ثلاثاء العسكر وحراك الجمعة: جدل ملغم

كشف العسكر في الجزائر عن وجه جديد أمام حراك منفعل ومحتقن.

1

هذا ما وصل إليه الحال بعد أكثر من شهرين من الحراك.. صورة جذابة ومبهمة: عسكري يضرب في العمق، يقطف رؤوس عصابة عاثت بفسادها على جسد الجزائر وعبثت بروحها.. عسكري مزهو بلحظته ولا ينتظر.. وشارع مشرع على كل شيء.. شارع يتحرك ويدور ويكرر نفسه ويطيل في الكلام والثرثرة ولا يتوقف وينتظر.. ومعارضة حيرانة تجتمع تخمن وتقترح مبادرات تلو مبادرات تليه اجتماعات تليه بيانات ومواقف ثم تعيد الحسابات والتموقع وتنتظر أيضا.

2

شيئا فشيئا يدخل الحراك مرحلة غامضة بعد أن واجه لأسابيع منظومة حكم تسلطت عليه بعصب استولت على الدولة وعلبت مقوماتها وقدراتها ووضعتها في قبضة الفساد والطغيان.. حراك تلبس بحالات الرفض المتعاظمة وأخرجت مكبوتاته التي تغذت بالحنق والأوجاع والسخط.. كابد واقعه المرير بالصبر والصمت تارة وبالعنف تارة أخرى، طافت في آفاق مضببة بالسديم دون هدف أو مستقبل وكانت تتفجر في الملاعب غداة كل مباراة كرة قدم وها هي تنتقل مثقلة بتاريخ هامشي وكسير وجريح ومضن إلى الشارع لتلتحم بعنفوانها وصخبها مع جماهير أخرى تأتي من مشارب حياتية متعددة ولكنها مرتهنة ومكبلة بالخوف والريبة والإحباط مما سيحمله الآتي رغم بوادر التفاؤل والسعادة والابتسامة التي تشع في الوجوه وفي السوشايل ميديا.

3

لم يفرز حراك الجمعة للآن سوى المزيد من المطالب تتجاوز في الكثير من الأحيان المعقول والواقعي وإن تفرعت إلى الكثير من المواقف يصعب تفكيكها إلى نقاط موحدة تطرح رؤية عميقة للخروج من ظلال التأزم والمآزق التي يشعر بها كل واحد معني بما يحدث وتهجس بها سماء الجزائر، ينظر إليها الآن العسكر بنوع من التحدي الحذر المستقصي لمعانيها وعلاماتها الكثيرة التي تتكثف كل جمعة صارخة بالعديد من الأفكار والشعارات والمواضيع، دافعا بإشارات واضحة وخطابات وثوقية تخرج كل يوم ثلاثاء من فاه الرجل الموسوم في الأدبيات الآن بالقوي والصلب في هرم الجيش.

4

يواجه العسكر الحراك كل ثلاثاء بإرث مقدس وتاريخ يمتد إلى بدايات الثورة والدولة الوطنية حيث تربى رجاله في حضن النضالات سواء ما قبل الاستقلال أو ما بعده.. عسكر أنتج عقيدته من روح الكفاح والمقاومة والصبر والإنضباط والمسؤولية والصرامة وفي الكثير من الأحيان وجد نفسه متغلغل بصمت نافذ إلى قلب المجتمع يتدخل ويأمر ويعطي حق النظر والفعل في كل مجالات الحياة، وأعاد في كل مراحل بناء الدولة التمسك بنفس هذه العقلية والممارسة دون أن يجرؤ على الظهور بشكل علني والقطع مع نمط من التسيير تقليدي فات زمنه خاصة وأن العالم يعيد ابتكار وتجديد نفسه على أسس أخرى.

بينما يستعرض الحراك كل جمعة على العسكر ثورته ويستظهر رمزيتها ويخرج مناديلها البيضاء في مسيرات طويلة وعريضة تكتسح الشوارع والمدن والحدود.. ينمقها بشعارات ظلت مخزنة ومستترة في القلوب والأرواح والعقول المحطمة والإرادات المسلوبة، وكانت تلقى باحتشام متى سنحت الغفلة والحظ والظرف.. وجيء بالظرف من مكان قريب من وجدان الجزائريين من ملاعب كرة القدم التي لطالما كانت متنفسا غاضبا تحمل الرسائل والصيحات والنداءات والأهازيج الساخطة والمعبرة عن اللأمل والانكسار والهزائم.. جيء بالظرف من أفواه عميقة عاشت البطالة والتسكع وهامش صغير بالكاد يشبه الحياة، رافضة ومتمردة ويائسة على وضع متهالك وناقم على كل شيء لأنه لا يجد أي شيء، وتلقفه الشارع في لحظة غفل فيه العسكر عما يدور في الأزقة والحواري والمنعطفات والأرصفة، ولم يكن يصغي إلى الأنين الجارح للأرواح التي تعذبت بالنسيان، ولم تكن تهمه جزائر الهوامش والأطراف الموشحة بالإهمال والبؤس والقنوط والتمرد وهاهي تنفلت ببطء وعنف من الخناق الذي حوّط حياة الجزائريين.

5

كشف العسكر عن وجه جديد أمام حراك منفعل ومحتقن، مندفع بسرعة قصوى نحو التحرر من كل قيد.. يوغل في رفض كل ما أمامه وما يأتي من سرايا الحكم أو يتم الإعلان عنه من حلول.. تخطى عتبات الخوف والقهر التي وسمت حياته طيلة سنوات.. مصمم على التحدي وقلب الأمور والبدء في تشييد صيرورة جديدة لحياته بعيدا عن مكر التشويش، وأنماط اللف والدوران، ومهندسي الالتفافات، وأنتلجنسيا الثورات المضادة.. يبدو المشهد مبهم ولكنه لامع ومغري وواثق من رموزه الزرقاء المتناسلة في الشبكات والمنتديات والمواقع والمؤسسات والأحزاب والقنوات، ومن شخصيات طوباوية وكيانات أثيرية أطلت من الماضي بعد أن أفلست وعجزت وتعطلت، وأخرى نافقت وهادنت، وصارت تتصدر الواجهة وتظهر كأنها نخبة وما هي بنخبة، تشكلت في رحم البهتان والرداءة وخبث الحيلة والخداع، تقدم نفسها على أنها النبي والمنقذ والمخلص، كلها تبشر بنقله إلى ضفاف الجنة السعيدة الأمان والراحة والغنى والسعادة والفرح والازدهار والعيش بكرامة وعز وحبور ورفاه وعدالة منصفة وحقة لا يظلم عندها أحد بل تلمح إلى بوادر جمهورية أخرى تخفق في ليل آخر متسربل بالذهب ومقطر بالعسل.

ضمن هذه المشهد المبهم وكي لا تدخل الجزائر في نفق العصف والويل والثبور والجحيم ها هو العسكر يحاول كل ثلاثاء أن يحتويه ويشير إلى طريق الضوء، يطويه تحت جناحه بعد أن حيّـد وعزل وسجن قوى الشر والفساد والمنكر.. يمد اليد، يجادل، ويطرح، ويقترح، ويخوف، ويحذر، ويتوعد، ويصمت عن الأهم كيف يحاور الحراك؟.. كيف يمر يبن الحشود التي تلتم في فضاء واحد وتصدح بأمر واحد لا خلاف حوله؟.. كيف يمر دون أن يرعبها بوقع "الرونجاس" والسلاح؟.. يفكر كيف يعيد العقل من جنون الرفض الذي بات ديدن الحراك؟.. كيف يضع بساط أبيض على أرصفة الطرقات كي لا يتحول إلى ساحة الحراك إلى عراك الرايات والهويات المركبة والمفاهيم المعقدة والرؤى الملتبسة عن الحرية والديمقراطية والعيش الكريم وأشكال المراحل الصعبة التي ستظهر مع الوقت؟.. كيف سيكون الشعب والجيش "خوا خوا" دون أن يكون لهذا الالتحام خياله ومعناه في نقله من حناجر الكلام إلى سواعد العمل البناء أي أن يعرف كل واحد كيف يمسك بالرباط والتعاون الحقيقي دون إكراه أو مزايدة أو تعنتر أو تبجح أو صفافة أو لبس أو سوء التفاهم والتربص من كلا الجانبيين؟.. بعبارة واحدة كيف يخرج الحراك من حالة الإبهام إلى وضوح العسكر؟

6

في الساحة الآن لاعبان لا ثالث لهما: العسكر والحراك.

عسكر ينقصه الخيال فيما يفعل وحراك يفتقد لمعنى واضح فيما يريد.

عسكر يمسك بالأمر بقوة ولا يضل الطريق وحراك قوي بشارع بعثر طريقه وسيظل يسير.

عسكر موحد الرؤية حول أفق الاحتكام إلى منطق القوانين وشرعية الدساتير وحراك متعدد يضبط توقيته على مراحل يراه هي الأهم والأنفع والأصلح تقف على أراضي فايسبوكية وبيانات كثيرة وآراء متشعبة حول الراهن والمستقبل.

7

كل يوم ثلاثاء وجمعة يصول ويجول بين الطرفين جدل حتمي قد يُصنع منه في الآجال القريبة وطن سينهض أو وطن سيسقط.