بنت البحر تكتب وتنسى

الكاتبة التونسية حفيظة قارة بيبان ترى أن الكتابة هي الولادة المدهشة المتجددة.
حفيظة قارة بيبان تتساءل: أي قدر ساخر رهيب يكتب هذه التواريخ التي تجمع الموت بالولادة
أرمي كل أرديتي وأتعرى لأمارس فقط حريتي على كتاب الصدق

بدعوة من النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر تزورر القاصة والروائية وكاتبة الأطفال التونسية حفيظة قارة بيبان (بنت البحر) مصر في الفترة من 20 إلى 28 سبتمبر/أيلول المقبل لمناقشة عدد من الروايات والمجموعات القصصية التي صدرت لها بين تونس والقاهرة، وأحدثها روايتها "العراء" الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مع مطلع هذا العام، وستكون المحاضرة الرئيسة عنها في هذه الندوة التي تعقدها لجنة العلاقات العربية باتحاد الكتاب المصري الناقدة الدكتورة رشا صالح.
وعن تجربتها الإبداعية وموقفها من الكتابة النسوية تقول بنت البحر:               
أكتب، وأنسى أني تلك التي استعارت اسمها من "البحر" يومًا، لتفر إلى براري الكتابة من عيون القبيلة.
أكتب، وأنسى أني تلك الطفلة التي كانت تشدّ ضفيرتاها جيّدا خلف ظهرها، وتلبسها أمها "ميدعة" المعهد الفضفاضة دومًا، حتى لا تبرز مظاهر أنوثتها للعيان. 
أكتب، وأنسى، لأن الكتابة هي الولادة المدهشة المتجددة، ولأن الكتابة هي دليل الحياة الواعية الوحيد لدي. 
قد يسّاقط شعري الطويل على ورقي.
وقد أكتب بشعري الرجالي المقصوص «قارسون»، وأظافري المقلمة حد الوجع وبنطال الدجين الداكن والقميص الثلجي الذكوري. 

سقطت اللغة! وتنفست العواصم العربية الخائفة الصعداء، واستعد الجميع لتقاسم الغنائم المغرية، فهل اقتسم أحد غنيمة حرب؟ أم اقتسموا معًا مر الذل وبطش المغتصب الذي سرق الحاضر وسرق المستقبل

ولكني أكتب بدمي.
أكـتب صـدقي ووجـعي.
أكـتب مـرضي وصـحتي 
أكتب لهفتي الدائمة إلى جرعة حرية، وركضي خلفها، وسقوطي نازفة محتضرة داخل الأسوار المتتالية المتتابعة في وطننا العربي. 
ومع ذلك، أكتب وقوفي من جديد وانبعاثي أقوى من الأول. 
أكتب، بأصابعي المتوترة، المرتعشة أحيانًا بمفعول القهوة المركزة المتتالية مرارتها في حلقي.
قد أترك عبير قهوتي النافذ على ورقي. 
قد أترك بعض عطري، أو بعضًا من حرارة الحريق.
قد أترك أضافري تنغرز في لحم كتاباتي.
ولكني أنسى، أنسى أني تلك التي التحفت بموج البحر يومًا فارة من القبيلة.
أنسى أني كنت الملعونة بأنوثتها.
أنسى.
لأني اخترقت أسوار القبيلة، ووقفت أمامها جنسًا جديدًا عنيدًا قادرًا يحيًا بسبعة أرواح.
وأنسى.
أرمي كل أرديتي وأتعرى لأمارس فقط حريتي على كتاب الصدق. 
فلم تظل تاء التأنيث تهمة تلاحقني؟
ولم تظل الكاتبات العربيات هاربات منها، متنفسات الصعداء حين يقال «تجاوزت فلانة كتابة النساء»،  أو  لا فرق بين كتابتها وكتابة أديب رجل»؟
أهو هروب من تاريخ كبلنا طويلًا في سلاسل الجواري والعبيد وطريقة لإلغائه من الذاكرة؟ 
أم هي طريقة مبتدعة لافتعال قضية على النمط العربي؟
وأذكر، في إحدى عشايا السبت البعيدة، زارنا بنادي القصة وفد من الأدباء السوفيات. وحول كؤوس الشاي الأخضر، كانت جلسة التعارف والحوار. وقتها، سأل أحد أعضاء النادي عن كتابات المرأة في "الاتحاد السوفياتي"، فأجاب أحدهم:
  - إنها لا تختلف من حيث القيمة عما يكتبه الأديب السوفياتي. فهي تكتب عما تشترك فيه مع  الرجل من مشاغل، كما تكتب عما يهمها بصفة خاصة.
كانت إجابته بسيطة، عفوية، لا تفتعل إشكالًا، ولا تلبس الرداءة أو الجودة كتابة دون أخرى وفق بروز الأنوثة فيها أو غيابها.
وأذكرك يا غادة السمان! 
وبومتك، شعارك، على كتفك، تحرس ليل غربائك، وأنت تسدلين شعرك المتمرد على ورقك، وترفعين القلم بين أظافرك الطويلة، وتكتبين بألوانك الباهرة المتوهجة. وتظلين رائعة، رائعة على الدوام، باعتراف أعدائك وأحبائك.
وأذكرك "يا بيرل باك" ! 
وأناملك الدقيقة مازالت ترسم على صفحات وعينا معاناة الأم مع «الطفلة التي لا تنمو أبدا»، ومعاناة النساء في جناحهن، وأتعابهن في ذاك البلد النائي الذي أعدتِ اكتشافه للغرب، وأعدتِ لخصوصيات حضارته الاحترام من خلال الإيغال في عالم المرأة الصينية والإنسان الآسيوي.
وأنت يا شاعرة العصور القديمة!. 
ما زال صوتك، باخنساء، يأتينا عبر نوافذ الزمن، نائحًا صادحًا بقصائد الفقد والغياب الفاجع.
... فهل تظل تاء المؤنث، دومًا، تهمة ومثار جدل في ذيل إمضائي؟ 

The Tunisian novel

ومع ذلك، أكتب.
أكتب، لأحيا.
وأختار لوني، أو يختارني.
قد أكتب بقطرات المطر الباردة في الصباحات المعتمة. 
أو بقطر الندى الراقص متلألئًا على أوراق الورد الراعشة.
قد أكتب بالنار المشتعلة في أصابعي، أو بفحم الحريق.
ولكن السؤال:
في أي لون شاهدتَ أوجاعي؟
أوجاع مدينتي ووطني؟
في أي لون قدرت على الإبحار معي في دروب كانت خافية؟
في أيّها وجدتَ متعة الخلق الجديد؟
وهل صدّتكَ تاء التأنيث التي ألحقوها باسمي عن ذلك؟
وأظل أسير ! 
وأظل أكتب، تاركة السؤال الدوامة، ناسية التاء"الخلخال" الذي يحيط برجلي.
وأظل أسير في دروبنا العربية الضيقة، أبحث عن دروب أوسع. أبحث عن سماء أرحب. سماء حقيقية، مفتوحة، لا يطلّ منها وجه الحاكم أو البوليس أو صاحب العمامة، ليأمرني بإطالة فستاني إلى الكعب، أو رفعه إلى الركبتين. ولا يرفع عصاه في وجهي لأعري شعري، أو أغطيه، ولا يذكرني بأن التاء في آخر اسمي يمكن أن تكون لعنة على أعتاب القرن الواحد والعشرين. 
وإذا جعلوها كذلك، إذا جعلوا أنوثتي لعنة، فكيف لا أغرس أظافري في وجوههم وعيونهم الكليلة؟ وكيف لا أكتب - لا لعنة الأنثى الأبدية - بل اللعنة التي تتابع الإنسان العربي ليواصل التوغل في كهوف ترديه، متشحًا بضعفه المأساوي. اللعنة التي تتابعه، وهو يغلق الباب بالمفتاح من الصباح إلى المساء على ابنة عمي الشابة المتزوجة في إحدى البلدان العربية، حتى يحفظ حق «الحريم» في الصيانة والتقدير!
اللعنة التي تتابعه، والزنزانات تتوالد وتتناسل لتبتلعه في غفلته، داخل وطنه، والمنافي تتكاثر وتتناءى ليهجّر ويشرّد رغماً عنه، بوعي أو دونه، ليضيع في المتاهات الجديدة باحثًا عن رقعة حرية، حتى ينعاه الوطن. والعالم يتفرج ساكنًا لا مباليًا، متلهيًا بمباريات كرة القدم.
اللعنة التي تتابعنا، وتواجهنا، لنهرع مع صفارات الإنـذار فارين متساقطين، نختبئ في الملاجئ كالجرذان. ونكتشف أننا محاربون في كل مكان، ودومًا، مفاجؤون بالهزيمة، فاقدون بوصلة الاتجاه، فنغرس رؤوسنا في الرمال؛ نخفي ذلنا وضعفنا وهواننا أو نرفع الرايات البيض باحثين عن بعض سلام مزوّر. 
فـإلى أيـن الـمفر؟!
إلـى أيـن؟
.. أركض .. من اللعنة، هاربة، عارية.
إلى براري حريتي.. إلي ورقي. 
وأكتب بدم العربي المحاصر دومًا في كل مكان.
بدمي النازف الحارق، أكتب فجيعة العربي في زمن الأقوى. 
قد ينهد شعري الطويل متعبًا على ورقي.
قد تنكسر أظافري وأنا أبحث عن حريتي في صحراء تيهي.
قد تبلل دمعة كاوية ورقي.
قد تغفو زهرة ياسمين مرهقة على حروفي.
ومع ذلك أكتب.
أترك صدقي يخطه نزف دمي.
وأنسى.
أنسى لوني وشكلي ونوع ملابسي،
لأني لا أرى إلا توهجي داخل الحريق.
أكتب.
وأنسى.
ترى، أحقًا، يوجد في آخر اسمي تاء تأنيث لأمضي رسالتي من داخل سجني العربي؟
أم أترك قلمي يرسم إمضاء العربي الساكن خلف السور العاشر داخل الوطن الزئبق؟! 
تشير الدلائل إلى أن حفيظة قارة بيبان تسعى بما أوتيت من قوة وإرادة وأمل إلى أن تقف في وجه اليأس وأن تصنع أملًا في سواد بهيم. 
وقد صدّرت كتابها "أجمل الفضائح"، الصادر في تونس عن الأطلسية للنشر بمقدمة وإهداء وسطر أو سطرين لمحمود درويش.
أما الإهداء فأرسلته إلى "وائل"، الذي تعرّفه بأنه سألها ذات يوم في غضب: "أليس الأدب فضيحة؟"، فتهدي إليه مع محبتها أدبها الذي هو بعض ذنوبها وأجمل فضائحها.

الرواية التونسية
بنت البحر

وأما التقديم فللتعريف بما يحتويه الكتاب من صدق وألم المعاناة والاعتراف في مواجهة الواقع المؤلم، ولهذا جاءت أسطر محمود درويش في تقديم أخير في قوله: 
"سأعترف
بكل ما اقترف الفؤاد
من حنين"
وهل الحنين يستحق الاعتراف أو يحتاج إلى جرأة وهو الشعور النقي المتدفق من حنايا النفس إلى حنايا القلب؟!
لكن يبدو أن الزمن قد تغير، ومعه تغيرت مشاعر الإنسان. وأقف أمام هذا الموضوع الأول الذي يجمع بين النسيج الشعري والحكي القصصي في مسرودة عنوانها: "من وداعًا حمورابي إلى دروب الفرار".
وتبدأ المسرودة بتاريخ محدد: التاسع من أبريل/نيسان سنة 2003، اليوم الذي تم فيه سحل الإرادة العربية، وقتل الحلم العربي؛ يوم سقط نظام مخيف لتعيش أنظمة هزيلة.
 هذا اليوم الكابوسي الذي انغرس كنصل حاد ساحق في القلب، 
قلب من؟ 
هي تتحدث عن ولدها الذي لم تره ولم يأتوا بجثته، ولكنها شاهدته مقطوع اليدين، محروق الجسد، يطل من شاشة من الشاشات البعيدة دون أن يجد من ينظر إليه بحنو.. بحب.. بكره.. بغل.. بانفعال.
لا أحد ينظر، فالكل قد سجن نفسه داخل الشقوق، ولم يبق إلا القاتل وما تبقى من جثة القتيل. الطفل البغدادي الذي قطعوا يديه وقتلوا عائلته كلها، ولم تبق له إلا عينان تنظران، وهو الميت، نظرة إدانة فاجعة نحو الشاشة، وكأنها إدانة لكل من ينظر إلى صورته.
مات الطفل وسقطت بغداد. وأنتجت كتابًا جديدًا هو طفلي الجديد هو كتاب "دروب الفرار"، فأي ولادة هذه ونحن نشيع في كل يوم قتيلًا أو شهيدًا.
يوم 9 أبريل/نيسان سنة 2003 (الموافق 7 صفر 1424ه) هو يوم عيد الشهداء ويوم ذكرى مذبحة دير ياسين، ويوم التبرع بالدم، ويوم دخول المغول بغداد بقيادة هولاكو في 7 صفر سنة 656ه المصادف 1257، هو يوم مولدي، ويوم مولد روايتي، فأي قدر ساخر رهيب يكتب هذه التواريخ التي تجمع الموت بالولادة.. الموت بالحياة؟!
سقطت بغداد أو ما يطلق عليها بالفارسية "جنة الله"، فانتشرت سرادقات العزاء في الدنيا.. سرادقات عزاء الجياع والمشردين والمقهورين.
بسقوطها انتصر الجبن على الشجاعة، وانتهى أحد الأحلام التي عاشها بعض العرب على أمل لم يتجاوز الحلم إلى الحقيقة. 
بسقوطها ازدادت الظلمة في العالم، وانحسر نور الأمل، وهرب المحار من البحار، ولم تبق إلا أصداف خاوية، ومعها سقوط الضياء، ودخول العالم في ظلمة البأس والبطش وضياع الأحلام تبقى كلمة السيّاب وهو يصرخ "عراق! عراق! ليس سوى العراق!
 فقد انتهت الحرب وسقط العراق!
وسقطت اللغة! وتنفست العواصم العربية الخائفة الصعداء، واستعد الجميع لتقاسم الغنائم المغرية، فهل اقتسم أحد غنيمة حرب؟ أم اقتسموا معًا مر الذل وبطش المغتصب الذي سرق الحاضر وسرق المستقبل، ولم يقبل أن يترك لنا الماضي نحتمي به، فسرق التاريخ، ونهب التاريخ الموضوع في المكتبات.. والتاريخ الموضوع في المتاحف.. تاريخ الإنسان منذ شريعة حمورابي، فهل انتهى حمورابي؟
وهل قُتلت بغداد كما قُتل الحلاج؟ 
أم في مقتلها يقظة جديدة كيقظة طائر الفينيق الذي يحترق ثم ينهض من رماده من جديد محلقًا في أجواز الفضاء؟