حذار من حرق الاخضر بسعر اليابس!

يحتاج العراق إلى الاستقرار في مفاصل الدولة. التغيير لغاية التغيير سياسة عبثية، فالنجاح تراكمي كما تروي لنا حكاية البنك المركزي العراقي ومحافظه علي العلاق.

حذرتُ في مقال نُشر قبل ايام، في صحيفة "الزمان" الدولية وتابعته عدد من المواقع الالكترونية الرصينة، من خطورة مسعى، حرق الاخضر، المفعم بالثمر الطيب المجرب، واليابس الذي لا فائدة منه، تحت مسمى "التغيير" في خضم مناقشة الدرجات الخاصة التي تتم حاليا في اروقة الدولة، وملف حرف "الواو". ذلك ان بناء وطن يضم العراقيين جميعا، عهدا وطوق في اعناق من يديرون الان دفته، فالوطن يعني التطور والامن والسكينة والحرية، والانتماء والوفاء والتضحية والفداء وغيرها من المسميات التي تدل على الاصالة والوطنية.

لقد جرني للحديث من جديد، تسريبات نُشرت اعلاميا، عن تعيينات جديدة بدلا عن الذين يديرون حاليا مواقع مهمة في مفصل الدولة، وبعض من هؤلاء الذين جرى الحديث عن تغييرهم، اثبتوا قدرة على تطوير مجالات عملهم، بانسيابية ودراية عملية، علمية، تجاوزت نطاق الوطن ودخلت حيز الافق العربي والدولي.

ودون ان ادخل في العموميات، اشير الى ان من المنطق، ان يقوم المسؤول الاول عن ادارة الكابينات الكبيرة في الدولة، بإجراء التغييرات التي يراها مناسبة لرؤاه، لكن الذي لفت انتباهي ان هذه التغييرات شملت مواقع، اثبتت كفاءتها بالملموس، والبرهان انها قدوة ادارية وعلمية، تستحق التكريم، والتثبيت في موقعها، بدلا عن تغيرها، والبدء من جديد في ماراثون الادارة، التي ربما تصيب او تخيب، وهي خطوة لا اجدها مفيدة.

لنأخذ مثالا مؤسسة البنك المركزي العراقي. حقق البنك المركزي في سنواته الاخيرة، لاسيما في ادارته الحالية، خطوات كبيرة لا حصر لها، لعل في مقدمتها كبح جماح العملات الاجنبية وتذبذب اسعارها، من خلال استقرار سعر صرف الدولار، وهو استقرار ظل حلما يراود المواطن العراقي سنوات طويلة، قبل ان يكون واقعا يوميا. بذلك، حقق البنك المركزي الدور المرسوم له في الاقتصاد من خلال نجاحه في تحقيق استقرار هذا الصرف والسيطرة على مستويات مقبولة من التضخم ولاسيما بعد ان ارتفع احتياطي البنك من معدن الذهب إلى 96 طنا. كما سعى البنك ليكون مستشارا للحكومة، في ظل وجود الخبرات فيه، وبحكم العلاقة المباشرة والوثيقة مع المجتمع الدولي ومنظماته، وكذلك عزز البنك علاقاته مع رابطة المصارف الخاصة العراقية، وتمتين نظرته معها من موقع الخدمة العامة، وليس من نظرة علوية كما كان الحال في السابق. طبق أيضا مفردات مبادرة "تمكين" التي قامت بها المصارف وشركات الصرافة العراقية في تمويلها، من خلال المبالغ التي وفّرتها، وساعدت على القيام بمشاريع استثمارية وخدمية، ووفرت بعض الفرص للباحثين عن عمل لتحسين أحوالهم المعيشية، وشملت جوانب انسانية وثقافية وبيئية واجتماعية واقتصادية ورياضية.

لعل المكانة الدولية التي حظي بها البنك بإدارته الحالية تتجسد من خلال قرار الاتحاد الأوروبي بإعلانه رسمياً خروج البنك المركزي العراقي من قائمة العقوبات التي يفرضها الاتحاد على المؤسسات المالية الدولية، من خلال نشرة الصحيفة الرسمية للاتحاد الأوروبي، التي أكدت فيها إلغاء العقوبات المفروضة على البنك المركزي العراقي منذ ثلاثة عقود التي نصت على حظر التعامل مع مجموعة من المؤسسات المالية وغير المالية العراقية ومنها البنك المركزي العراقي.

ومعروف ان خطوة الاتحاد الاوروبي تلك، جاءت في ضوء ما حققه البنك المركزي من خطوات ملموسة في تحسين أدائه وتطبيق الأنظمة والمعايير الدولية في هذا المجال، وان الاتحاد الاوروبي، وما نعرف عنه من ثبات ودقة ومصداقية وابتعاده عن المحاباة، ما كان له اتخاذ قرار اعادة الروح لبيت المال العراقي، ممثلاً بالبنك المركزي العراقي، دون ان يكون له مجسات ومتابعات لقرارات وألية العمل المهني والاداري في البنك.

وقبلها، حصل العراق على شهادة دولية مصرفية انطلقت من باريس، حيث تم تتوج السيد علي العلاق محافظ البنك المركزي العراقي، كأفضل محافظ بنك عربي لعام 2018. وجاء هذا التتويج في ضوء الإنجازات العديدة التي قام بها على المستوى المحلي والدولي في عدة مجالات كان من أبرزها الحفاظ على سعر الصرف، وغلق الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق، فضلاً عن التطور الكبير في نظام المدفوعات وانظمة الدفع الالكتروني وايضاً العمل المتقدم الذي أحرزه في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

ان المصداقية واجبة في طرحها. فخطوة البنك في حل مشكلة الأوراق المالية التالفة بأخرى جديدة، ساهمت في فك الاختناق الحاصل بين مستويات شرائح عديدة من المجتمع التي تتعامل يوميا بتلك الأوراق التي تهرأت بحكم التقادم وسوء الاستخدام. فمعرفة معاناة المواطنين اليومية، والسعي الى تذليل صعابها، هي أخص خصائص من يتصدى للمسؤولية، وهي ايضاً أصل كل تقدم، وينبوع كل نجاح، ونسغ كل سعادة حقيقية، وركن كل ارتقاء اكيد على المستوى الفردي والاجتماعي والانساني.

لستُ مدافعاً عن البنك المركزي العراقي وما قدمه من منجزات، واخرها سعيه المثمر في احياء مشروع البناية العملاقة للبنك التي صممتها المعمارية الراحلة زها حديد لتكون منجزا عراقيا كبيرا، غير اني اقول كمختص في الاعلام منذ ستة عقود، ان البنك المركزي من خلال تعاونه المثمر مع رابطة المصارف العراقية الخاصة، اثبت القدرة على تأسيس مفهوم اقتصادي ومالي حضاري دولي نهضوي جديد، يعيد صياغة الاطر السابقة، وتغييرات في الذهنيات والمفاهيم، لاسيما ما يتعلق منها بمفهوم المسؤولية والعمل العام. فالمال والاقتصاد صنوان لا يفترقان.

اعيد التحذير: لا تفرطوا بمن بنى، بجهد وتمكن، تحت يافطة "ضرورة التغيير" فربما لهذه اليافطة مآرب، وفيها من منغصات، لا ينفع الندم تجاهها لاحقا.