تجليات التحليل النقدي الإبداعي

أسلوب التحليل النقدي للأعمال الإبداعية الروائية والقصصية للناقدة رنا صباح خليل، يعد من أروع الاعمال التحليلية.
رنا صباح خليل يبدو أنها متخصصة في العمل النقدي الروائي القصصي، بالرغم من أنها لم تنشر صورتها حتى الآن
الجانب النفسي يأخذ الكثير من مضامين النقد لدى رنا صباح خليل

يعد أسلوب التحليل النقدي للأعمال الإبداعية الروائية والقصصية، للناقدة رنا صباح خليل، من أروع الاعمال التحليلية، وأكثرها قدرة على استمالة القراء والمتابعين للعمل الإبداعي الثقافي والأدبي، وهي تجمع بين التحليل الفني والنفسي بطريقة تجعل المتلقي يتلهف للدخول في تفاصيل هذا العمل الإبداعي، وربما تيسر عليه مهمة القراءة، ويكون قد أوصلت المتابع إلى مبتغاه ودون عناء!
الناقدة رنا صباح خليل واحدة ممن ولجن هذا الموضوع الحيوي والمهم، من خلال تحليل مضامين روايات نالت اهتماما كثيرا من القراء، ووجدت في روايات الكاتب والروائي والصحفي القدير أمجد توفيق مبتغاها، لتطل علينا بلغة تحليلية ساحرة ومبهجة، وتنتقي مفردات وصورا بلاغية وثيمات ومضامين تبدأ إنطلاقة انبهارها بها، من عنوان العمل الروائي، ومن ثم المقدمة والفصول المتتابعة، وهي تدخلك بأسلوبها النقدي الساحر المحبب، وكأننا أمام ثراء فكري ونفسي وقيمي وفني كبير، تحيلك كل كلمة فيها إلى دلالات متعددة، لم يفكر حتى الروائي نفسه أن مقاصده ربما كانت وفقا للطريقة التي تعرض بها مضامين ودلالات العنوان وشخوص الرواية وترابط وتشابك فصولها، وما تهدف إليه من مضامين غاية في التصوير الفني النقدي الإبداعي، وتبدو وكأنها أمام راو من النوع المحترف، تريد تحويله إلى "بطل إسطوري" أطل علينا من روايات دخلت في مراحل الأساطير والرموز، وهي تحتاج إلى من يفك طلاسمها، ويعرضها بأسلوب شيق، يسهل فهم مضامين الرواية وكيف تجري عملية تقسيم الأدوار بين الشخوص!
وتبدو الناقدة والكاتبة المبدعة رنا صباح خليل متخصصة في العمل النقدي الروائي القصصي، بالرغم من أنها لم تنشر صورتها حتى الآن، ليتعرف الآخرين على جوانب من شخصيتها، وترى كتاباتها تتعدد وتتوزع بين المواقع الإخبارية والمجلات الثقافية والأدبية، وهي تتتاول هذا العمل الإبداعي أو ذاك، وتعطيه حقه من الاهتمام!
من روائع ما يمكن أن يدخل في الجانب التحليلي لتلك الناقدة، أنها تختار كلماتها، وتبدو حروفها تتراقص أمامك، وتسير في انسجام وتسابق مع الزمن، في القدرة على التعبير عما تطرحه من تفسيرات وتحليلات، يأخذ الجانب النفسي الكثير من مضامينها، وإن لم تتخل عن تجليات العمل الفني القصصي والروائي ومتطلباته، لكنها، تبدو أمام المتلقي وكأنها تنحت كلماتها من بين الصخور، وتغوص في أعماق البحر وتستخرج منه لآليء ودرر، ثم تستقل مركبا فضائيا لتطير إلى أعماق الفضاء، ومن ثم تستطلع كنوز الماورائيات، وهي تغلف سطورها التحليلية بما استطاعت اختراقه من عمق اللغة وجزالة المعنى وبساطة المضمون، وهي المتمكنة من نفسها ومن أدواتها، وتظهر بين السطور التي تغترف من معانيها الكثير أنك أمام ناقدة ليست سهلة، وقد توغلت كثيرا في عمق المعاني وغزارة الألفاظ، وكأنها تضعك أمام "سبيكة ذهبية" هي من وضعتها على النار، ومن ثم استطاعت ترويضها لتتخذ أشكالا فنية مبهرة، حتى تبدو الكلمة أمامك وهي تتزين بجماليتها وعطرها الفواح، وتبدو وكأنها رشيقة القوام، مثل غزال سحر ناظريه، وهو يسبر أغوار الصحراء بحثا عن بقايا عشب أو ماء يروي ظمأه، وهو يرى الأخطار تحيط به من كل حدب وصوب، والفرسان يتحينون الفرص للإيقاع به، أو كحديقة غناء أحاطت به الأشجار المثمرة من كل جانب، وكأنك في إحدى جنات عدن!
ويبدو انبهارها بمضامين رواية "الساخر العظيم" للكاتب أمجد توفيق حد الوله بالأسلوب الساخر الذي طبع أسلوب الرواية على مدى صفحاتها التي تجاوزت الستمائة وستين صفحة  فتقول: "ما الذي يفعله فينا الساخر العظيم! حين لا يتركنا بسلام ونحن نجابه لعنة البوح بلا حواجز، أجد صدى قهقهاته رنين طبل في مأتم، وهو ينظرني أنا التي لا أعرف كيف أقارع وحش رتابة أيامي بسطورها السليطة علي، ولا أجيد اختراع ضوئي الخاص كي أبدد شرارات الكآبة في عالمي، فالساخر العظيم يترصدني ويستخف بي ويزجني في حرائق ضحكاته الهستيرية التي تطيل فيّ أزمنة هواء فاسد .. أزمنة صفراء لا أتمكن فيها من اقتناص سنيني أو حتى ابتكار مساءات متأهبة لصناعة النهار بملامحي، كي أرتشف فيه كوبا لأفكاري ونواياي، إذ لا يبيحها الساخر العظيم، فجميعها ليست من طقوسه وتعاليمه وهو المعلم الوسيم حدّ القبح .. هو يريدني دوما أن أصيب اليقين بقلبه، وأمارس الوجع بلفه بخرقة، لكنه لا يعلم أني مصابة باقتراف الأحلام خلسة وعلانية وهو لا يعلم أن لي سياطا تنادي في جلبة الروح أن العذاب خير من الغفلة، والغرق أرحم من الطوفان دون مجداف والطمأنينة بالنسبة لي منفية .. أصرخ في وجهه أيها الساخر العظيم. "

ما يثير الارتياح والإعجاب الكبيرين، لدى تلك الناقدة أنها تستخرج كلماتها من خزينها المعرفي المتدفق غزارة في اللفظ والمعنى، وتجمع بين الجناس والطباق وتبحث عن صور البلاغة اللغوية بين السطور ودلالات الرموز وتعبيرات شخوص الرواية وأبطالها أو بطلها الرئيس، لتحلل تفكير ورؤى كل واحد منهم، وهي تدخل في أعماق الراوي وكأنها تريد أن تكون ربما (بديلا) عنه، أو تتفوق عليه في اختيار الرموز والمصطلحات، وتجعلك تشعر أنها تدخلك قصور السلطة وأبراجها العاجية، وتستشف عبير ووهج كلماتها المبهرة والمتعمقة في دلالات النص ومضامينه. 
وكانت روايات الكاتب أمجد توفيق وبخاصة روايتي "الساخر العظيم" و"طفولة جبل" وكأنهما لغة حب غاصت في الوجدان وتعمقت بين ثناياه، وتتركك تتابع كل كلمة وسطر وثيمة تقف عندها، وتطمع بالمزيد مما تفيض عليك من مخزونها الفكري والإبداعي والقيمي والفني، وكأنها هي "الراوية الأكبر" ليس رغبة في إعلان طغيانها ودكتاتوريتها وقدرتها الفريدة على تشخيص دلالات الرمزية الموغلة في تقبل التفسيرات المختلفة، ولكن لتضعك في صورة أن العمل الإبداعي عندما يرتقي إلى تلك المنازل، فإنه يحتاج إلى لغة ورموز وحروف تتلاعب بمفرادتها، حتى يكون العمل السردي قد اكتمل نضجه، وحان وقت قطاف ثمار إبداعه!!
وهنا سأعرض نموذجا من تحليلها الفني والنفسي لرواية "طفولة جبل" فتقول: "أما فذلكة السارد فتتجسد لنا في إثبات الفكرة الشائعة لدى الطرح الإسلامي عن طريق رضوخ بارق وتقبله لممارسات مريم الجنسية معه على اعتبار أن المرأة هي صاحبة الغواية الأولى التي تسببت في النزول من الجنة، وكأنه يريد أن يطلق العنان لحواسه كي تكتشف وتفهم السر وتحلل النتائج، وهذا لم يأت صراحة في النص إنما نستشعره عندما نتشرب طريقة عرضه من لدن الروائي ودوال ومؤشرات الجمال الذي يكتنف صوغ الفعل في الممارسة الجنسية التي تبتديء باستعارات تناغي المسافة ما بين غصنين يتسرب من خلالها ضوء الشمس لينعكس على ثدي مريم وجزء من ساقها وشعرها وهي نائمة في الكوخ الذي يسكنه بارق"!!
ربما كان الروائي والكاتب أمجد توفيق محظوظا، لأن ناقدة بهذا المستوى المتألق، رهنت نفسها، لأن تغوص بعيدا في أعماق رواياته، وتجد فيها ضالتها، في إضفاء كل تلك الهالة السحرية بدءا من عناوين روايته التي يختارها بعناية وحتى فصول الرواية وتناسق شخوصها وأدوارهم المميزة والتي تمثل كل منها حالة إبداعية متقدمة في الوعي الفني والتحليل النفسي الذي أجادت تغطية نظرياته السلوكية، وكأنها عالم نفسي قبل أن تكون ناقدة فنية، ويمكن أن نمنح المتتبع بعض ما جرى اختياره من مضامين مقالها السردي للتدلال على ما أشرنا إليه من رموز ودلالات معرفية وسلوكية غاية في الأهمية.."   
"عند تَلَقينا لرواية طفولة جبل للروائي أمجد توفيق كانت أولى غوايات القراءة لدينا متمثلة بعنوان الرواية فهو البوابة التي تمنح قارئها ترحيب الدخول لكشف المخبوء وسبر أغواره، وعلى حد قول رولان بارت" إن العناوين عبارة عن أنظمة دلالية سيميائية تحمل في طياتها قيما أخلاقية واجتماعية وايديولوجية وهي رسائل مسكوكة مضمنة بعلامات دالة مشبعة برؤية العالم يغلب عليها الطابع الأيحائي"!!
ثم تستعرض لنا تلك الناقدة الأنيقة الرشيقة الكلمات جمالية مضمون رواية "طفولة جبل" والعنوان ومدلولاته وكيف يتحول إلى العنوان "طفولة جبل" إلى دلالات تلك الثيمة ومغزاها الفلسفي الرومانتيكي البعيد حيث تقول: "والراوي يساؤلنا كيف يفكر الجبل؟ وما الذي يمنحه الانتماء؟ وتلك تساؤلات تضفي على النص مسحة من التأمل والانبهار إن تماهينا مع فلسفتها وطريقة الكاتب في طرحها بأسلوب رومانتيكي فلسفي ففي صفحة 13 من الرواية صخرة صغيرة .. صخرة كبيرة.. صخرة عملاقة .. هي أحاسيس الطفل في توحده مع شقيقه الجبل .. كيف تتفتق الصخور؟ قطرات من ندى تفتت الصخرة من العمق إلى العمق.. هل يعني ذلك افتقاد الصلابة أو التماسك؟ إنه لا يعني غير الاحتفال. غير القدرة على الحب. 
ومن ثم قام الروائي بتقليد الجبل مقاليد الراوي المشارك للراوي العليم، وذلك ندركه عندما نكمل قراءتنا لرحلة الراوي، وأظن أن تلك طريقته فقد جعل من الزمن في روايته (الساخر العظيم) أحد الشخوص البارزين الذين كانوا يشاركون الراوي ويدلون بآرائهم وأحكامهم".
إنها سطور أردنا أن نعرف بها هذا الوله الإبداعي بمضامين روايات عشقتها، الناقدة رنا صباح خليل، وخصصت لها جزءا كبيرا من اهتمامها، لأنها تدرك في قرارة نفسها، أنها بانغماسها في هذا العمل الفني الإبداعي الكبير، فأنها تقدم للقاريء غذاء روحيا وفكريا وفلسفيا ومعرفيا، يشوقه لقراءة المزيد، وإن توصل إلى المتلقي فكرة أن عملا روائيا كبيرا بهذا المستوى من الحبكة الروائية يستحق أن يدخل مرحلة الخلود في العمل الإبداعي، وهي تشجع من يغوص في أعماق تلك الروايات ويسبر أغوارها أن يعطيها حقها من الاهتمام!