دعوا اللاجئين الفلسطينيين يقررون مصيرهم

لا نتكل على "حق العودة" لنتلافى التوطين.

عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم حق قائم إلى الأبد من الناحيتين الوطنية والإنسانية، وساقط منذ أمد من الناحية العملية. وجاءت "صفقة القرن" اليوم بعد "اتفاق أوسلو" لتؤكد المؤكد. حتى أن قرار "حق العودة" الصادر عن الأمم المتحدة في 11/12/1948 غامض وقابل التأويل ولا يلحظ وجوب العودة الإلزامية والكاملة والجماعية، فورد فيه: "وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم". عدا أن نص القرار مليء بالفخاخ (السماح، في أقرب وقت، الراغبون، ديارهم، العيش بسلام، إلخ...)، فهو يعني اللاجئين كأفراد وليس كشعب، كما أنه صدر في إطار مشروع تقسيم فلسطين. أما وأن العرب رفضوا التقسيم آنذاك، فحق العودة صار إشكاليا.

وأصلا، قرار العودة وضع لتمرير قيام دولة إسرائيل، لغش الشعب الفلسطيني، لإقناع الدول المضيفة باستقبال اللاجئين، لتغطية التنازلات في الاتفاقات السلمية، ولتخفيف ثقل تأنيب الضمير على الدول التي تشاركت في سلخ الشعب الفلسطيني من أرضه وزرع إسرائيل. فلا نتكل، بالتالي، على "حق العودة" لنتلافى التوطين.

سبعون سنة انقضت على التهجير المأساوي، والفلسطينيون لا يملكون سوى "حق الانتظار". لا الذين رغبوا عادوا ولا الذين دجنتهم الغربة قبضوا تعويضات. ونتائج الحروب الإسرائيلية/العربية/الفلسطينية، ونوعية اتفاقات السلام الجزئية والمنفردة أدت إلى كل شيء إلا إلى عودة اللاجئين. في الحروب خسر الفلسطينيون حق عودة الأراضي إليهم، وفي اتفاقات السلام خسروا حق عودة اللاجئين إليها. وكلما كانت الأراضي تنحسر فيستولي عليها الإسرائيليون، كان عدد اللاجئين يتكاثر.

إن مجرد قيام دولة إسرائيل في حدودها المطاطة يحول تلقائيا دون بقاء الفلسطينيين في أرضهم مع الزمن أو عودتهم إليها. لذا لا يستطيع العرب والفلسطينيون أن يعترفوا بدولة إسرائيل من جهة، ويطالبوا بحق العودة من جهة أخرى. ومسار تطور الحركة الديمغرافية بين اليهود والفلسطينيين منذ سنة 1948، يكشف أن رفض إسرائيل حل الدولتين نابع من رفضها وجود شعبين على تلك الأرض. وما إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في أراضي الضفة الغربية إلا لتصغير أرض السلطة والحؤول دون قدرة استيعاب فلسطينيي الداخل، فكيف بفلسطينيي الشتات؟

مع رغبة اللاجئين الصادقة بالعودة إلى فلسطين، تبين الوقائع اليومية أنهم فقدوا الأمل فيها، ويبحثون عن مستقبلهم الفردي والعائلي أكثر مما عن مصيرهم كشعب. حين اللاجئون الفلسطينيون يطالبون الدولة اللبنانية بحق التملك والعمل والضمانات الاجتماعية وبممارسة حياة طبيعية كسائر المواطنين اللبنانيين، ويتظاهرون أمام بعض السفارات الأجنبية - لا العربية - مطالبين بالهجرة، يكشفون عن أنهم يتدبرون مصيرهم الذاتي بمنأى عن مشروع العودة إلى الوطن الأم. بلغ بهم اليأس أن يريدوا سمة سفر إلى دول بعيدة لا جنسية فلسطينية للعودة إلى فلسطين.

إن اللاجئين الفلسطينيين يبدون واقعية أكثر من بعض قياداتهم ومنظماتهم الذين يدغدغون عواطفهم بمشروع العودة ويبقونهم في مخيمات التعاسة عوض تأمين انتقالهم إلى دول توفر لهم الكرامة والحياة الكريمة. هناك أطراف فلسطينية، خوفا من أن تصبح عاطلة عن العمل والارتزاق، توظف اللاجئين الفلسطينيين في مشاريع إقليمية لا علاقة لها باستعادة فلسطين. وهناك أيضا أطراف لبنانية استغلت وما زالت تستغل الفلسطينيين ومنظماتهم في صراعاتها اللبنانية.

أفهم أن يرفض إخواننا الفلسطينيون مغادرة أرضهم إلى أرض أخرى، لكني لا أفهم ألا يغادروا أرضا لبنانية ضيقة إلى دول أخرى فسيحة. أفهم أن يرفضوا مغادرة منازل مريحة إلى مخيمات، لكني لا أفهم ألا يغادروا المخيمات إلى المنازل المريحة. أفهم أن يرفضوا مغادرة دولة تؤمن لهم المدرسة والجامعة والطبابة والعمل والضمانات، لكني لا أفهم ألا يغادروها إلى دول أخرى توفر لهم هذه الحقوق. أفهم أن يرفضوا مغادرة الهناء والازدهار والبحبوحة، لكني لا أفهم أن يبقوا في البؤس والشقاء والفقر.

ليس جرما إنقاذ اللاجئين الفلسطينيين من مأساتهم المستمرة منذ عقود بتنظيم إعادة انتشارهم، لكن الجرم أن نبقيهم محتجزين ورهائن ونذرف دموع التماسيح ونطلق المزايدات، فيما ندرك تعذر العودة إلى فلسطين. لماذا نتقبل هجرة اللبنانيين، ولهم وطن، ونستهول هجرة الفلسطينيين، ووطنهم سليب؟ فمن ساواك بنفسه ما ظلمك. صحيح أن جميع الحلول المطروحة ظالمة بحق الفلسطينيين ما دامت لا تلحظ العودة إلى فلسطين. الفارق هو أن تكون مظلوما وتعيش في شقاء، أو مظلوما وتعيش في هناء.

تجاه هذه المعطيات، تحتم مصلحة الفلسطينيين، قبل مصلحة اللبنانيين، طرح موضوع استمرار وجودهم في لبنان بمعادلة: إذا توطنوا سيتقسم لبنان، وإذا لم يتوطنوا سيعيشون في البؤس. ولأننا نرفض التقسيم نواجه التوطين، ولأننا نأبى بؤس الفلسطينيين نقترح إعادة انتشارهم. لا يستطيع لبنان أن يبقي على أرضه الصغيرة وفي مجتمعه الرهيف نصف مليون لاجئ فلسطيني بانتظار "حق العودة" الأبدي. ولا يجوز لإخواننا الفلسطينيين أن يأخذ على خاطرهم ويروحوا ينعتوننا بالعنصرية. لقد قمنا بأكثر من واجباتنا الإنسانية والسياسية والأخلاقية رغم التجارب الأليمة. بعد إعلان "صفقة القرن"، حان الوقت لنقول: "لبنان أولا".

في اجتماع مع ممثلي الكنيسة المارونية نهار الجمعة 22 كانون الأول 1978، قال الرئيس الياس سركيس: "إذا كان التوطين سيحصل ويحدث اختلالا لصالح المسلمين في لبنان، فمن الضروري التفكير بالفدرالية" (كتاب "حارس الذاكرة - المحاضر السرية للبطريرك صفير" - جورج عرب ص 193).

ذاك الرئيس الحكيم ما عساه يقول اليوم حين يعرف أن إخواننا الفلسطينيين أضيف إليهم مليون ونصف مليون نازح من إخواننا السوريين؟