خزيمة العايد ينسج فسيفساء جواهره من لآلىء الهواء والتراب

الفنان التشكيلي تصل بسر الحياة وأحجيتها وتمائمها حتى يلامسها وهي تتدلى من فضاء مؤسساً عالماً فيه يمتزج الواقعي باللاواقعي والطبيعي بفوق الطبيعي وكأنه يكسر الحد الفاصل بين الغرائبي بكل تجلياته وبين الطبيعي بكل مفرداته.

"الأرض والسماء" كلمتان سبق إن أطلقهما خزيمة العايد (1985) على أحد معارضه، وكذلك قال فيهما عدنان الأحمد مدير وصاحب دار وغاليري الكلمات بإسطنبول على هامش تقديمه لمعرضه المقام حالياً "خزيمة فنان يعيد إنتاج وتخصيب الأرض والهواء"  في الغاليري ذاته ما بين 19-1-2019/ 10-2-2019.

كلمتان تكادان تلخصان حكاية خزيمة العايد، برموزها وعمقها وألوانها، بمفرداتها وتفاعلاتها، بخيوطها وموسيقاها، فخزيمة العايد كأحد الأسماء الشابة، الهامة، العائمة في المشهد التشكيلي السوري المعاصر لا يتأمل السطوح بل يتأمل الأعماق والغوص فيها لجني لآلئها وسحرها، فهاجسه أن ينفذ للداخل، وبين عبابات السماء، داخل الأرض، بين شرائحها وطبقاتها وكأنه جيولوجي، يتعامل معها بمتغيراتها الدائمة، فيرجع إلى حركاتها وكأنها رؤياه، ويتعامل معها ضمن قيمتها المعرفية / الجمالية، فيملىء عالمه بأسرارها، جاعلاً من ألوانه رقصة لا تنتهي هديرها، فهذا التصوير المكتظ بمشاعره وأحاسيسه يدفعانه إلى ممارسة فعلي الإبداعي / الحياتي، بإثارة فيها من الاكتشاف والمتعة ما يجعلانه أنموذجا متميزاً للسفر في الأرض والسماء، والعودة بتفاصيل دقيقة، هي التي ستتماوج بين أصابعه مشكلة حالات جد عذبة، وبملامح يلوح فيها تفاصيل البوح الداخلي للتراب، وللهواء، وكأنه يتخفى فيه إلى اللانهاية.

ولذلك فنحن إزاء مغامرة تؤثث الذاكرة من موقف جمالي يمضي به في قارته الباطنية التي يكتشفها العايد رويداً رويداً، يمضي به في سمواته التسع، فالحرية التي يمارسها العايد وهو يقلب طبقات الأرض، أو وهو يجمع صفحات السماء، ويدبغها بألوانه التي يخلقها هو، بحركاته التجريبية التي تستقطب دعواته المختلفة وغير الخاضعة لقوالب مسبقة الصنع ليحملها إلينا برغبة وحب، وبصيغ غير جاهزة، بل بصيغ مرتبطة بأجنحته وهي تسبح في باطن الأرض، وباطن السماء، فهو وأقصد العايد يتصل بسر الحياة وأحجيتها وتمائمها حتى يلامسها وهي تتدلى من فضاء مؤسساً عالماً فيه يمتزج الواقعي باللاواقعي، والطبيعي بفوق الطبيعي وكأنه يكسر الحد الفاصل بين الغرائبي بكل تجلياته وبين الطبيعي بكل مفرداته، وهذا ما يجعل نزيف لوحته يختلط بقوة بنزيفه هو، ليتدفقا معا في عالم فيه الزمان والمكان يذوبان معاً، فلا معنى لهذا الإنصهار خارج ما ترويه تحولاته الغائرة في الفضاء كحبات خرز وهي منسوجة من حقول السماء حيناً، أو من شقوق الأرض وهي تتوثب بين فرشاته وأصابعه وفضاء العمل الذي أمامه، ليسرد عليها ولنا سيرته وسيرة الهواء والأرض، بإقدامه على تكثيفها والإنخراط في مقولاتها الفنية دون أن يعير لكلماتها الناقصة مكنوناته، ليستجيب لتلك المغامرة التي تجعله يبحث عن كوكب يكون نتاجه هو، يكون خلطته السحرية من هوائه وترابه، الخلطة التي ستكون روح تجربته على إمتدادات زمنية .

خزيمة العايد يفسح المجال لوسائط الإنتقال من حالة إلى أخرى دون أن يسقط في براثين الحيرة والتردد، وبذلك يفرق بين مرحلة الإنتاج وبين إستراتيجية التأسيس الذي يذهب إليه وإن كان شاباً مازال يبحث عن شق طريق في هذا الحقل الجميل الصعب، فهو بحماس يسعى إلى مقاربات معاصرة لإرساءات تشكيلية تكون مواكبة لفعله الإبداعي، والمرتهن لنظرته الموضوعية للفن المعاصر وما تحمله من المؤثرات الفاعلة على نحو تلقائي بالمشهد البصري الحامل لذاكرة غير مثقوبة ولطاقة هي على صلة بأكثر الإحتمالات الجمالية ولا سيما بتلك الإنعطفات التي باتت مجالاً لتوالدات لا تقف حائرة في المفترقات الكثيرة، فالعايد وبمواكباته لأمواجه الفنية لا يسمي الأشياء بألوانها، بل بمفاهيمها وما يؤسس عليها، وبتحولاتها وما يسند عليها، وبجوانبها وما تنسجها الإنسانية حولها من تعدد الوسائل التقنية والإبتكارات التي تتدفق من الحركة الحاملة لبوصلة الطموح الذي لا ينتهي.