دولة ورقية عصية على السقوط

العراق دولة في إمكان أي معمم صغير أن يسخر منها ويحث أتباعه على اختراق قوانينها.

في العراق دولة لا يمكنها التحكم بحركة مواطنيها في زمن الأزمات. تلك حكاية مؤلمة هي جزء من الكارثة التي قلبت الامور رأسا على عقب. فمَن عاش في العراق عبر مراحل تحولاته السياسية السابقة للاحتلال يعرف جيدا أن مفرزة شرطة كان في إمكانها أن تفرض حظر التجوال في مدينة إذا ما قررت الدولة ذلك. ولكن عهد الدولة القوية انقضى ولن يُستعاد.

الدولة اليوم هي أضعف من أن يلتفت أو يستمع إليها أحد.

في إمكان رجل دين مغمور أن يحرض الجماهير على كسر قوانين تلك الدولة والعبث بها من غير أن يخشى غضبة من أحد. لقد تم تركيب تلك الدولة من عيدان ثقاب وهي تخشى أن تحترق إذا ما اقتربت منها أية نار، مهما كانت تلك النار ضعيفة.

تمارس الدولة وظيفتها بطريقة افتراضية. ما من تماس واقعي بينها وبين الشعب. وليس مطلوبا منها أن تتعرف على ذلك الشعب. فهي تقيم في منطقة محصنة داخل حدود يحرسها جنود مدربون على التصدي لحالات الشغب. ذلك يعني أن تلك الدولة ليست معنية بالجغرافيا التي تشير إلى حدود العراق مع دول مجاورة ومن ضمنها طبعا دولة كردستان التي تساهم في تكريس مفهوم دولة المنطقة الخضراء التي صارت تمثل دولة العراق مجازا.

لا يتعلق الامر بوجود فراغ سياسي أو أن لا تكون هناك حكومة بكامل الصلاحيات. ذلك لأن العراق باعتباره دولة صار مجهولا على مستوى الجهة المسؤولة عنه بعد أن تم تدمير دولته الوطنية واختصرت إرادة شعبه بالتمثيل الطائفي والعرقي الذي احتكرته الأحزاب لتكون هي متعهد الحفلات الديمقراطية التي صار العراق يشهدها كل أربع سنوات.

في حقيقة ما جرى فإن الدولة تحررت من الشعب الذي تحرر بدوره منها.

لقد تُرك الشعب على هواه بشرط أن لا يزعج الدولة التي انصب عملها على توزيع إيرادات النفط حصصا على المستثمرين المحليين والأجانب الذين سلمهم المحتل الأميركي مفاتيح البنك المركزي العراقي.

كانت الاحتجاجات التي بدأت في تشرين الأول 2019 مزعجة لتلك الدولة. لذلك سُمح للميليشيات الإيرانية التي هي موقع ثقة بالنسبة لأطراف عديدة أن تتصدى لتلك الاجتجاجات بالطرق التي تجدها مناسبة. اما يتم أن اختراق حظر التجول الذي تفرضه الدولة بسبب وباء كورونا من أجل زيارة الامام موسى بن جعفر "الكاظم" فإن ذلك لا يستوجب رد فعل يذكر بهيبة الدولة.

دولة العراق الجديد هي في غنى عما يُسمى بالهيبة. تلك مفردة قديمة تم تجاوزها في قاموس الحياة السياسية في العراق. 

تلك دولة تحافظ على نفسها عن طريق تقاسم الحصص بين الأحزاب. هناك حرص بين الأطراف التي يكره بعضها البعض الآخر على أن تبقى تلك المعادلة مستقرة وثابتة.

في سياق تلك المعادلة يرد ذكر الشيعة والأكراد والسنة ولكن المقصود هي الأحزاب التي احتكرت تمثيل تلك المكونات وصارت تدير تلك الدولة الافتراضية التي هي أشبه بصفحة على "فيسبوك".

وهنا بالضبط يقع الفرق بين ما يحلم به الشباب المحتجون وبين ما تفكر فيه أصنام الدولة العراقية الجديدة. ذلك تحد مصيري أعتقد أن الشباب المحتجين كانوا مدركين لما ينطوي عليه من أخطار.

فالدولة الورقية أو الافتراضية كانت نتاج تسوية اميركية إيرانية. وهنا يكمن مصدر قوتها. بمعنى أن تلك الدولة ستظل قائمة مثلما هي ما دام الطرفان (الاميركي والإيراني) في حاجة إلى تسوية تبقي على الأبواب التي تفصل بينهما مفتوحة.

هذا هو سر بقاء دولة لم يتمكن شعب بأكمله من اسقاطها بالرغم من أن في إمكان أي معمم صغير أن يسخر منها ويحث أتباعه على اختراق قوانينها.