ربط أجور الصحافيين بما يحصلون عليه من إعجاب!

لايمكن اختصار السلطة التي صنعتها الصحافة المسؤولة لنفسها في بناء جمهور من المشجعين وتحقيق الأرباح وتحوّل الصحافة إلى ناد لكرة القدم في علاقتها مع القراء.
ربط أجر الصحافيين بشعبية مقالاتهم باستخدام بيانات الاشتراك هو تنازل مشوه عن الحساسية العالية وتشويه خطير لأولويات التحرير، إن لم يكن فكرة مجنونة.

في الوقت الذي كانت فيه نخبة من الصحافيين عاليي المسؤولية تعيد تعريف الصحافة من جديد وهي تستذكر هارولد إيفانز كرائد في الصناعة الإخبارية في بريطانيا بعد رحيله مؤخرا، كان كريس إيفانز رئيس تحرير صحيفة تليغراف يثير قلق الصحافيين وهو يعلن أنه بات من المناسب ربط أجور الصحافيين بما تحصل عليه مقالاتهم من علامات إعجاب وتفاعل من القراء واستقطاب المشتركين!

اختصر كليف ميري أحد أهم مذيعي هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” تعريف الصحافة بالحقيقة في ندوة استذكار هارولد إيفانز الذي رحل نهاية العام الماضي. لكنه أضاف أيضا حزمة من الأسئلة الجديدة كحاجة ماسة وعاجلة بات الصحافيون يعيدون إطلاقها على أنفسهم بموازاة الأسئلة التاريخية في كتابة الخبر، أو ما يعرف بـ “دبليو 5” “من ومتى وأين وكيف ولماذا”.

هناك أسئلة جديدة جديرة بأن يكررها أي صحافي على نفسه في زمن تدفق المعلومات الهائل؛ ما الهدف من الإعلام في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية؟ لماذا يجب أن يكون الصحافيون حاضرين دائما؟ كيف يمكننا كصحافيين التأثير في التغيرات التي يتوق إليها المجتمع؟ هل نمارس السلطة الصحافية بمسؤولية؟ كيف يمكن لنا منع الفساد والتغول السياسي؟ كيف نكون قادرين على المساعدة في تغيير الحكومات؟

يُجمِع كل الذين عملوا مع هارولد إيفانز في صحيفة التايمز البريطانية والصحف والمجلات الأميركية الأخرى على أنه تشبع بهذه الأسئلة وهو يرى أن القاعدة الصحافية الوحيدة الثابتة وسط كل المتغيرات هي أن الأوضاع ليست كما تبدو على السطح فعلى الصحافي أن يحفر أعمق وأعمق.

بينما الصدمة التي ولّدها مقترح رئيس تحرير صحيفة تليغراف، بربط أجر الصحافي مع ما يجلبه من إعجاب على ما يكتب، تعيد تعريف علاقة الصحافة مع الجمهور وما إذا كانت السلطة التي صنعتها الصحافة المسؤولة لنفسها على مر التاريخ يمكن اختصارها في بناء جمهور من المشجعين وتحقيق الأرباح وتحوّل الصحافة إلى ناد لكرة القدم في علاقتها مع الجمهور!

قبل سنوات تحدث جيمس نجل إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، في مهرجان أدنبرة الدولي للتلفزيون، عن فلسفته في إدارة شركة والده الإعلامية، واختصرها في “كسب المال” وبطبيعة الحال هو يرى أن ربح المال لا يمكن أن يتم إلا عبر الخطاب الإعلامي الجيد والمستقل، لأنهما ضامنان دائمان لجني الأرباح من قبل الشركات الإعلامية.

وبناءً على ذلك قال جيمس مردوخ إن الجهة المنظمة الوحيدة هي السوق “فإذا كان الجمهور لا يحب منتجك، فسيذهب إلى مكان آخر. الجمهور هو الذي سيبقيك عادلا وليست هناك حاجة لتنظيم يتمتع بسلطات بموجب القانون”.

بغض النظر عن الدوافع التجارية التي يطمح لها مردوخ الابن، إلا أن جوهر الصحافة المسؤولة لم يكن مدعوما بالتشريعات القانونية إلا فيما بعد، لأن الحفاظ على ثقة الجمهور في الصحافة كان أمرا حيويا منذ أول صوت صادق في الصناعة الصحافية، لذلك يبقى التعريف المثالي للخبر هو معلومات تريد جهة ما منعها عن الجمهور وما تبقى مجرد إعلانات.

هذا يعني أنه لم يكن يهم مردوخ وهو يفكر بالأرباح، المصلحة العامة كخدمة تقدمها الصحافة في ربط المجتمع ديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات.

ما يحدث اليوم أن غالبية السياسيين ورجال الأعمال والشركات الكبرى يعرفون الحقيقة، ولكنهم يختارون بدلاً من ذلك نشر الأكاذيب. وتلك من أكثر المهام التي ينبغي على الصحافة التصدي لها في عصر ليس عادلا بحقها. لذلك اختصر كلايف ميري، وهو صحافي ومراسل على درجة عالية من التجربة غطى الأزمات في دول مختلفة لـ”بي.بي.سي”، المهمة برمتها التي يقوم بها الصحافي بالحفاظ على مجتمع عادل ومنصف.

على الجانب الآخر لم يكن تعريف ميري يخطر ببال كريس إيفانز وهو يغري الصحافيين في جريدة تليغراف بأجور أعلى مقابل مقالتهم التي تستقطب المزيد من المشتركين في الصحيفة.

ومع أن إيفانز اعترف بصعوبة تنفيذ ذلك قريبا لأنه أمر معقد سيغرق في التفاصيل على طبيعة الأهم والأفضل وتفاعل المشتركين وزيادة استقطابهم، إلا أن ذلك الاعتراف لم يخفف من استياء صحافيي تليغراف، وإن كان الأمر أشبه بتجربة.

فربط أجر الصحافيين بشعبية مقالاتهم باستخدام بيانات الاشتراك هو تنازل مشوه عن الحساسية العالية وتشويه خطير لأولويات التحرير، إن لم يكن فكرة مجنونة!

ليس ذنب الصحافي أنه يكتب في التقارير الثقافية والعلمية والسياسية الجادة التي تهتم بها نخبة من القراء. ذلك لا يعني أنه يبذل جهدا أقل من المحرر الرياضي أو الموسيقي وهو يستقطب الكثير من المتابعين. مع ذلك يوجد من يدافع عن فكرة رئيس تحرير الصحيفة البريطانية بالقول إن رواتب الصحافيين يجب أن تحسب وفق شعبيتهم.

هذا تصنيف غير عادل يضر بالصحافة نفسها، وصفته ميشيل ستانيستريت نقيبة الصحافيين البريطانيين بخطوة “تظهر القليل من الاهتمام بأهمية الصحافة النوعية عالية الجودة” وستؤدي إلى “إحباط معنويات الصحافيين بشكل كبير”.

لذلك عاد إيفانز، مع الجدل المتصاعد بين أروقة المحررين، للدفاع عن فكرته بالقول إنها حُرفت، وصحيفة تليغراف مازالت تعول فيما تنشره من قصص وتحليلات على “ما سيدفعه القراء الأذكياء وسيواصلون دفع ثمنه”.

من المفيد أن نذكر هنا أن صحيفة تليغراف تحظى بـ 600 ألف مشترك على الإنترنت، يتوقع أن يزداد سنويا بمقدار 150 ألفا، وتطمح بالوصول إلى مليون مشترك عام 2023. كل ذلك حصل لأن ثمة محتوى عالي الجودة أنتجه العاملون فيها من دون أن ينتظروا أن يأتيهم أحد لربط أجورهم بنوعية ما يكتبون!