خلفيات إسقاط الطائرة الأميركية وتداعياتها

الأميركيون مثلهم مثل الإيرانيين، يمارسون لعبة التصعيد وضبط الاعصاب سوية.

لم تكد حوادث ناقلات النفط تمر بسلام خلال الأسابيع الماضية، حتى انتقل التوتر من البحر إلى الجو بعد إسقاط إيران لطائرة التجسس الأميركية. ورغم أن الحادث ربما يعتبر من الناحية المبدئية حادثا يأتي في سياق تصعيدي مألوف بين الطرفين، إلا انه يؤشر إلى الانتقال لسياقات أخرى ضمن منسوب التصعيد الحالي، بمعنى أن حدوده وآلياته هي منضبطة إلى حد كبير.

وعلى الرغم من وضع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أصبعه على الزناد، إلا انه تراجع قبل تنفيذ عملية عسكرية ضد إيران بعشرة دقائق. وبصرف النظر عن جدية اتخاذ القرار من عدمه، ثمة مؤشرات ترافقت مع الحدث تشي بمضي واشنطن في الضغط على طهران بهدف إجبارها للجلوس إلى طاولة المفاوضات، وهو ما أشار إليه الرئيس الأميركي بعد إسقاط الطائرة، من أن واشنطن مستعدة للتفاوض دون شروط مسبقة، على أن يكون البرنامج الصاروخي الباليستي الإيراني جزءا من أي اتفاق محتمل.

وعلى الرغم من حساسية الحادثة لجهة نوعية الطائرة وما تمثله من في سلم الجهاز الاستخباري الأميركي ذات النوعية الإستراتيجية عالية المستوى، إلا أن واشنطن وضعت الحادث في سياق استثماري لجر طهران إلى هدف محدد لم تتمكن الولايات المتحدة من تحقيقه إبان مفاوضات البرنامج النووي قبل الاتفاق الذي تم التوصل إليه مؤخرا، والذي انسحبت منه واشنطن. وفي الواقع إن التدقيق في سياقات تلك المفاوضات يظهر بشكل جلي إصرار واشنطن آنذاك على وضع البرنامج الباليستي من ضمن سلة متكاملة إلى جانب البرنامج النووي، ذلك بدفع واضح من إسرائيل، إذ أن المفاوضات كادت أن تتعثر وتتوقف في إحدى مراحلها بسبب المطلب الأميركي الإسرائيلي.

وفي الواقع أيضا، يعتبر البرنامج الصاروخي الأكثر قلقا لدول المنطقة وفي طليعتها إسرائيل، لما يمكن أن يمثل ثقلا نوعيا في موازين القوى القائمة أولا، وما تعتبره إسرائيل خطرا نوعيا على أمنها الحيوي في حال نشوب أي حرب إقليمية واسعة ومتعددة الأطرف؛ وربما ذلك ما يبرر أو يعزز صحة الإنباء التي أشارت إلى تدخل إسرائيل لدى الإدارة الأميركية في اللحظات الأخيرة لوقف تنفيذ الضربة الأميركية لإيران بعد إسقاط الطائرة.

وفي أي حال من الأحوال لجهة خلفيات إسقاط الطائرة وجهات الاستثمار في الحادث، يبقى أن مستوى التصعيد القائم وان بدا خطيرا في لحظة ما، وخروجه على قواعد اللعبة المتعارف عليها، منضبط وقابل للاحتواء أميركيا وإيرانيا، إذ أن الطرفين حتى الآن لا يريدان الحرب للكثير من الأسباب الخاصة لكل منهما؛ فالرئيس الأميركي هو في خضم حملته الانتخابية لولاية ثانية، ومن المستحيل بمكان تقدير نتائج الربح والخسارة في حال اندلاع أي اشتباك وتوسعه إلى حرب إقليمية شاملة، علاوة على إن طهران تدرك جيدا حجم القوة الأميركية واستحالة حسم أي حرب معها، وبالتالي حاجة الطرفين إلى احتراف وسائل الاستثمار في أي حادث طارئ أو مفتعل.

ثمة مظاهر جديدة طرأت حاليا في أحجام وأوزان وعناصر القوة التي تمتلكها الدول، وهي مختلفة عما ساد لعقود ولقرون سابقة، علاوة انه هذه الأوزان لم تعد تقليدية لجهة استعمالها والحصول على نتائج محددة لها. فكثير من الدول التي تمتلك قوى كاسحة وحاسمة على الصعيد العالمي ومنها الولايات المتحدة لم تعد قادرة على استعمال عناصر قوتها المفترضة كما تشاء، بل تبدو هذه الدول وأيضا الولايات المتحدة مجبرة على التعامل مع خصومها وأعدائها بوسائل لا تتناسب مع حجم القوة وأنواعها وعناصرها التي تمتلكها فعليا، وهذا ما يفسر عمليا تراجع هيبة الولايات المتحدة عالميا. وفي المقابل، يبدو أن طهران احترفت وسائل الاستثمار واستفادت من تجارب كثيرة سابقة مع واشنطن منفردة أو من خلال تجارب واشنطن مع بيونغ يانغ سابقا.