جماليات الخامة البيئية فى الفن الجداري

فن الجداريات يقودنا الى حقيقة ان الخامة الطبيعية تفرض سيطرتها على الفنان وتتحكم في العمل الجداري بصورة مباشرة وهي في الواقع أداة الطبيعة تُخلق من مناخها وظروفها البيئية.

يعد فن الجداريات من اوائل الفنون التي عرفها الانسان واستخدمها على جدران الكهوف والصخور راسما رموز ونقوش يحمي بها نفسه من شرور المجهول ومن هجمات الحيوانات المفترسة، ثم ما لبث ان تدبر فيما حوله فأصبح له معتقدات وطقوس اراد ان يسجلها ليعلمها لابنائه وربما لمن حوله ايضا.  

وفي بداية الامر طبع الانسان الاول كفه على جدران الكهوف ليثبت ملكيته لمكان ما وكانت طبعه كفه بمثابة توقيع ملكية، ثم ما لبث ان صور اشكال الطيور والحيوانات في بيئته ووظف البروز والنحوت الصخرية التي منحتها له الطبيعة للوصول الى الشكل المرسوم في مخيلته، ثم اعقب ذلك بنحت تلك الصخور بواسطة حجر مدبب كما وظف ايضا الظواهر الطبيعية مثل ظاهرة الظل والسراب لتطوير رسومه الجدارية.  

وتأسيسا على ذلك تطور الفكر الجداري لدى الانسان فما لبث ان استخدم شعر الحيوانات لعمل ادوات اكثر دقة توصله الى الشكل الذى يرغب في تصويره وكانت تلك الادوات هي النواة الاولى لفرشاة الرسم المستخدمة الأن، واستخدم الالوان التي منحتها له الطبيعة ايضا ف حصل على اللون الاسود من الرماد والالوان الترابية من الصخور الملونة المتوافرة في بيئته وعرف كيف يطحنها ليحولها الى مساحيق كما قام بخلطتلك المساحيق بشحم بعض الحيوانات حتى تصبح ثابتة اطول وقت ممكن.

وبما لا يدعو مجالا للشك فان المصري القديم اضاف الي فن الجداريات فكر وقيمة واعطاه درجته من الأهمية التي تناسبه والثابت لدينا انه احد اهم الوثائق والمرجعيات التاريخية التي وثقت عادات ومعتقدات المصرى القديم، وقد اسهمت الرسوم الجدارية على جدران المعابد والمقابر في تصوير حياة المصرى القديم دينيا واجتماعيا وعسكريا، واستخدم في الرسوم والنقوش الجدارية الطلاءات الطبيعية المستخرجة من النباتات المزروعة في اراضيه وكان يتم حصدها وتجفيفها تمهيدا لتحويلها الى مساحيق ثم خلطها بزلال البيض للحصول على طلاءات طبيعية لتزيين تلك الجداريات.  

الخامة الطبيعية
الخامة الطبيعية بنت بيئتها وهى ليست فى حد ذاتها وسيلة بل هى غاية

وانتقل فن الجداريات من طيبة الى بلاد الروم وزينت به جدران القصور من الخارج كما استخدم ايضا كاحد فنون الديكور الداخلى ونظرا لاهتمام الرومان بصناعة الشمع لاستخدامه في الانارة فقد مزجوا مساحيق الالوان بالشمع واستخدموا تلك التقنية في طلاء الجداريات الداخلية واضافوا ايضا لتلك الجداريات قطع الرخام والحصى الملون المتوافر في اراضيهم.  

وبعد ظهور الاسلام برع الفنان المسلم في تزيين المساجد وكان لتطور فنون الخزف الاسلامى اكبر الاثر في تزيين جداريات دور العبادة بالفسيفساء الخزفية متعددة الالوان كما اهتموا اهتماما خاصا بفنون الخط العربى فما لبث ان اصبحت معظم الجداريات تحمل العديد من فنون وانواع الخط العربي.  

لاحقا ومع بداية عصر النهضة في الغرب فقد شهد فن الجداريات صحوة كبرى على يد العديد من الفنانين المبدعين الذين استخدموا شكل الجسد البشرى في التصوير الجداري في شكل صور جصية او لوحات نحتية جدارية واضافوا اليها قطع الرخام والاحجار الملونة المتوافرة في اراضيهم كما استخدموا عدة تقنيات صباغية جديدة لطلاء جدارياتهم.  

ومن زاوية اخرى فان فن الجداريات يقودنا الى حقيقة ان الخامة الطبيعية تفرض سيطرتها على الفنان وتتحكم في العمل الجداري بصورة مباشرة وهى في الواقع أداة الطبيعة تخلق من مناخها وظروفها البيئية لذا فأن دراسة الظروف البيئية والمناخية هى بمثابة خطوات تمهيدية للفنان الجداري يستطيع من خلالها ان يحدد نوع وشكل الخامة الطبيعية المتاحة حوله والتي تمكنه، من خلال توظيفها التوظيف الامثل، ان يعبرعن افكاره وثقافة مجتمعه.   

ومما لا يدعو مجالا للشك ان الخامة الطبيعية بنت بيئتها وهى ليست في حد ذاتها وسيلة بل هى غاية يجب ان يتم صونها عن طريق المحافظة على بيئتها وظروفها المناخية حتى تظل دون تغير او اختلاف سواء كانت بيئة حجرية وزراعية او صحراوية ف لكل منها عوامل  بيئية خاصة تؤثر في شكل وخواص الخامة الطبيعية المتواجدة بها، وعلى الفنان التشكيلي الجداري ان يستغل تلك الخواص الطبيعية لصالح اهدافه التشكيلية.

فعلى سبيل المثال نجد ان السطح الاملس يصلح لإظهار الظل بينما يظهر السطح الخشن الضوء بوضوح كما ان الاعمال الجصية لا تصلح في البيئات شديدة البرودة او كثيرة الامطار وهو احد اسباب استخدام الفنان تقنية الزجاج المعشق بالرصاص في دول اوروبا بديلا عن الزجاج المعشق بالجبس كما ان معظم المبانى في مناطق الزلازل تكون من الاخشاب لتجنب انهيار المباني المسلحة والتسبب في حدوث كوارث.  

ختاما يتضح لنا مدى ارتباط فن الجداريات بالعوامل البيئية والمناخية المحيطة به واثر ذلك على الخامات الطبيعية المتاحة والمتوافرة لدى الفنان الجداري والتي تمكنه من اظهار رؤياه التشكيلية الابداعية عابرا بها الازمان في متحف بلا جدران يراه العامة والخاصة فيصل الى قلوبهم ويدركونه بمشاعرهم واحاسيسهم وناقلا برسومه الجدارية ثقافات ومعارف مجتمعه وموثقا لهويته وتاريخه.