حكايتي مع المتنبي

إلى أن حصلت على الليسانس لم أكن درست للمتنبي قصيدة، وإنما كانت شواهده تصلنا متناثرة أثناء محاضرات النحو عامة.
جائزة نادي أبها الأدبي كانت بداية حكايتي مع المتنبي، وفتنتي به، ومحبتي له، وغيظي منه
فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ** ولم تر قبلي ميتا يتكلم

يقول الدكتور ربيع عبدالعزيز أستاذ النقد الأدبي والبلاغة العربية بكلية دار العلوم جامعة الفيوم، والناقد والمفكر المصري الكبير: إلى أن حصلت على الليسانس لم أكن درست للمتنبي قصيدة، وإنما كانت شواهده تصلنا متناثرة أثناء محاضرات النحو عامة، ونحو مدرسة الكوفة بصفة خاصة، ثم كان أن نشرت مجلة "الفيصل" السعودية قرب نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، إعلانا عن مسابقة ينظمها نادي أبها الأدبي بين النقاد العرب، كانت المسابقة كلها عن المتنبي، والموضوعات التي يتسابق فيها النقاد ثلاثة هي: الصورة في شعر المتنبي، والطبيعة في شعره، وثقافته. ولكل موضوع جائزة واحدة فقط.
كان الموضوع الثالث "ثقافة المتتبي" بالغ الطرافة، فعكفت على القواميس؛ لأحرر معنى الثقافة، وخططت بحثي منوعا الثقافة إلى ثقافات، ثم عدت إلى شعر المتنبي لأستخرج منه الشواهد التي هي صلب البحث، فإذا أنا أمام بحر زخار لا يبلغ من شاء له قرار؛ فالمتنبي الكوفي المنشأ والتربية يقبل أقيسة نحاة البصرة، والمتنبي المفعم بالعروبة يتعاطى الأعجمي من الألفاظ، والمتنبي الملون بالفكر الشيعي يردد أقوال المتصوفة وأعلامهم وشاراتهم، والمتنبي ابن البيئة الحضرية يدمن من غريب ألفاظ اللغة ما لا يعرفه إلا أقحاح البادية، وما كان يستغلق على العالم اللغوي الأشهر: ابن جني.
في غضون شهر جمعت مادة البحث، ثم حررته في شهر آخر، وعلى الآلة الكاتبة  كتبه صديق من سوهاج، فجاء في أربعين صفحة من القطع الكبير. 
ويوضح البروفيسور ربيع عبدالعزيز قائلا: صورت البحث ثلاث صور وأرسلته بالبريد إلى نادي أبها.
الطريف أنني علمت، من صديقي الدكتور أحمد مختار مكي، أن الأديب السوهاجي الراحل فاروق حسان، سوف يشارك في المسابقة ببحث عن "ثقافة المتنبي"، ولكنه يواجه مشكلة في الحصول على عدد من المراجع الأصيلة؛ كالوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني، والصبح المنبي عن حيثية المتنبي للبديعي، والإبانة عن سرقات المتنبي للعميدي، والنقد المنهجي عند العرب لسيدي وتاج رأسي الدكتور محمد مندور.
في تلك الأثناء كانت بيني وبين فاروق حسان خصومة مستحكمة، ومع هذا عندما علمت من الدكتور أحمد أنه بحاجة إلى تلك المراجع، استأذنته قليلا، وما هي إلا دقائق معدودات حتى وجدني أقدم إليه المراجع، ولكني شرطت عليه شرطين: أن يعيد إليّ هذه المراجع بمجرد انتهاء فاروق من بحثه. هذا شرط. والآخر: ألا يعرف فاروق أن المراجع من عندي؛ حتى لا يظن أنني أتقرب إليه.  

Poetry
أنا في أمة تداركها الله ** غريب كصالح في ثمود

كعادته كان الدكتور أحمد بارا، فأوفى بما وعد، لكنه  قبل أن يغادرني سألني: أتساعد من ينافسك في موضوع بحثك؟ وماذا سيكون شعورك لو فاز فاروق بالجائزة؟ قلت له: في بلادنا مثل يقول: "الجيدة تنجع سيدها"؛ بمعنى أن المهرة الأصيلة لا تخذل فارسها، والمعنى المضمر في أحشاء المثل هو أن ثقتي كبيرة في أنني أحسنت عملي، وأن الله قطع على نفسه عهدا ألا يضيع أجر من أحسن عملا.
بعد شهرين أعلن نادي أبها نتيجة المسابقة لأفوز بالحائزة؛ التي كانت قيمتها تشتري شقة تمليكا (سوبر لوكس) في شارع ١٤ وهو آنذاك من أفخم الشوارع في مدينة سوهاج الحبيبة.
وكانت هذه الجائزة بداية حكايتي مع المتنبي، وفتنتي به، ومحبتي له، وغيظي منه.
ويروي البروفيسور ربيع عبدالعزيز أستاذ النقد الأدبي استدعى بحثي الموسوم "ثقافة المتنبي" أن أقرأ كل ما تقع عليه عيناي من مراجع أفردت عن المتنبي أو كان المتنبي فصلا من فصولها، وقد وجدت عونا بلا حدود من الأصدقاء العاملين في مكتبة كلية الآداب بسوهاج، ومكتبة رفاعة الطهطاوي، ومكتبة مديرية الثقافة بسوهاج، ومكتبة مدرسة سوهاج الإعدادية الحديثة بنات، ومكتبة الثانوية العسكرية بسوهاج؛ فقد كانت هذه المكتبات عامرة بالمراجع القديمة والحديثة. 
وقد لاحظت خلال إعداد البحث أن نقاد العرب لم يختلف اثنان منهم على أن الثقافة هي الرئة الأخرى للشاعر، لكني لاحظت أيضا أن هناك تناقضا بين إلحاح النقاد على أن يتسلح الشاعر بثقافة لا شاطيء لها، وبين تطبيقاتهم التي تعقبوا فيها سرقات الشعراء لأدنى مناسبة بين سابق الشعراء ولاحقهم، ودون أن يقيموا وزنا لما يترسب في اللاوعي الثقافي للشاعر من بقايا قراءاته ومحفوظاته التي كثيرا ما يتعذر عليه أن يتذكر ملابساتها؛ ولذلك أعددت بحثا من ثلاثين ورقة عنوانه ثقافة الشاعر؛ عازما على نشره علميا، وتصادف أن قرأ هذا البحث، زميلي الشاعر الناقد الدكتور عادل ضرغام، فأعجب به وقال لي: "هذا ليس بحثا، هذا مشروع كتاب". حقا مجالسة العلماء تربي (بضم التاء وسكون الراء).
أعدت النظر في البحث فكان أن عالجت موضوعه في كتاب يجاوز المائتي صفحة صدرت طبعته الأولى عن دار الفتح عام ١٩٩٧، وقسمته فصولا ثلاثة؛ الفصل الأول بعنوان: الثقافة الشعرية، والثاني عنوانه: الثقافات العامة، والأخير عنوانه: الثقافة والأصالة. وقد تقدمت بهذا الكتاب مع أربعة أبحاث أخرى للجنة العليا الدائمة للترقيات في آداب اللغة العربية، وبحمد الله وفقت في الترقية، وحظي هذا الكتاب تحديدا بإعجاب أحد كبار المحكمين وهو أستاذي الدكتور عفت الشرقاوي.
هكذا أخذت بركات المتنبي تحل تباعا؛ فالبحث عن ثقافته أهداني كتاب "ثقافة الشاعر"، ومن هنا ازددت بالمتنبي تعلقا وله حبا يصل أحيانا إلى حد الانبهار أو ما يشبه الانبهار، وينقلب أحيانا أخرى إلى غيظ وعتاب خاصة حين يغني لكافور متنازلا عن موقفه المناويء لطاعة العرب أعاجم الحكام، فكان  الغيظ  منه يفعمني حتى أقول له "لا تقايض على مبادئك يا أبا الطيب"، وكأنه يجالسني فيسمع لي وأسمع له.  
يقول الدكتور ربيع عبدالعزيز خلال بحثي عن ثقافة المتنبي أهداني كتاب "مع المتنبي" للدكتور طه حسين نواة كتابي "المبالغة في شعر المتنبي"؛ فقد ذكر العميد أن المقابلة والمبالغة هما أميز ظاهرتين فنيتين في شعر المتنبي، ومن حسن الحظ أنني كنت قد اقتنيت شرح اليازجي لديوان المتنبي، والموسوم بـ "العرف الطيب في شرح ديوان ابي الطيب".
عكفت على معاجم اللغة وكتب النقد والبلاغة لأضبط المبالغة لغة واصطلاحا، ووجدت المبالغة تشتبك مع قضايا العرف والعادة وما يقبله العقل وما يرفضه، ومن هنا ارتبطت بقضايا الصدق والكذب وهما أمران نسبيان كثيرا ما يتعذر القطع فيهما برأي، بل وجدت المبالغة تتأرجح في كتب البلاغيين؛  فالمتأخرون منهم يسجنونها في البديع المعنوي، وابن جني ويوافقه ابن رشيق يؤكدان أن الاستعارة إن لم تكن للمبالغة فلا حاجة إليها، وهذا الرأي يخرج المبالغة من سجن البديع المعنوي ويدخلها في علم البيان، بل إن قلب التشبيه لا يستهدف أكثر من المبالغة، ومن ثم تزداد دخولا في البيان. 
كما أن الإطناب يراد به المبالغة، ومن ثم فهو يدخلها دائرة علم المعاني، وبالطبع فالحكم على المبالغة بالفبول والتوافق أو التحالف مع العرف والعقل هو نقد أدبي لا بلاغة فيه، وهكذا تفرقت دماء المبالغة بين علوم البلاغة والنقد الأدبي.

ووجدت المبالغة تنجب مصطلحات أخرى كالتبليغ والإغراق والغلو، وأمام هذا الشتات، وأمام اقتصار الكتاب على دراسة مبالغات المتنبي، لم يكن بد من إفراد فصل من الكتاب يختص بالمصطلح وتشابك علاقاته، وفصل ٱخر عن المبالغة في شعر المتنبي، وكانت أكثر مبالغات المتنبي في الفخر الشخصي،  والمدح، والوصف، وأقلها في الغزل؛ أما الفخر فنراه فيما يكتظ به شعره من ضمائر الأنا، ومن تشبه بالأنبياء تارة، وتشبه بالله تارة أخرى؛ فهو تارة يتشبه بالمسيح بين اليهود، وبالنبي صالح في ثمود؛ وذلك في قوله:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ** كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله ** غريب كصالح في ثمود
وهو تارة أخرى يشبه نفسه بالخالق تعالى سبحانه عن المثيل، فيقول:
كأني دحوت الأرض من خبرتي بها ** كأني بنى الإسكندر السد من عزمي
أرأيت كيف يحمله الغرور على التشبه بمن يدحو الأرض - سبحانه وتعالى - ثم ينحط إلى التشبه بالإسكندر!
اما المدح فقد شفّ عن رقة دين المتنبي وجرأته على المقدس أيضا؛ ومما يؤكد رقة دينه أنه يطرد إبليس بمجرد ما يذكر اسم ممدوحه محمد بن رزيق؛ يقول:
يا من نلوذ من الزمان بظله ** أبدا، ونطرد باسمه إبليسا
وهو يضفي على ممدوحه محمد بن إسحق صفات خوارق تجعله متحكما في الأرزاق؛ يقول:
فما ترزق الأقدار من أنت حارم ** وما تحرم الأرزاق من أنت رازق
ونراه  ينال من المقدس حين يمدح بدر بن عمار بقوله: 
يا بدر إنك والحديث شجون ** من لم يكن لمثاله تكوين
لعظمت حتى لو تكون أمانة ** ما كان مؤتمنا بها جبرين
ويضفي على سيف الدولة صفة العلم بالغيب، فيقول:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى ** إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
وهو يتلاعب بالدال (التوحيد) في بيت غزلي يقول فيه:
يترشفن من فمي رشفات ** هن فيه أحلى من التوحيد
وقد تخونه المبالغة في وصف حياء الحسين بن إسحق التنوخي، فيقول:
ورقة وجه لو ختمت بنظرة ** على وجنتيه ما انمحى أثر الختم
فهذا الوجه أقرب إلى وجه فتاة عذراء، وهاتان الوجنتان اللتان لا يغادرهما أثر النظرة، أشبه بوجنتي عذراء يوسفية الجمال.
وبرغم خشونة المتنبي وتمجيده عقيدة القوة فقد بدا منبهرا بالجمال الأنثوي، معبرا بالمبالغة عن قدرة الحسناوات على إحياء سالف الأمم؛ بدا ذلك في قوله:
قبلتها ودموعي مزج أدمعها ** وقبلتتي على خوف فما لفم
قد ذقت ماء حياة من مقبلها ** لو صاب تربا لأحيا سالف الأمم
ومن عجب أن المتنبي الذي يتشبه بالخالق والنبيين، والذي يعتقد أنه لا أحد فوقه ولا أحد مثله، هو بعينه الذي يبدو ذاهلا أمام الجمال الأنثوي؛ على نحو ما نجد في قوله:
فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ** ولم تر قبلي ميتا يتكلم
بفرع يعيد الليل والصبح نير ** ووجه يعيد الصبح والليل مظلم
شكرا لنادي أبها الأدبي، التي كانت مسابقته وراء معرفتي بالمتنبي، وحبي له، وغيظي منه، واستمرار صحبتي له. شكرا للدكتور طه حسين الذي أهداني بكلمتين منه كتابا من أحب كتبي إلى نفسي.