د. عبدالله إبراهيم.. الاستبداد قد يكون أحد مجالات الإبداع السردي

المفكر والكاتب العراقي لا ينكر أن شخصيته وأعماله الإبداعية تكونت ونمت فيما يعرف بـ'الفترة الاستبدادية'.

السرد الروائي هو أحد مجالات الإبداع الفكري والقيمي والجمالي الذي تعبر عنه مراحل الكتابة، وهو الأسلوب الذي يستطيع من خلاله الروائي أن يشق طريقه وعالمه الخاص نحو ولوج بحار الغوص في أعماق السرد، وينهل من عبق اللغة ومن عالمها السحري الجمالي، لكي يرتقي الروائي إلى المرحلة التي يكون فيها الكاتب قد كسب جمهورا واسعا، عندما وجد ضالته القيمية والفنية والمضمون الهادف الذي يتوافق مع رؤاه وتوجهاته وطموحاته في أن يجد أدبا راقيا يشعر من خلاله أنه وكتاباته وروايته إنما تعبر عن طموحات المجتمع، وما يأمل أن تكون عليه مسارات شخصيته وإبداعه نحو بلوغ سلالم الشهرة والنجاح، حين يرتقي بالذائقة الفكرية والسياسية والمجتمعية لتبدو زاهية في أبهى صورها.

ويعد د. عبدالله إبراهيم أستاذ الدراسات السردية والنقدية أحد الكتاب والمفكرين العراقيين اللامعين ومن ظهرت لهم عشرات الكتب والمؤلفات التي تناولت مفهوم السرد الروائي، عرض فيها أساليب النقد ونظرياته، ومجالات أدبية أخرى كثيرة، وهو ينصح الروائي الناجح بأن لا ينظر إلى ما يراه النقاد على أنه عملية كبح لتوجهاته الفكرية، بل عليه أن لا يطلع على ما يفرضه النقاد من وجهات نظر إن أراد السير في صعود سلالم الإبداع، ولا يتضايق الكاتب مما يقوله عنه النقاد.

لكن ما هو أكثر أهمية في حواره مع قناة الشرقية وبرنامج طبعة محدودة هو نظرته إلى حقبة الاستبداد في مراحل الثمانينات والتسعينات، كونها كانت، كما يراها، (المرحلة الأكثر إنتاجا وغزارة في الإبداع السردي والروائي)، وهي من حفزت كتابا كثيرين للتعبير عما يختلج في ضميرهم وتفكيرهم من رؤى خيالية وتعبيرية، من أجل الارتقاء بالقارئ العراقي والعربي إلى ما يرضي طموحه، في أن يجد أدبا يرتقي إلى ذائقته، ويجد فيه مبتغاه آخرون لركوب موجة الإبداع السردي من أوسع أبوابها.

يقول المفكر والكاتب الدكتور عبدالله إبراهيم في هذا الحوار أنه بالرغم من أن الاستبداد الذي عاشه العراق في حقب مختلفة، قبل مرحلة الاحتلال، قد خلف فرقة في مجتمعنا بدل أن يوحده، لكن الاستبداد آنذاك استطاع صهر وسبك المجتمع العراقي، وقرب مسارات رؤاه نحو التلاقي والانصهار في كثير من المشتركات التي يجد فيها أنها قوة لمجتمعه وتحقق السلم الأهلي في ربوع وطنه وأمته، لكن الأمر الغريب هو أنه عندما انهار الاستبداد بعد عام 2003، تفككت الجماعات أكثر، بالرغم من أن هدف التغيير كان هو التقريب بين الجماعات وليس إعادة تنافرها وتصارعها من جديد.

وهنا يعود الكاتب والمفكر المبدع د. عبدالله إبراهيم ليوضح لأي كاتب يريد أن يبدع في مجالات السرد الروائي، ليشير له إلى أن المادة السردية عندما تقرأ من قبل النقاد تفقد الكثير من ألقها، ولهذا ينصح الروائي بعدم الالتفات إلى النقاد وآرائهم في روايته، لأن النقد أحيانا يفقد الرواية جمالية مضمونها لدى القارئ، والروائي الجيد ينبغي أن لا يأخذ برأي الناقد، لكن عليه أن يحافظ على خصائص السرد وأساليبه، دون أن يلتزم بها على طول الخط، وليس بمقدور الروائي أن تقف بوجهه أية محددات أو أطواق نقدية محددة، عندما يبحر في مجالات السرد القصصي أو الروائي، وأسلوب الكاتب ومضمون عمله الإبداعي هو من يملي عليه أن لا تقف بوجهه محددات أو كوابح تعرقل وصوله إلى مبتغاه في الشهرة والتألق.

وهنا يشير الكاتب إلى أنه كان، وما يزال، من أشد المعارضين للاستبداد، لكن في السنين الأخيرة، وعندما افتقدنا للسلام والأمن الأهلي، كما يقول، بدأت الجماعات تتضارب وتتقاتل على فرضيات معظمها (وهمية) بشأن هوياتها أو ما عبرت أحزابها وقواها من وجهات نظر، أرادت فرضها مرة أخرى على مجتمعها.

وقد انتهى الكاتب إلى فكرة مهمة وهي أن الحقبة الاستبدادية في تاريخ المجتمعات تكون مفيدة أحيانا، لأن فيها تسبك وتنصهر الجماعات العقائدية والمذهبية واللونية الكثيرة.

وهو حين يركز على مفهوم الاستبداد لا يعني أنه يحب حقبتها أو يتمناها، لكن الدولة الاستبدادية، كما يقول، هي الوسيلة لصهر الجماعات المتصارعة أو المختلفة فكريا أو أيدلوجيا أو قوميا، أو تلك التي تسعى للحفاظ على هوياتها أو ما شاكل ذلك، لتصل إلى المشترك الأعلى للمواطنة، وفق أيديولوجية أو فكرة معينة، تأخذها الدولة لصهر تلك الجماعات وتوحيد رؤاها حول مشتركات بعينها، لا لسحق هوياتها.

ويضيف: لقد مرت بمرحلة الاستبداد دول أوروبية كثيرة في القرن التاسع عشر في فرنسا وإيطاليا وعاشها الألمان والأتراك وحتى إيران، ونحن في البلاد العربية مررنا بهذه التجربة، لكننا لم نجن منها شيئا، لأن الاستبداد كان استبدادا عنيفا والصهر صهر عنيف، وهو لم يساعد في صهر وسبك الجماعات نحو هوية مجتمعية لها هدف ومواطنة كاملة، حين سعت للحفاظ على بعض أوضاعها وهوياتها الفرعية.

ويعرج الكاتب إلى مراحل تاريخية مهمة من حياة بلده العراق، مشيرا إلى أننا في العراق، وحتى في بلدان عربية أخرى، تلك التي مرت بتجربة مشابهة لنا، فقد خلق الاستبداد فرقة بين الجماعات، بدل أن يمسك بها وبهوياتها وبوجودها كمكونات وأقليات، ولهذا عندما انهار الاستبداد تفككت الجماعات أكثر من ذي قبل، وتولدت لديها نقمة من نوع آخر، لأن الجماعات الصغيرة أصبحت ضحية جماعات كبيرة أخرى، وهي تحاول أن تعيد نفسها لمواجهة الاستبداد الذي تتعرض له ضمن مجتمعها من الكتل الكبيرة التي تسعى للهيمنة عليها.

ولا ينكر المفكر والكاتب د. عبدالله إبراهيم أن شخصيته وأعماله الإبداعية تكونت ونمت فيما يعرف بـ"الفترة الاستبدادية"، فالاستبداد، كما يقول، حقبة عاشها العراق وما يزال يعيشها، وبخاصة في فترة الاحتلال وما بعده، متسائلا: ما هو التغيير الذي حصل؟.. في وقت كان المطلوب من التغيير أن تتغير مفاهيم المجتمع نحو الانصهار والصقل المجتمعي، وهو أيضا لا ينكر أن حقبة الاستبداد قد تركت بصماتها الكبرى على شخصيته، لأنها كانت هي النموذج الإرشادي الذي، حسبما يقول، تعلمنا ودرسنا وعشنا وفكرنا في إطاره.

لقد وجدت حقا أن آراء الرجل ومفاهيمه فيها كثير من المصداقية عن أهم فترة عاشها العراق في تأريخه المعاصر، كانت مهمة للغاية، وهي تعكس رؤيا صادقة وواقعية، لما أراد أن يرسم معالم تطورها، وما وصلت إليه من تناحر وصراعات، وقد سعت تلك القوى الاستبدادية في فترة ما بعد الاحتلال إلى تفكيك المجتمع بدل صهره وتماسكه ضمن كيانه الوطني والديني والقومي والطائفي ومع أقلياته التي تشاركه العيش، وقد وجدت كثير من تلك الأقليات نفسها مرة أخرى وهي تعيش مرحلة استبدادية لا تختلف كثيرا عن سابقاتها من حيث العنف والصخب، في مراحل مضت.