رائدات التأليف المسرحي في العراق

أول امرأة عراقية كتبت نصاً مسرحياً هي الشاعرة عاتكة الخزرجي (1924- 1997)، والنص هو مسرحية شعرية بعنوان 'مجنون ليلى'، لكنها لم تنشرها إلا عام 1963 في القاهرة.
المرأة في العراق الحديث بدأت في كتابة الشعر والقصة في الثلاثينات والأربعينات
سبب تأخر المرأة العراقية في ولوج حقل الدراما المسرحية هو صعوبة التأليف في هذا الفن

 مع دخول مجموعة من الفنانات العراقيات الرائدات إلى مجال الغناء، مثل: صديقة الملاّية، بدرية أنور، منيرة الهوزوز، سلطانة يوسف، بهية العراقية، ماري الجميلة، طيرة حكيم، زنوبا، عزيزة العراقية، روتي، وغيرهن، إلى عالم المقام العراقي، ابتداءً من عشرينات القرن الماضي، بدأ إسهام المرأة العراقية في نسج خيوط النهضة الثقافية في العراق. وقد أدى نجاح أولئك الفنانات إلى دخول جيل جديد من أترابهن في الثلاثينيات والأربعينيات، مع حقبة التحولات الاجتماعية، وانتشار التعليم، التي أدت إلى الانفتاح في شتى مجالات الحياة. 
رافقت ظهور هذا الجيل مجموعة أخرى من رائدات الصحافة والقصة والشعر والبحث الأدبي، مثل: بولينا حسونة، التي أصدرت أول مجلة نسوية عراقية بعنوان "المراة الحديثة" سنة 1923، القاصة نزهة غانم، التي نشرت أول مجموعة قصصية لها بعنوان "المرأة المجهولة" في بغداد سنة 1934، مديحة بحري، التي بدأت بنشر مقالاتها في جريدة "الميثاق" سنة 1935، حسيبة قاسم راجي، التي اصدرت مجلة "فتاة العراق" سنة 1935، مريم نرمة، التي أصدرت مجلة "فتاة العرب" سنة 1937، والشاعرات: سافرة جميل حافظ، رباب الكاظمي (ابنة الشاعر المخضرم عبد المحسن الكاظمي)، نازك الملائكة، عاتكة الخزرجي، لميعة عباس عمارة، صروف العبيدي، والباحثة أميرة نورالدين. 
 يُلاحظ من ذلك أن المرأة في العراق الحديث بدأت في كتابة الشعر والقصة خلال حقبة زمنية واحدة تقريباً، هي الثلاثينات والأربعينات. ورغم حداثة فن القصة في العراق مقابل فن المسرح، الذي بدأ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فإن إسهام المرأة في كتابة النص المسرحي لم يبدأ إلاّ في أربعينات القرن الماضي، والإخراج في الخمسينات. ومن المؤكد أن السبب الرئيسي لتأخر المرأة العراقية في ولوج حقل الدراما المسرحية هو صعوبة التأليف في هذا الفن أولاً، وحاجته إلى الإلمام بتقنيات المسرح، والغوص في عوالم اجتماعية ونفسية وفكرية متشابكة ثانياً. ومن المعروف، تاريخياً، أن إبداع المرأة في التأليف والإخراج المسرحيين على الصعيد العالمي قليل جداً، مقارنةً بإبداعها في الأنواع الأخرى من الآداب والفنون. إلاّ أن كل ذلك لا يمنعنا من القول إن شحة عدد النساء اللواتي يمارسن هذين الفنين في العراق، مقارنةً بمصر والأردن وسوريا وتونس، أمر يصعُب تفسيره، خاصةً أنه، أي العراق، يحتل المرتبة الأولى في العالم العربي في عدد المعاهد والكليات المتخصصة في المسرح.

من المعروف، تاريخياً، أن إبداع المرأة في التأليف والإخراج المسرحيين على الصعيد العالمي قليل جداً، مقارنةً بإبداعها في الأنواع الأخرى من الآداب والفنون

تشير المراجع إلى أن أول امرأة عراقية كتبت نصاً مسرحياً هي الشاعرة عاتكة الخزرجي (1924- 1997)، عندما كانت طالبةً في دار المعلمين العالية عام 1945، والنص هو مسرحية شعرية بعنوان "مجنون ليلى"، لكنها لم تنشرها إلا عام 1963 في القاهرة، وأعادت نشرها في المجموعة الشعرية الكاملة عام 1986، وقد رأى بعض النقاد أنها نهجت في كتابتها نهج أحمد شوقي، بيد أن الناقد المصري بدوي طبّانة، الذي كان أحد أساتذة عاتكة في دار المعلِّمين العالية يقول إن مسرحيتها تختلف عن مسرحية شوقي في الفكرة والتصوير، على الرغم من أنّهما قد تلتقيان في بعض المواضع. ويؤكد ذلك الدكتور علي القاسمي بقوله "أحسبُ أنها استقت مسرحيتها الجميلة من أخبار المجنون في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، الذي كان في مكتبة والدها، وقرأته وهي طالبة صغيرة، وكذلك من ديوان المجنون نفسه الذي حفظت كثيراً منه...". وقد أخرج المسرحية المخرج السينمائي العراقي كامل العزاوي، وعُرضت في مايس عام 1947 في جمعية بيوت الأمة النسائية ببغداد، ولقيت نجاحاً كبيراً، ما شجّع عاتكة على كتابة مسرحية شعرية أُخرى بعنوان "عليّة بنت المهدي". وعليّة هي أخت الخليفة هارون الرشيد وكانت شاعرةً أديبةً لها معرفة بالموسيقى والغناء، ولها صوتٌ رخيم. ولعلَّ هذا ما جذب عاتكة إليها بحيث أرادت أن تتماهى معها في مسرحية شعرية. لكن عاتكة لم تتم هذه المسرحية، ونشرت مقاطع منها في ديوانها الأول " أنفاس السحر".
تلت عاتكة الخزرجي الفنانة المسرحية الرائدة زينب (فخرية عبدالكريم)، التي توفيت بعدها بسنة واحدة، فكتبت مسرحية بعنوان "زواج بالإكراه"، وأخرجتها ومثلتها مع نخبة من معلمات وطالبات ثانوية الرمادي للبنات عام 1953. 
وقد تصدت هذه المسرحية لظاهرة مهمة في المجتمع العراقي الذي خيّم عليه الجهل والتخلف والمرض والفقر، وأثارت في حينها ضجةً كبيرةً، ووقفت ضدها السلطة الحاكمة، عادّةً إياها محرضة للنساء على خرق العادات والتقاليد السائدة، وتعرضت زينب بسببها إلى القذف والتشهير، وأبعدت عن مدينة الرمادي إلى ناحية الشطرة في الناصرية، لكن ذلك، كما أعتقد، كان حجةً للنيل منها بسبب كونها ذات ميول يسارية، فبعد أيام من انتقالها إلى الشطرة طردت من العمل مع أخويها "لمقتضيات المصلحة العامة"!. وفي عام 1991 كتبت مسرحيةً أخرى بعنوان "صور شعبية وصورة"، أنتجتها فرقة "سومر" في السويد، التي كانت مديرةً فنية لها، وقدمتها في يوم المسرح العالمي. وثمة إشارات أوردها أرشيف وزارة الثقافة العراقية مفادها أن زينب كتبت عدداً من المسرحيات الأخرى منها "ليطة"، "الريح والحب"، "تحقيق مع أم حميد"، و"بائعة الاحذية". 
وظهرت بعد زينب كاتبات أخريات أشهرهن لطفية الدليمي، عواطف نعيم، وروناك شوقي. كتبت لطفية الدليمي أربع مسرحيات هي (الليالي السومرية، الكرة الحمراء، قمر أور، والشبيه الأخير)، وقد حاولت في المسرحية الأولى، التي حازت على جائزة أفضل نص يستلهم التراث العراقي القديم، تقديم قراءة نسوية في ملحمة "جلجامش" السومرية تتقصى المسارت التحتية لحركة الشخصيات وأفعالها وتقاطعاتها. ويتجلى منظورها النسوي، على نحو خاص، في معالجتها الدرامية لمشهد تحول أنكيدو من طبيعته الحيوانية إلى طبيعة إنسانية، ففي الملحمة الأصلية يتحول عن طريق ممارسة الجنس مع البغي المقدسة "شمخت"، إحدى كاهنات الحب، وصير عارفاً واسع الفهم، وغادر معها إلى المدينة تاركاً عالمه الحيواني البدائي في البرية. أما في نص لطفية الدليمي فإن الكاهنة لاتغريه بمفاتنها (أي من خلال الجنس) لكي يتحول إلى إنسان سوي وحكيم، بل تطعمه الخبز وتمنحه الحكمة. ومن الواضح أن هذه  المقاربة تعلي من شأن المرأة، وتقوّض النسق الثقافي الذكوري الذي درج على إعطائها وظائف دونية فقط في الحياة، منها وظيفة إمتاع الرجل، أو إشباع غريزته الجنسية، وتؤكد دورها المؤثر في التغيير، وبناء الحضارة الإنسانية.

كتبت لطفية الدليمي أربع مسرحيات هي (الليالي السومرية، الكرة الحمراء، قمر أور، والشبيه الأخير)، وقد حاولت في المسرحية الأولى، التي حازت على جائزة أفضل نص يستلهم التراث العراقي القديم، تقديم قراءة نسوية في ملحمة "جلجامش" السومرية

وبدأت عواطف نعيم أولى تجاربها في التأليف عام 1989 مع مسرحية بعنوان "لو"، وهي مسرحية ذات طابع مونودرامي بطلها شخصية بغدادية شعبية اسمه "حمادي"، مهنته سائق عربة (حنطور) كان ينقل الناس داخل المدينة قبل ظهور وسائل النقل الحديثة، ويعرض تفاصيل من معاناته في العمل والحياة الاجتماعية، مستذكراً الكثير من المواقف المأساوية. وقد دفعت هذه البداية الناجحة عواطف نعيم إلى الاستمرار في كتابة مجموعة مسرحيات، مؤلفة أو مكيّفة أو معرّقة عن نصوص أجنبية، منها (مطر يمه، تقاسيم على نغم النوى، يا أهل السطوح، ابحر في العينين، بيت الأحزان، السحب ترنو إلي، مسافر زاده الخيال، كنز من الملح، ترانيم للعشق، أعتذر أستاذي لم أقصد ذلك، حلم مسعود، أنا في الظلمة أبحث، نساء لوركا، دائرة العشق البغدادية، جنون الحمائم، أنا والعذاب وهواك، وبرلمان النساء). وقد استندت في كتابة العديد من هذه المسرحيات إلى نصوص تشيخوف ولوركا وبريخت وكامي وأرستوفانيس، لكنها تملك موهبةً خلاقةً في تحويل فضاءات تلك النصوص وأحداثها وشخصياتها إلى فضاءات وأحداث وشخصيات محلية، جوهراً ومظهراً.
وعُرفت روناك شوقي مخرجةً، ومشتغلةً على تكييف نصوص عالمية، وكاتبةً مسرحيةً، إضافةً إلى كونها ممثلةً تنتمي جيل السبعينات في المسرح العراقي، غادرت البلد في فترة مبكرة من حياتها للدراسة في موسكو، وظلت مغتربةً، حيث قدمت أغلب تجاربها في دمشق ولندن ومدن أوروبية أخرى باللغة العربية والإنكليزية، وأسست في لندن "استوديو الممثل" مع عدد من المسرحيين العراقيين المغتربين. من أبرز أعمالها (هبوط إنانا، كالخاس، أنتيغونا، المملكة السوداء، وحشة وقصص أخرى، بيت برنارد البا، على أبواب الجنة، سماء أخرى، ريح الجنوب، وخارج الزمن).  في مسرحيتها "سماء أخرى"، التي كتبتها وأخرجتها ومثلت إحدى شخصياتها عام 2004، يدور الحدث الدرامي في مشهد واحد طويل يعرض تجارب ثلاث نساء عراقيات مغتربات يختلفن في الرؤية، رغم حبهن للوطن، بمعناه الكبير: المرأة العاطفية المثقفة ذات النزعة الغربية التي تعيش انفصاما بين دعم الحرب والخوف من الاحتلال، وثمة زوجة المعارض السياسي التي تهرب مع زوجها إلى بلد آخر، والمشغولة بهم الاولاد وتربيتهم وتعليمهم شيئا عن الوطن البعيد، والمرأة العجوز نوعا ما التي تجترح حزنها الخاص بها، وهي الوحيدة التي تقول إن لديها بيتا في العراق تريد العودة إليه.
وتجمع مسرحية روناك شوقي "على أبواب الجنة"، التي عرضتها عام 2007، ثلاث نساء، أيضاً في فضاء يوحي إلى محطة سكك حديد، حيث ينتظرن قدوم القطار ليقلهن الى الوطن، الذي غادرنه بسبب ما تعرضن له من اضهاد وقمع، وهرباً من جحيم الحرب إلى ملاذ آمن. إنهن نماذج تتكرر في العديد من الأعمال المسرحية، وخاصةً في "نساء الحرب" لجواد الأسدي، وعمل روناك السابق "سماء أخرى". هؤلاء النسوة يتحرقن الى قدوم القطار، وخلال انتظارهن يروين معاناتهن في الوطن والغربة: واحدة تتعجل العودة الى أمها التي فارقتها منذ أكثر من عشرين عاما، والثانية تريد زيارة قبر ولدها الذي قتل في الحرب، والثالثة، التي تغربت وهي في السابعة عشر من عمرها، وجابت المنافي وحيدة بأوراق مزورة، تتلهف إلى العودة لتكوين أسرة، وتحقيق أحلامها البسيطة. لكن كيف سيواجهن البلاء التي يغرق فيه الوطن منذ بدء الاحتلال، بلاء الفتنة والعنف والإرهاب الأعمى؟ تلك هي المشكلة التي تسرق أحلامهن.