تركيا والأمن القومي المصري

أنقرة تبحث عن دور تمددي بصرف النظر عن مؤهلاتها وقدراتها التي تبدو مشكوكا بأمرها.
عملية خلط تحالفات ومصالح وأوراق دولية بسبب الدور التركي
ثمة نية ومخططات واضحة باتجاه مصر شرقا وباتجاه كل من تونس والجزائر في الغرب
التدخل التركي القائم منذ 2015 في ليبيا يتخذ ابعادا اكثر توسعا وخطورة على الامن القومي المصري

لطالما حاولت تركيا الولوج الى عمق المنطقة العربية عبر تدخلات مباشرة في ازماتها وبخاصة بعد العام 2010. وهنا يمكن تسجيل بداية التدخل في الوضع العراقي، ومن بعدها في الازمة السورية وعلى نطاق واسع، الا ان الطموح التركي في التخريب ونشر الفوضى، نقلته عمليا وفعليا الى ليبيا منذ العام 2015، حيث نقلت آلاف المقاتلين من سوريا، وعمدت الى دعم تحالف الوفاق الوطني بمواجهة حكومة حفتر، اذ اخذ التدخل التركي ابعادا اكثر توسعا وخطورة بما يخص الامن القومي المصري، جراء العمليات العسكرية التي يقوم بها تحالف الوفاق باتجاه الشرق نحو الحدود المصرية.

المنحى الجديد الذي اتخذته المعارك الأخيرة، باتجاه مدينة سرت الساحلية والمفتاح لمناطق النفط في الشرق الليبي، استدعت موقفا واضحا من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي هدد بالتدخل العسكري في حال تواصل المعارك التي اعتبرها تهديدا مباشرا للعمق الحيوي المصري في الغرب، وهو موقف اعتبرته القوى الفاعلة في الأزمة الليبية موقفا صريحا ينبغي التعاطي معه بجدية، لما له من آثار وتداعيات إقليمية وحتى دولية في غير اتجاه. فالأمر لا يقتصر على القاهرة وانقرة، بل يمتد الى كل من واشنطن وموسكو وباريس التي لكل منها موطئ قدم وحسابات خاصة لها في الموضوع الليبي بشكل خاص والقارة الافريقية بشكل عام.

فمصر التي تعتبر ليبيا عنصرا بارزا في تحديد سياساتها العربية في افريقيا الشمالية، تنظر للتدخل التركي من وجهة دعم الاخوان المسلمين عبر تحالف الوفاق، وما يشكله من خطر مباشر على نظام الحكم في مصر، وهو امر لطالما شكَّل نقطة نزاع داخلي بين الاخوان في مصر والأطراف الأخرى المناوئة لها. وهو نقطة رخوة في الخاصرة المصرية الداخلية التي تستغلها تركيا بدقة متناهية للنفاذ نحو القارة الافريقية، التي سبق ووضعت ثقلا سياسيا واقتصاديا وعسكريا في دول القرن الافريقي، الأمر الذي تعتبره انقرة مدخلا جيوسياسيا وازنا لحصار مصر، لاسيما وان ما يجري اليوم من توتير اثيوبي لقضية سد النهضة يندرج في إطار الاستثمار التركي بقضايا الامن القومي المصري.   

علاوة على ذلك، أدى التدخل التركي في الأزمة الليبية الى خلط تحالفات ومصالح واوراق دولية أخرى لكل منها حسابات خاصة، فرغم العلاقات المصرية الروسية الدافئة حاليا، ثمة تقاطع في المصالح بين انقرة وموسكو، الذي يمكن ان يؤثر على العلاقات المصرية الروسية مستقبلا، وهو امر مرهون بمدى الاستجابة التركية للسياسات الروسية في سوريا. إضافة الى ذلك ثمة حسابات أميركية خاصة في الأزمة الليبية التي حركته حاليا عبر موفد خاص للتأثير في مجريات الصراع الداخلي، وهو امر يعاكس مواقف واشنطن من أنقرة بعد التحوّل التركي الملحوظ شمالا نحو موسكو على حساب العلاقات مع واشنطن التي اعتبرت دافئة لعقود طويلة.

ان التدقيق في محددات السياسة الخارجية التركية في الشمال الافريقي وبخاصة الازمة الليبية، يظهر ان ثمة نية ومخططات واضحة الاهداف والوسائل باتجاه مصر شرقا وباتجاه كل من تونس والجزائر غربا، وهو امر يعمل عليه جديا في دوائر القرار التركي حاليا، وهو ما يفسر السلوك التركي باتجاه دعم الوفاق الوطني للسيطرة على المناطق النفطية شرق ليبيا، والتي سيؤمن لها تدفقا نفطيا وغازيا وفق شروطها ورؤيتها أولا، ووضع خطط تنفيذية لسياساتها شمال افريقيا.

لقد عمدت انقرة الى زرع وسائل وأدوات سياسية واقتصادية وامنية سابقة في العديد من المناطق الاستراتيجية بالنسبة لها، بدأت في العراق ومن سوريا وتمددت الى لبنان وغزة والقرن الافريقي واليوم في شمال افريقيا، وهو مظهر يعيد الى الأذهان نموذج الدور للدولة التركية الذي لعبته سابقا بشكل معاكس كدولة حاجزة ابان الحرب البارد بمواجهة الاتحاد السوفياتي، فيما اليوم تبحث عن دور تمددي بصرف النظر عن المؤهلات والقدرات التي يبدو مشكوكا بأمرها.