تمثلات السرد المؤطر في 'ليل المنافي'

رواية العراقي حامد المسفر تدور زمنيا في فلك ليلة سقوط النظام 2003 وما بعدها وما قبلها في نص ينقلك منعبر الزمان والمكان بين أماكن شتى في عالم كبير ودائري وكأنك في حلم تتمنى في نهايته أن لا تغادره أو تفيق منه.
السرد يتحرك في اتجاهين متقابلين أحدُهما يدفع بالحكاية للخاتمة وثانيهما عكسيٌّ يعود به إلى مبتدأ الوقائع
بغداد

"اليك يا من تعاتب الايام بليل انتصار الخريف وتتمنى عودة طفولة غادرت اغماضة عين بعيدا عن أشيائك الجميلة ..اليك يا من تدرك كابوس الخيبة وتعود مهملا تسير حافي القدمين على عشوائيات النوح منذ مهد النفوس الراضية الى يوم انتحار الذاكرة تبحث عن معجزة يخفيها الظلام المتوارث".

"الكتابة لا تعادل الواقع ولا تغيره لأنها متعالية عليه، ومختلفة عنه، وإنما تنشئ عالما موازيا متخيلا يجمل الماضي ولا يتجاوزه، ولا ينتصر على قيوده فهو مجرد 'خطاب فوقي' ذي بنية متعالية لا تقول 'الحقيقة'؛ المعنى الوحيد الذي تبحث عنه 'التأويلية المثالية' فلم تجده في الواقع فَأَوْجَدَتْ له مقاما رفيعا في عالم المثل".

ان المعيار الذي يميز الرواية عن اللا رواية هو خطابها الأدبي، والفني، الذي يُحوّلُ الوقائع فيها إلى شكل قابل للتأمل، والتحليل النقدي. وموضوع هذه الرواية يحيلنا إلى فتات الواقع اليومي من الناس، قادتها الأقدار لتنشأ نشأةً اللاستقرار والاغتراب من هول وقسوة نظام قاسي وهؤلاء الأشخاص تعصف بهم الأيام على إيقاع الزمن، ثم تبدأ العائلة بالانفراط، وتبدأ الحوادث بالتتابع، ولكنْ في شيء من التفصيل الذي يلقي الأضواء على مزيد من الأسرار، والخفايا. حيكت أحداث الرواية في نسيج درامي محبوك انسانيا ومشوق دراميا.

وهنا يصل القارئ إلى استنتاج مفاده"إنه يوجد روائي داخل الرواية هو من يكتب الرواية فعلا".

وبالطبع هذه حالة إبداعية أقرب ما يقال عنها إنها هوس إبداعي لا مثيل له، إذ يستمر القارئ في التشظي والتلاشي والذوبان داخل فوهة الهذيان، تلك الفوهة هي الشاهد الوحيد على أن ما سرده الكاتب داخل الرواية، إنما هو مخيلة القارئ، ومخيلة الروائي معا.

اقتباس

"الكرباح الاول :اربيل"

"اول الرحلة الشاقة كان لابد لنا من الوصول الى مدينة دهوك باسرع ما يمكن بعد ان تعدينا مرحلة الخطر من نقاط التفتيش التي تقع على طول الطريق الطويل".

في هذه الرواية الروائي حامد المسفر يسرد لنا حكايتين في حكاية واحدة هي كشف الخلفية بذاته وكيانه. يفعل هذا مصطنعا طريقة تمثيلية تنسجم مع صناعة روائية معاصرة تفترض وجود شخصيات وفضاء وحبكة.

هكذا، لا يكتفي بطرح نفسه في موضع أسئلة تنهشه بإلحاح ، فيعمد إلى اختلاق شخصية الراوي تتظافر مع شخصية ورقية "الراوي في ليل المنافي " بينما الحكاية الاخرى "فراس حسين القاسم".

الشخصية الرئيسية "بوران" وهي تتقصى إثر.. الرواية ليل المنافي.. موضوع "الرواية الأصلية"، هو انزياح لشخصيتها المتشظي في العمل (الكائن). فهي ما تنفك تتساءل على امتداد القصة عشرات الأسئلة عن تهويمات بلا حدود، وهي تتأرجح بين عالم اللاجدوى والعاطفة الغاربة ..

تتساءل عن بطلها الحلم، حياتها محاورة في المجردات والمقولات الكبرى، إنما بدون أن ترسم لها مسارا ذهنيا، البطلة وتشبثها بالانتساب في الوقت إلى محراب البوح وقول الذات على نحو ما، ولو شئنا، هو الشاغل الأكبر لكاتب الرواية .. هو كيفية صوغ موضوع، بوصفها كيانا مركبا، وجدانا وعقلا، بالصيغة السردية، التي يصر كاتبها أنها صيغته المبتغاة.

اقتباس

فراس حسين قاسم - كانون الثاني/يناير 2003

"كان هذا أول حدث قراته بوران في الكتاب لابد انها كانت اول انطلاقة لرحلة فراس هو والعائلة بعد الهروب من مدينة بغداد تمنعت بالكلمات جيدا الاحساس العالي بالخوف وارتباك الحرف المتواصل ولج الى أعماقها دون ان تدرك ان هذا الشعور وصلها" ص51

الرواية زمنيا تتحدث عما حدث ليلة سقوط النظام 2003 وما بعدها وما قبلها.. أحداث هذه الرواية من النوع الذي يحبس أنفاسك في بعض المواقف ويعتصر قلبك أو يخفق به الى حد الإنفلات من بين الضلوع في مواقف أخرى هي نوع من الدراما الغنية جدا بالأحداث الإنسانية المتمازجة بالمشاعر الحميمية فلا تحس بالحدث العام خارج سياقه الإنساني.. هذه الدراما لا تتأتى دون تجربة إنسانية تجول في أعماق النفس البشرية أو في مدائن متباينة يحملك وصف ملامحها الدقيق الى كل ركن فيها فتعيش المكان والزمان كما لو كنت تشاهد عرضا سينمائيا..لقد نجح الروائي في الإنتقال بك عبر الزمان والمكان بين أماكن شتى.. في هذا العالم الكبير والدائري.. وكأنك في حلم تتمنى في نهايته أن لا تغادره أو تفيق منه.

اقتباس

"الكرباح الثالث عشر - كورت شوماخر"

"لقد طويت أسوأ صفحة بتاريخ العراق كانت أحداث الأمس دليلا واحدا لعنجهية حاكم الدولة الى حكم عشائري تسانده أفراد القبيلة في ترسيخ السيطرة على الشعب" ص275

وهنا اذ تتحول الغربة بالنسبة للمواطنين إلى مقبرة للأحياء المنسيين والذين يحيون خارج سياق الزمان، منفصلين عن كل ما يجري في الوطن، إنه شعور مخيف، لأن الأحياء خارج الوطن وبعيدا عن أسواره يكابدون عزلتهم.

وهنا تلعب الذاكرة دَوْرَ الخَزَّانِ الذي يركز الحياة الماضية قبل المغادرة الى المنفى بعيدا عن خضم الحياة ومجرياتها من ذكريات مفرحة وأخرى محزنة لكنها لحظة استرجاعها تتحول إلى لحظة نادرة وذات سحر خاص، فالمنفي يلوذ بأية قشة كالغريق.

ولا تقتصر الحكاية، بطبيعة الحال، على ما سبق ذكره، فثمة حكايات أخرى متداخلة كحكاية "بوران" وآخرين.. وتظل هذه الحكايات بمنزلة الفروع التي تنبت على جذع الحكاية الرئيسة ‘ في السرد في هذه الرواية من النوع الذي تستوعب فيه الحكاية الرئيسة حكاياتٍ أصغرَ منها، الإطار الذي يضم مجموعة من الصور، لا صورة واحدة.

اقتباس

فراس حسين قاسم 2006

"الصباح كان معتما بعض الشيء صرخات العمة اصيلة كانت كفيلة بايقاظ بوران واخراجها من السرير بسرعة عندما هرعت تخطو الدرجات نحو الاسفل وجدت ابيها قد سبقها قرب باب غرفة سماح وهو يع يديه فوق رأسه" ص277

الرواية صيغت في خطاب فني يعتمد تقنيات سردية تضفي على الحكايات الجاذبية، والتشويق، وتجعل من هلاميّة الوقائع بنية ذات شكل قابل للتأمل، والدراسة، والوصف الاستاطيقي. فالرواية تتوسَّلُ، من بدايتها، بالمنولوج الداخلي، وهو نمط سرديّ يقوم على منظور يحتلّ فيه السارد المشارك موْضع البؤرة، فهو الراوي، وهو البطل، وهو أحد الشخوص.

اذن السرد يتحرك في اتجاهين متقابلين، أحدُهما يدفع به إلى الأمام في مسار خطّي يقترب بالحكاية من الخاتمة، وثانيهما عكسيٌّ يعود به إلى مبتدأ الوقائع.

فالمنظور السردي، وتعدُّد الأصوات، طريقتان اتبعهما الكاتب في هذه الرواية بإتقان، علاوةً على اعتمادِه على السرد المتشظي الذي لا يخفي تلاعب الكاتب بالزمن، وتحريك الخيوط المتحكّمة بالحوادث، وفقا لبنيةٍ تقدِّمُ ما منْ حقّه التأخير، فاستأثر بنصيب الأسد من المحكيّ الروائي.

ومن الملاحظ في هذه الرواية، نجد تلك الحرفيّة الجليّة التي تتَمثَّلُ فيما سعى إليه المؤلف منْ جمَع للمعلومات، واستقصاءِ للبيانات التي مر بها من مدن الغربة بشكل دقيق ويتضح ذلك في أكثر منْ موْقف او مكان ووصف.

لغة الكتابة، ولغة الكلام، في هذه الرواية مستويان يأتلفان في النصّ ائتلاف مستوياتِ الشخوص. وقد أدّى هذا الائتلاف لظهور غايّاتٍ كلّ منها تشير إلى مستوىً مُباين، فلغة الكلام لدى الراوي في الحكاية الاولى، والذي يتمتع بسرد"الرحلة" ربما تختلف في الحكي في الحكاية الثانية- تباينُ بمفرداتها التي لا تتورّع عن شيء. وباختصارٍ شديد تجمَعُ هذه الرواية مستوياتٍ من الأداء اللغويّ تَتَناسبُ مع اعتمادِها تعدُّد الأصوات، والمونولوج، والحوار المسرحي، وتنضيدِ الحكايات في إطارٍ جامِع يصحّ أن يوصف بالسرْدِ المُؤطَّر.

إذن، لقد اتَّخذ الخطابُ الروائيُّ صيغتين خطابيتين، الأولى محكي متواتر يُؤَطِّرُ الصيغة الثانية وهي محكي المذكرات، النص كتب بلغة متنوعة توافق مستوى المحكيات وتختلف بين لغة متواترة إخبارية "تسرد وتصف المكان أكثر"، ولغة متدفقة في صيغة مونولوج داخلي ثم لغة ملتاعة في سياق الاعتراف والتضرع، وكذلك لغة تنصح وتوجه وتصدر أحكام القيمة.

أما السارد فتنوع بدوره بين "سارد محايد" يقدم الأرضية العامة تمهيدا للحكاية، وبين "سارد عليم" ينصح ويوجه ويحكم ثم "السارد المشارك" وتمثله الشخصيتان الرئيسيتان "فراس وبوران".

ظهور "السارد المشارك" جاء ليعلن عن انحدار الحكاية نحو النهاية/الحل، وقد اختار الكاتب نهاية "خاتمة الرحلة" مثل هذه "المخاوف" ترعب الذات وتلقي بها في دوامة القلق النفسي والضياع الوجودي الذي حددناه في البداية كسؤال حاد للهوية، أي أن الشخصية الروائية تعاني من فقدان الهوية، من جرح الهوية التي فقدت أهم مقوماتها بفقدانها ليس للذاكرة الماضية بل لاستمرارية تشكل الذاكرة، لأن الشخص ينتسب لجماعة أو مجتمع بحسب ذكرياته، وذكرياته هي أهم مقومات هويته.

اقتباس

"كرباخ اخير - بوران"

"وداعا سوف اغادر الى احزاني ابحث عن بقاي انتظر قطارا فاتني عند محطة كنت احسبها الاخيرة احمل اشيائي والحنين في حقيبة قد اعود بها معي الى الذات مرة أخرى اجر اذيال الوحدة وقد اذهب الى مجهول اخر في خريف سماوي" ...بوران كانون الثاني 271

واخيرا...أمام كل هذه التفاصيل، تتراوح شدة الصراع ما بين شخوص الرواية أنفسهم، والذين يكتبون مصيرهم بأنفسهم، رغم ذلك تبقى رواية الكاتب "ليل المنافي" مختلفة باسلوبها وطريقة سردها وعرض موضوعها/الانتهاكات انسانية/كشفت بصورة فاضحة وصادمة.

"الإقامة الإرادية" في الغربة كان وراءها حوافز مِنْ أهمها إدانة "السلطة"، وبنياتها القائمة على كثير من الفَوَارِقِ والتصنيفات المهينة للإنسان [المُوِاطِنِ] لأنها لا تقيِّم الفرد على أساس اندماجه وإسهامه في بناء وتنمية مجتمعه بل تقيِّمه على أساس "المعتقد العقائدي" الولاء الأعمى للسلطة والقائد.

ولذا أكثر ما يميز هذه الرواية أنها حكاية مؤطرة داخل حكاية اخرى و كل ما يكتفي به القارئ هو التشبث بتفاصيل النص. لعله يتخلص من شدة التشظي بعدما توغل كثيرا في حكايات غرائبية لا نهاية لها، ذات طابع إبداعي ومثير.