارات التي وردت في صفحات ضمنَ كتابِ "الوطن في الشعرِ الأندلسيِّ.. دراسةً فنيةً" للدكتور عبدالحميد شيحة الأستاذ بكليةِ دارِ العلومِ جامعةِ القاهرة؛ ومن بابِ الرجوعِ بالفضلِ لأهلِه أوضحت الباحثة أن هذه الإشاراتِ كانت مُلهِمةً لها لاختيارِ موضوع دراستِها هذا.

بل وأضافت بأنها أفادت في جمعِ مادتِها العلميةِ من بعضِ الدراساتِ وأهمها: "رسائلُ ابنِ طاهرِ الأندلسيِّ النثريةِ وملامحُها الفنيةُ"، و"صورةُ الآدابِ السلطانيةِ في رسائلِ عبداللهِ بنِ عبدالبرِّ النثريةِ" للدكتور عبدالجواد شعبان الفحام، و"رسائلُ ومقاماتٌ أندلسيةٌ"، و"الرسالةُ الأدبيةُ" للدكتور فوزي عيسى.
وتذكر أنها ركزت في أطروحتها على فنِّ الرسائلِ، وبخاصةً السياسيةَ منها، وذلك لما تتمتعُ به تلكَ الرسائلُ من عرضٍ لصورةِ الوطنِ أثناءَ فترات الانتصارات والانكسارات التي مرّت بها الأندلسُ عبر مختلف العصور، وذكرت أن دراستها تسعى إلى جمعِ نماذجَ من بعضِ النصوص النثرية وتحليلِها ومقاربتِها واستنباطِ بعضِ المضامين السياسية والاجتماعية من ناحية، والوقوف على بعضِ المظاهرِ الفنيةِ من ناحية أخرى، بالإضافةِ إلى استنباط بعضِ المحسنات البديعية، وتوضيح أثرها في النص، مع إبرازِ صورة الوطن في مراحله المتعددة.
وقد اعتمدَت الدراسةُ على منهج تكاملي يجمع بين الاتجاه الفني في تحليلِ النصوصِ النثرية؛ مع الاستئناسِ بالمنهج التاريخي والإحصائي الذي تفرضهُ طبيعةُ الدراسة.
في مقدمةُ الأطروحة عرضت الباحثة الموضوع وأوضحت أهميته والأسباب التي كانت وراء اختيارِه، وأشهر الدراسات التي كُتِبَتْ فيه من قبل، ثمَّ عَرضت موجزًا للخطةِ.
وصدَّرتُ التمهيد بالتعريف اللغوي والاصطلاحيِّ للوطنِ، وعرضت للموقع الجغرافي لطبيعة بلاِ الأندلس، بالإضافةِ إلى تقسيم الوطن إلى: وطن (عام وخاصٍّ).
وجاء الفصلُ الأولُ بعنوانِ "الملامح التاريخيةُ والاجتماعيةُ والأدبيةُ منذُ عصر الطوائف حتى السقوطِ"، بينما جاء الفصلُ الثاني بعنوان "مضامينُ صورةِ الوطن في الرسائلِ الأندلسية"، وقد قسَّمته الباحثة إلى مبحثين: الأول بعنوانِ: الدعوةُ إلى الوحدة بين ملوك الطوائف، والآخرُ بعنوانِ: الاستغاثةُ بالمرابطينَ والموحدينَ.

Andalus
عُلا علي إبراهيم 

أما الفصلُ الثالث فضمَّنتُه "رسائلَ الغربةِ والحنينِ إلى الوطن"، ثمَّ قسمته إلى أربعةِ مباحثَ، الأولُ: منزلةُ الوطنِ في نفوسِ أهله، والمبحثُ الثاني: الغربةُ وسوء الأحوالِ الاجتماعية، والمبحثُ الثالثُ: دلالاتُ النفيِ عن الوطنِ والأهل وآثارِها، والمبحثُ الرابع: غربةُ الوطن والأهل.
وأفردت الفصل الرابع للحديث عن "البناء الفني لرسائل الوطن الأندلسي النثريةِ"، وذلك من خلالِ تقسيمِه إلى أربعةِ مباحثَ، الأولُ: تناولَ البناءَ الشكليَّ للرسائل الأندلسية، والثاني: خصصته للحديث عن طبيعة دلالات (الأساليب والألفاظ) داخل النصوصِ التي تناولت الوطنَ، والثالثُ: الصورةُ البيانيةُ والخيال، والرابع: جاء عن البناء الموسيقي داخل النصوصِ النثرية وما له من أثر في نفسِ المتلقي.
وفي الخاتمة قدمت أهمَّ النتائجِ التي توصلتْ إليها الدراسةُ، ومنها: تفننَ الكتَّاب الأندلسيون في إظهارِ عظمةِ وطنِهم؛ معتمدين في ذلك على التنوع البيئي الذي كان له بالغُ الأثرِ في الحياة الاجتماعيةِ داخل الأندلس الوطن: العام والخاص. ولقد استطاعت الدراسةُ أن تلقي الضوءَ على أبرزِ كُتاب النثرِ الذين تناولوا رصد العديد من صورِ الوطنِ في الأندلس بشتى أحوالِه وتقلباته السياسية منذُ عصر ملوك الطوائف وحتى سقوطِ غرناظة. كما عرضت الدراسةُ لبعضِ ملامحِ الإطار التاريخي والاجتماعي للوطنِ في الأندلس منذُ دولة الطوائف وحتى دولة بني الأحمر، من خلال عرض صورة الوطن داخل بعضِ الأعمالِ النثرية وبخاصةً فنَّ الرسائلِ. وقد احتلت الرسائلُ السياسيةُ، ورسائلُ الحثّ على الجهاد المرتبةَ العاليةَ في النصوصِ التي عَرضت لصورةِ الوطنِ، فأصبحت من أقوى أدواتِ التأثيرِ في الأندلسيين لإعلاء روح الانتماء لديهم. 
كما أشارت الدراسةُ إلى استخدامِ الكتاب لأسلوب قوي، من خلالِ استخدامِهم أدوات فنيةً معبرةً؛ فتنوعت الصور الفنية المحسوسة والمجردة لديهم، كما اعتمدوا على الاقتباسِ والتضمينِ من القرآنِ الكريمِ، بجانب توظيف ثقافتِهم الشخصيةِ التي عكست ما كان عليه هؤلاءِ الكتاب من إبداع وفكر رغمَ ما يدور حولَهم من أحداث جسام. وأشارت كذلك من خلال النصوص التي تناولت سوءَ الأحوال الاقتصادية إلى أنَّ الضيقَ المادي داخل الوطن الأندلسي كان أحدَ أهمِّ الأسبابِ التي أفرزت بعضَ الآفاتِ الاجتماعية كالتسولِ وغربة المدينين بينَ جدرانِ السجون خاصةً في العصرِ المرابطيِّ.