حدود الدور الفرنسي في لبنان

في لبنان اليوم ثمة من يقول ان مئة عام لم تكن كافية للوصول بهذا الكيان الى أسس الوطن القادر على الاستمرار وتأمين الحياة الكريمة لأبنائه.

في المئوية الاولى لإنشاء دولة لبنان الكبير، حذرت فرنسا عبر وزير خارجيتها جان ايف لودريان من زوال لبنان، وهو تحذير ربما يرقى الى مستوى الجدية بالنظر للظروف الخطرة التي يمر بها لبنان داخليا وخارجيا. ويأتي هذا التحذير في وقت دخلت باريس وبقوة على خط الازمة اللبنانية وبخاصة بعد انفجار بيروت، حيث وضع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون خريطة طريق في زيارته الأولى، وفرض اجندة زمنية لتنفيذ وسائل الاستمرار والمتابعة من تشكيل حكومة جديدة خارج الاطار التقليدي وغيرها. وأتت زيارته الثانية لبيروت في سياق تنفيذي لبرنامج محدد تتمنى تنفيذه باريس. فهل سيكون الدخول الفرنسي سلسا دون مطبات وهل ستتمكن من انجاز انقاذ لبنان من أزماته المتلاحقة والتي فعلا وصلت الى حد الانهيار الشامل للنظام السياسي؟

ليست مصادفة ان يصل الرئيس ماكرون بعد مئة عام بالتمام والكمال على اعلان الجنرال الفرنسي غورو عن انشاء دولة لبنان الكبير، فهو بمثابة رسالة واضحة بأن فرنسا لا زالت تطمح للعب أدوار بارزة في لبنان ذلك بعد خروج مدوي في منتصف خمسينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من بقاء فرنسا تلعب دور الام الحنون في العقل الجمعي لمعظم اللبنانيين، الا ان هذا الدور واجهته العديد من العوامل المحبطة التي أبعدت فرنسا عمليا عن دور مرغوب به لصالح اطراف آخرين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة. ومن الصعب اليوم تصور خلاف ذلك، فلبنان اليوم في عين العاصفة الإقليمية وثمة قوى إقليمية ودولية فاعلة في المنطقة تضع ثقلها في لبنان في محاولة لترتيب أوضاعها ومصالحها في لبنان والمنطقة، ومن الصعب ترك باريس تتحرك على راحتها ووفقا لرغباتها وتمنياتها. نعم ثمة مؤشرات تشي بدور فرنسي أكثر وضوحا واكثر تأثيرا وفاعلية من ذي قبل، لكن هذا التحرك منضبط باتفاق مسبق مع واشنطن ومنسق في العديد من الملفات والكثير من تفاصيلها.

يأتي التنسيق الفرنسي الأميركي الحالي من منطلق انشغال إدارة الرئيس دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية وحاجتها لأوراق داعمة في ترشحه لولاية ثانية، في وقت تدرك بدقة مدى تعقيد الأزمة اللبنانية وصعوبة السيطرة على وسائل ادارتها حاليا، وهي تركت لباريس التحرك باعتبارها الأكثر مقبولية وقدرة على التأثير في بعض مفاصل الازمات الداخلية، على ان الحل والربط في لقضايا المصيرية مرتبط بظروف لاحقة لاسيما بعد نتائج الانتخابات وتحديدا الربع الاول من العام القادم.

وفي أي حال من الأحوال، ان الولوج في سياق الحلول الممكنة للواقع اللبناني لا يمكن تقريره بشكل منعزل عن ظروف المنطقة وما يحيط بها من أوضاع متصلة، وبالتالي ان حدود الدور الفرنسي الحالي مرتبط ومرهون بأكثر من ملف، ومن الصعب توفر القدرة لحسم بعض القضايا الرئيسية دون انتظار ملفات أخرى تمسك بها واشنطن تحديدا في المنطقة ومن بينها قضايا السلام العربي الاسرائيلي وملفات الغاز والنفط في شرق المتوسط إضافة الى الواقع الروسي في هذه الملفات. لا شك ان رغبة باريس في أخذ موقع ريادي هو امر محسوم، لكن قدرتها على التنفيذ امر آخر يتطلب المزيد من الرضا الأميركي علاوة على قدرتها في اقناع اللبنانيين المضي في اجندات إقليمية لا يزال قسم من اللبنانيين يعارضها.

ربما الإنجاز الاول التي تمكنت باريس من الوصول اليه هو المضي في تشكيل حكومة لبنانية جديدة اولويتها البدء في إصلاحات باتت ضرورية لإعادة تعويم نظام الحكم في لبنان بعد دخوله في نفق مظلم يتهدد الكيان جديا. ففي لبنان اليوم ثمة من يقول ان مئة عام لم تكن كافية للوصول بهذا الكيان الى أسس الوطن القادر على الاستمرار وتأمين الحياة الكريمة لأبنائه. فهل التنسيق الأميركي الفرنسي الحالي سيتمكن من إعادة هذا البلد الى مكانه الطبيعي في الوسطين الإقليمي والدولي ام سيظل مسرحا ممزقا لتمرير مشاريع على حسابه؟ اليوم باتت المخاطر جديه، هناك حالات كثيرة زالت فيها دول بشحطة قلم عندما تتفق عليها مصالح دول إقليمية ودولية عظمى.