تأجير العقول.. كيف تستلب الجميلات عقولنا!

ليس هناك فكرة حياتية مقدسة غير قابلة للنقاش والتغيير، إلا فكرة الوطن الذي لا يخضع للتأويل والتأجير!
جل اهتمام كارنجي أن يذكرنا بكيفية تأجير عقولنا للآخرين، ممن لهم القدرة على شرائها مرة بالمال، ومرة تحت ضغط العقائد والأيدلوجيات
الكاتب الأميركي قدم في مؤلفه "التفكير المتعمد" مجموعة من المسلمات لكيفية رضوخ الانسان لفكرة تأجير العقل البشري

شجعنا أستاذ الإعلام والاتصال، والخبير في مكنونات لغته وعلومه الدكتور ياس خضير البياتي على الكتابة عن موضوع غاية في الأهمية وهو: "تأجير العقول"، الذي حول نظرياته الكاتب الأميركي الكبير ديل كارنجي إلى كتاب فريد من نوعه وطريقة عرضه والاختراقات المهمة لمكنونات العقل البشري التي ضمنها في كتابه الرائع: "التفكير المتعمد"، ربما غطت حتى على نظريات كبار علماء النفس في تحليلاتهم عن سمات الشخصية، وأساليب تحليل مكنوناتها والكشف عن أنماط سلوكها، وما يعانيه العقل البشري من مرحلة "إستلاب" عندما يتم "تأجيره" للآخرين ممن يتسلطون على مقدراتنا أو يوهموننا بقدراتهم على استلاب عقولنا، ومن ثم انقيادنا (الأعمى) لما يريدون فرضه علينا لنكون أشبه بالببغاء نردد ما يودون عرضه على الجمهور من نظريات وأنماط تفكير خارجة عن إرادتنا!
لكن النقطة الوحيدة التي لم أجدها بين ثنايا ما عرضه هذا الكتاب القيم من أفكار هو كيف تستلب الجميلات ومن يدخلننا في مرحلة العشق السرمدي عقولنا أيام الصبا، وهن يقلبن أجسانا ذات اليمين وذات الشمال، وكأننا (سمك لذيذ) عندما يتم شويه على نار هادئة!
كان جل اهتمام كارنجي أن يذكرنا بكيفية تأجير عقولنا للآخرين، ممن لهم القدرة على شرائها مرة بالمال، ومرة تحت ضغط العقائد، والايدلوجيات، ولم يذكر الكاتب الأميركي، ضمن كتابه، كيف كان عشاق الزمن الجميل يعانون من مرحلة "إستلاب العقول"، وتسليم مقدراتنا لمن سلبن العقول، حيث تشل الجميلات قدرتنا على التفكير ونجد أنفسنا ونحن نجهد أنفسنا في تقديم القرابين لمن نقع في غرامهن أو سحر عيونهن، وما يخبئنه "حور العين" تحت الصدور من كواعب أترابا!
وتتطلب مرحلة "العشق المتيم" إستلاب قلوب الأحبة وكيف يضطر الشبان في أيام الصبا، للانقياد لحبيباتهم، والتوسل إليهن، وتنفيذ ما يطلبن من أمنيات، حتى وإن اضطر العاشق إلى أن يجلب الحبيب القمر ليضعه بين يدي الحبيبة ليكون بمقدورهما أن يسكنها على أرضه، ويقيما "جمهورية العشق الأفلاطونية" على هذا الكوكب الجميل!
وبعد أن طرحت تلك التساؤلات التي لم تتضمنها أفكار ما طرحه الكاتب الأميركي ديل كارنجي من وجهات نظر مثيرة بشأن "تأجير العقول" لأضع بين أيديكم رؤى الخبير بشؤون العلاقات العامة على مستوى دولي، وما أشره من جملة تصورات عن أساليب "تأجير العقول" وكيف يكون أغلب أبناء الجنس البشري يقعون تحت ضغط جماعات أخرى، وهي من تحكمت فيهم، تحت ضغط الحاجة أحيانا، وفي أخرى تحت أنماط التفكير الجمعي للجماعة التي ينضوي الفرد تحت لوائها ليجد نفسه وهو يعيش مرحلة وكأنه خارجة عن إرادة الإنسان، ولهذا تجد أغلب عقولنا وفقا لنظرية كارنجي أنها (مؤجرة) للآخرين، لأصحاب الأموال والعقائد والنظريات السياسية ولأصحاب السلطة ورموزها، ولرجال الدين الذي يسعون لفرض رؤاهم علينا، وما غالبية البشر إلا أدوات يتم تأجير عقولها لتقدم الخدمة لهؤلاء بما يمكنهم من الاستحواذ على مراكز السلطة والقرار، وفي أن يكونوا هم فوق مستوى البشر، تصل بالبعض منهم حد التأليه للآخر، والخضوع لإرادته دون مناقشة، وأحيانا لا يمتلك الفرد القدرة على رفض الخضوع لهذا الآخر، ويعد من يخالف نظرياته أو توجهاته من قبيل الكفر والإلحاد والخروج عن قيم المجتمع، ويعد أحيانا خارجا عن القانون!
وقد قدم الكاتب الأميركي في مؤلفه الشهير "التفكير المتعمد" مجموعة من المسلمات لكيفية رضوخ الانسان لفكرة تأجير العقل البشري، الذي يقوم على استنتاج مهم، يتلخص  بصعوبة  التحكم في عقولنا إذا كنا لا نملكها، لأنها مجرد أجهزة  تسكن بـ الدور العلوي من أجسادنا، وتم تأجيرها للآخرين للتحكم بها.. وتتمثل أولى تلك المسلمات أو العلامات الخمس في العقلية المؤجرة. الأولى، التسليم بمسلمات غير القابلة للنقاش، والتي تبنى على فكرة "بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون"، وهذه تعد من أبرز علامات العقلية القابلة للتأجير الذي ينتهي بـ التمليك!
أما السمة الثانية في كيفية تأجير العقل البشري - بحسب كارنجي - من خلال استخدامها لقواعد وافتراضات غير منطقية، بل ومبنية على اجتهادات شخصية وضعها الآخرون لنا، حيث تم تأطير حياتنا وعقولنا بقوالب جاهزة من صنع غيرنا لا نستطيع الخروج منها، فنتوهم أننا نفكر، ولكن في الحقيقة نحن نفكر داخل حدود ضيقة يصعب الخروج منها.
أما السمة الثالثة من وجهة نظر كارنجي أن لتلك الشخصية القبول بمبدأ "تقديس للأشخاص"، ولديها تفضيل لبعض الشخصيات والجماعات الذين يستأجرون تلك العقول بالمجان ومدى الحياة، لأنه يستحيل عليها مخالفة تلك الشخصيات والجماعات، وتتحول إلى عقلية قائمة على النسخ واللصق، وتقديس المنقول دون تحليل ونقد من باب قدسية أصحابها.

التاريخ علمنا حكمة تقول: ليس هناك فكرة حياتية مقدسة غير قابلة للنقاش والتغيير، إلا فكرة الوطن الذي لا يخضع للتأويل والتأجير!

أما السمة الرابعة فتتمثل من وجهة نظر كارنجي في الإخلاص للتفكير الجمعي بحجة تماسك الجماعة، وبسبب الضغط الملح على التوافقية يقوم الفرد بتأجير عقله، ويخفي صوته حتى يتوافق مع صوت الجماعة، وهو ما يشاع اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في تأجير العقل لصالح التوجه الافتراضي الجمعي!
أما السمة الخامسة فأحكامها فورية وانطباعاتها قطعية بسبب كثرة الموروثات حيث تصبح لدينا عقول مؤجرة تصدر أحكاما فورية مبنية على أحكام مسبقة، لتحول الاعتقادات إلى عقائد، والعادات المجتمعية إلى انطباعات وقناعات قطعية، فتصبح الأحكام والقرارات تحت تأثير سلطة الموروث لا سلطة العقل العلمي!
وأهمية الكتاب من وجهة نظر الدكتور ياس خضير البياتي تكمن في انطباقه على الكثير من سلوك النخب العلمية والثقافية، وأصحاب الفكر الثوري المؤدلج، والرأي الاستبدادي، وجماعات الإسلام السياسي المحكومة بنصوص الأفكار المتطرفة التي تشترك جميعها، بصفات جمود العقل، وضمور النقد، وأدواته المعرفية، والركون إلى الموروث الديني التقليدي، والزمن الساكن، وكلها مخرجات لا تخرج من فكرة المراوحة الفكرية، وقمع التعددية، وشيوع اليقينيات الساكنة، وتمدد تمظهرات التأدلج الناتجة عن آثار الفكر المنغلق، وانحسار تنويعاته!
ويضع لنا الدكتور ياس خضير البياتي جملة ملاحظات بشأن الخلاص من تحكم تلك الظاهرة والتخفيف من استلابها لعقولنا، ويشير إلى أنه يشعر بالقرف اليوم عندما يقرأ في وسائل التواصل الاجتماعي، وكروبات الثرثرة والبيانات الثورية، لغة تخوين الآخر، لمجرد رأي مخالف أو متجدد، وقتله بسكين الماضي، والاستبداد بعدم قول الحقيقة بحجة الحفاظ على المقدس، ورفض إزاحة الراكد، وإلغاء التفكير النقدي الإبداعي في الحوار والرأي، وتثوير النفاق الوطني بين ما يكتبه البعض علنا، وما يقال سرا في مجالسهم السرية، ومحاولة تنشيط زمن الجاهلية بهدف خنق أصحاب الرأي المستنير الذين يدافعون عن الوطن جهارا بأسمائهم الصريحة، بينما البعض يتحول إلى قنفذ سياسي يخفي رأسه خلف ساتر الكذب والخداع في حروب الرفاق والأصدقاء. 
والتفسير الاجتماعي لما يحدث أننا مازلنا مصابين بمرض السادية والماسوشية بفعل تقلبات أزمنة الظلم والكوارث وفواجع التاريخ، والانفصام بين الحنين للماضي، والتردد في فهم الحاضر، أنها شخصية التسلط والقمع والانفعال والتغلب والنكوص والنرجسية والازدواجية!
ويخلص أستاذ الإعلام د. ياس خضير البياتي في عرضه لنظريات الكاتب الأميركي كارنجي إلى جملة ملاحات مفادها أن الحياة تتسع للجميع، والاختلاف شيء طبيعي، وتنوع الألوان يُعطي جمالاً لها، وكثرة ضوابطها تشل حركة الإنسان، وقبولنا للبعض قوة وحكمة سواء اتفقنا أم اختلفنا، ويضيف: ليس شرطا أن نقتنع بما يقتنع الآخرون، وأن نرى ما يرونهم، وما يصلح لنا قد لا يصلح لهم، والتسرع في الحكم على أفكار الآخرين سذاجة وجاهلية، لأن معرفة الناس هو للتعايش معهم لا لتغييرهم. وهو يؤشر لنا جملة ملاحظات لأساليب التعامل مع البشر ومع المحيطين بنا للتأكيد للآخر: "أنا لست أنتَ، وعليك أن تقبلني كما أنا حتى أقبلك كما أنت. المهم من وجهة نظره، أن نتحاور وعقولنا مستقلة وغير مؤجرة للآخرين!
وفي ختام مقاله القيم يؤكد البياتي: لقد حان الوقت أن نعمل قسطرة لعقولنا، كقسطرة القلوب، لكي نتخلص من تصلب شرايين الماضي لتوطين المستقبل في عقولنا، واستيعاب فكرة أن عقل الإنسان مصدر الحكمة والتبصر وهو أعدل قيمة بين الناس، كما يقول ديكارت، وإلغاء عقود إيجار عقولنا لمن خربوا أوطاننا، واختزلوا وجودنا بقدسية فرد أو حزب أو جماعة أو عشيرة، والتوقف عن تخوين الآخرين لمجرد رأي مخالف، وفكرة تتعارض، لأن التاريخ علمنا حكمة تقول: ليس هناك فكرة حياتية مقدسة غير قابلة للنقاش والتغيير، إلا فكرة الوطن الذي لا يخضع للتأويل والتأجير!