تخب بنا الناقة .. نحو المؤتمر

أقصوصة آمنة الوسلاتي الرميلي تختزل معاناة المرأة الممتد عبر قرون وأجيال في مجتمع ذكوري ينظر فيه الرجل إلى المرأة نظرته إلى متاع.
الأدب هو إعطاء معنى للإنسان وللعالم وتعميق للحياة وللوجود
الحكاية في أقصوصة آمنة الرميلي "تخب بنا الناقة.. نحو المؤتمر" تبدأ على لسان طفل (هو السارد الشخصية)

لماذا نقرأ القصة؟
لماذا نحبّ الحكاية والحكي؟ الحكاية .. تلك التي ترويها الأم أو الجدّة في سالف الأيام، ونتلقفها اليوم عبر وسائط أخرى منها الكتاب أو السينما والتلفاز، تتشكل سردا في خبر سياسي اجتماعي أو تاريخي، أو نتلقفها مشافهة عبر ما تبثه أصوات عديدة في محيطنا القريب العائلي والاجتماعي، تنقل القصة، تضيف إليها، تجمّلها تضخّمها، تعيد صياغتها وفق منظورها، لكننا مستعدّون دائما للإصغاء إليها وربما لإعادة تشكيلها من جديد.
قد نجد الجواب في نظريات عديدة بحثت في وظائف الأدب والفن عامة. فقد نحا بعضها إلى تأكيد فعاليته الاجتماعية وما يحدثه من تغيير في المجتمع. ورأى بعضها الآخر أن يزاوج بين ما يحققه الأدب (القصة مثلا) من وظائف جمالية (متعة المتلقّي) ونفعيّة (معرفة الذات والعالم). أما الناقد الفرنسي تودوروف في كتابه الصادر سنة 2007 "الأدب في خطر" وبعد محاورته عددا من المناهج النقدية وتقليب النظر في نظريات الأدب فيجيب عن السؤال قائلا "لو ساءلت نفسي اليوم لماذا أحبّ الأدب، فالجواب الذي يتبادر إلى ذهني هو: لأنه يعينني على أن أحيا".
إن الأدب يحقق لنا إمكانية التفاعل الخلاق مع الآخرين، ويجعل العالم أجمل وأكثر امتلاء بالمعنى. الأدب هو إعطاء معنى للإنسان وللعالم وتعميق للحياة وللوجود. ولذلك فقراءة القصة لا تكتمل في معناها العميق إلا إذا كانت تفاعلا مع النصّ. وتتلوّن أشكال التفاعل  فتتجسد إعجابا، كرها، لذة، بكاء أو ضحكا، تساؤلا وحيرة.
ما تحدثه فينا القصة (والأدب عامة) هو أنها تساعدنا على فهم ذواتنا وفهم الآخر لنحيا، لنرى العالم من زوايا جديدة. ربما تجعله أجمل وأفضل، حتى لو كانت القصة مشحونة ألما وقبحا.

هل تجاوزنا حالة التمزّق والتردّد التي عاشها "الصبيّ" في القصّة ويعيشها الطفل في ذواتنا: التمزق بين انجذاب إلى تراث بدويّ صحراويّ، وبين شوق إلى عالم أفضل وآت أجمل لأنه يقوم على قيم كونيّة تتحقق بها إنسانيّة الإنسان؟

الأقصوصة التي سنختبر من خلالها صحّة هذا التصور هي أولى الأقاصيص في مجموعة آمنة الرميلي الوسلاتي "سيدة العلب" وعنوانها هو "تخب بنا الناقة... نحو المؤتمر". تختزل الأقصوصة معاناة المرأة الممتد عبر قرون وأجيال في مجتمع ذكوري ينظر فيه الرجل إلى المرأة نظرته إلى متاع. المرأة تبدو في القصة جزءا من مكونات خيمة ينيخ عندها الرجل راحلته لينفض التعب دون أن يكلف نفسه عناء التواصل معها. المرأة في القصة صامتة أمام زوجها. لكن الابن يفضح الإهانة التي تعيشها الأم "لماذا لا يكلمك أبي؟". بل هو يدعوها إلى الفعل، إلى تحدي وضع الاستكانة والصمت ورفضه صارخا: "لا تتركيه يرحل".
تبدو الصورة مفارقة لراهن الكتابة حيث افتكت المرأة اليوم – ظاهريا - حقها في الوجود وراهنت على إثبات قدرتها على تحدي المستحيل. لكن الكاتبة تصوغ من واقع المرأة وراهنها مشهدا مختلفا. هي صورة قبيحة ومؤلمة موشومة في ذاكرتنا ولاوعينا. أو هي كابوس يلازمنا ولا نستطيع الفكاك منه.
تبدأ الحكاية في أقصوصة آمنة الرميلي "تخب بنا الناقة.. نحو المؤتمر" على لسان طفل (هو السارد الشخصية) يصف حدث قدوم الأب وعودته بعد رحلة طويلة في الصحراء، رحلة بعيدة وغامضة، مشهد سفر متكرّر. يصف الأمّ، صمتها وحزنها. وهو ما يحفر في أعماق الصبي وجعا يكبر ويتنامى مع الزمن، ينوء بحمله فيصرخ في وجه الأمّ أوّلا، ثم في وجه الأب. ويكبر الرعب ويشتد الغيظ حين يضطر الجميع إلى قلع أوتاد الخيمة، ليتولد المشهد الثاني حيث نشهد بداية رحلة أخرى يركب فيها الأب الناقة مع ابنه في حين تتابع الأم خطى الناقة مترجّلة. الأم تنحني وراء الناقة في اتّجاه الأرض وتكاد تسقط فيصرخ الصبيّ بحرقة من جديد في وجه الأب: "انزل لتركب أمي".
تتعالى الصرخة ويكبر الوجع فيستفيق السارد (الصبيّ/ الكهل) ليكتشف معه المتلقي أن الحكاية لم تكن سوى حلم مزعج بل هي كابوس يتكرّر كل يوم. ورغم صوت الزوجة في القصّة يستدعي زوجها (السارد الكهل) إلى عالم اليقظة والانخراط في الحاضر استعدادا لمحاضرة سيلقيها في المؤتمر؛ يظل صوت الصحراء البعيدة ووهجها اللافح يضجّ في داخله يمنعه من فهم الحاضر والاستفاقة. صوت الماضي ومشهد الأب يركب الناقة والأم تلهث وراءهما كان أقوى وأعمق أثرا.
وتنتهي الأقصوصة بإطلاق السارد (الزوج) بعد انتهاء الحلم صرخة ثانية، بعد حوار قصير مع  الزوجة (أو استعارة الأم) التي نراها ذاهلة تفكر، قائلا: "لا تنظري إلى الأرض".
في إغواء السرد ومكر الكتابة:
لقد استدعت القاصة آمنة الوسلاتي الرميلي مكونات المشهد الأول وأحداثه من واقع عربي أصيل وإن بدا بعيدا (نسبيا) عن راهن الكتابة، وزاوجت بين الماضي السحيق (عالم الصحراء والبداوة، الناقة مطيّة تكتسح الفضاء) ومكونات حاضر قريب منا في المشهد الثاني (الغرفة، السرير، الهاتف، المؤتمر...) لتشيد عالما تخييليا قد يكون أكثر صدقا من الواقع.
تحررت الكتابة من سلطة الأسلوب المباشر والتقريري لتطوّع أساليب الغواية الجمالية تستنفر بها شعرية الصورة وبعض آليات السينما وتقنياتها. تصوغ الكاتبة الحكاية في لقطات سينمائية فتتشكل الصورة عبر عين الكاميرا (الرائي/السارد) تقرّب وتباعد، تختار اللقطة الدالة الموحية تكبّرها أو تصغّرها، تعيد تركيب المشهد بعد تجميع الأجزاء.
وهو ما يسمح بقراءة القصة في حركات / لقطات ثلاث أساسية:
1-     لقطة أولى: تحتل فيها الصحراء الشاسعة الفضاء قبل أن تبين في الصورة كتلة الأب القادم من بعيد في السراب، صورة أمّ وصبيّ ...الأمّ في حالة صمت حزين، الابن في غضب حائر، الأم تنظر إلى الأرض (يتخلل المشهد استدعاء لأحداث مشابهة تتكرر في الزمن هي سفر الأب ثم عودته، انتظار الأمّ عودته أمام الخيمة ...).
2-     لقطة ثانية: بعد إعلان الأب قرار الرحيل  نلحظ بكاء صامتا للأم، ثم غضب الابن، وحركة انحناء الأم نحو الأرض وهي تكاد تسقط، ثم ركوب الأب والابن الناقة ليعلو إثره صراخ الابن في وجه أبيه "انزل لتركب أمي".
3-     لقطة ثالثة: في فضاء منغلق هو غرفة  النوم حيث يحاول الكهل (الصبي سابقا) أو الزوج حاليا التخلص من حلم مزعج، والزوجة (الأم سابقا) تدعوه  إلى اليقظة وتذكر بالواقع والراهن. لكنها تنظر في النهاية إلى الأرض، لتعلو صرخة أخرى للكهل (الصبي): "لا تنظري إلى الأرض".
هي صور خام تلتقط من زوايا ومواقع مختلفة وفضاءات متقابلة (اتساعا وضيقا – انفتاحا وانغلاقا – ماضيا وحاضرا ...) يربط بينها الحكي ليشكل منها المشهد / الحكاية. يلتقي فيها الحلم بالواقع، الماضي بالحاضر، فضاء البداوة بفضاء الحضارة، الصبي بالكهل ذاتا واحدة مشتتة بين لحظتين أو زمنين في مفارقة مفزعة، تلخصها الجملة التي ترد على لسان الصبي "سيفه يدفعني إلى دمعها، ودمعها إلى سيفه".
بكثير من التكثيف والتركيز تنشئ القصة أثرا واحدا (وحدة الأثر والانطباع حسب صبري حافظ) هو حالة الاختناق والتمزق يعيشها الصبي (الكهل، الزوج، القارئ..) حالة الغيظ والغضب لا يتجلى إلا عبر الصراخ. والصرخة واحدة في حالة النوم (اللاوعي، العالم الباطن) وفي حالة اليقظة (الوعي): خلاصتها رفض نظرة المرأة /الأم / الزوجة إلى الأرض (الأرض في بعدها السلبي / الانحدار)، رفض الانكسار والخنوع، فإذا هي دعوة لتجاوز حالة الصمت والألم الدفين، دعوة للنظر إلى السماء (الحلم –السموّ) وحثّ على الفعل الإيجابي، أن تمتطي الناقة وتسير.
يبدو السارد في أقصوصة آمنة  الوسلاتي صوتا للمرأة اليوم، يدافع عنها في المؤتمر. تقول الزوجة مخاطبة زوجها "دافع عنا جيدا، كما تدافع عن الآخرين.." هي تجلس الآن (وفي الحكاية) إلى جوار الرجل لكنها ما زالت تنظر إلى الأرض وتنتظر أن يكون الرجل صوتا لها.
المرأة في نهاية الأقصوصة تستحث الرجل على مباشرة الفعل التحريري، لكنها مع ذلك تبدو مجرد امتداد لصورة الأم في الصحراء تلك المتعلق نظرها بالأرض، الراضية بالحدود والقيود .. المستسلمة لوضعها. غير أن صرخة السارد (صبيا وكهلا) تبقى مترددة في فضاء الحكاية ترجّ القارئ : على المرأة أن تحوّل نظرها، أن تتجاوز الأرض بكل ما ترمز إليه من معاني الرضوخ والسقوط والرضى، وأن تتجه بنظرها إلى الأعالي. 
تبدو الأقصوصة (الكتابة) بهذا المعنى مكاشفة جارحة، صرخة توجّه إلى القارئ تستحثه على طرح السؤال وفهم ذاته والعالم:
-    ما الذي تغيّر فينا بعد قرون من الرضوخ والصمت؟ بل هل تغيّرنا فعلا؟
-    هل ما زالت المرأة في حاجة إلى صوت الرجل يستنهضها ويدافع عنها ويغيّر نظرتها إلى ذاتها والعالم حولها؟
-    لمَ يتعلق بصر المرأة بالأرض؟ هل تستمدّ منها قوّتها وقدرتها على الصبر والقناعة والرضى؟ أم تحتمي بها من جور مجتمع ذكوري متسلط؟
-    هل تجاوزنا حقا حالة التمزّق والتردّد التي عاشها "الصبيّ" في القصّة ويعيشها الطفل في ذواتنا: التمزق بين انجذاب إلى تراث بدويّ صحراويّ هو جزء من ذاكرتنا وهويّتنا العربية، وبين شوق إلى عالم أفضل وآت أجمل لأنه يقوم على قيم كونيّة تتحقق بها إنسانيّة الإنسان (المرأة في الأقصوصة) إذ توفّر له مقوّمات المساواة والحريّة والكرامة؟
-    وفي النهاية هل انفردت نظرية واحدة بتفسير اهتمامنا بالحكاية؟ ألا نجد فيها (القصة – الحكاية) بعض ما به نحيا ونتمتع، ونفهم ذاتنا والعالم قصد تغييره؟