ربيع البعيني يسير بصوته إلى مصير كائناته

عندما يتعلق الأمر بوقائع يجب أن تروى عاشها البعيني وكذلك عاشها متلقيه، البعيني لا يتأخر في سردها برؤيته الخاصة المغايرة للمرويات المعتادة عبر مشهده البصري النابض بحفريات روحية.

وأنت تتأمل أعمال ربيع البعيني لا تنسى سترة النجاة، فالغرق في أوجاعه التي هي أوجاعنا بالتالي لا مفر منها، فالوجع عنده ضارب جذوره في الأعماق، وهذا فصل من حكاية يسردها لنا، نسردها معاً، حكاية لا تنتهي، حكاية يثير البعيني مقاطع منها عله يعثر على نواتها المنغمسة في النخاع الفاصل الواصل والحامل لذاكرة تلك الحكاية وبالتالي الحامل لذلك الوجع الذي يصر البعيني على تحسسه، وتلمسه دون أن يترك التأمل في الزمان والمكان، ودون أن يوقظنا من تأملنا في أعماله ووجعها.

البعيني وفي هذه المرحلة الزمنية الصعبة لا ينتظر أحداً حتى يقول فعله، وإن قالها لا ليبلغ المقصود، بل ليمشي صامتاً إلا من هسيس روحه وألوانه، يمشي بخطوات من حلم وضوء، يستعرض التعب في كائناته، تلك الكائنات التي تتناقل بدورها بين ذلك التعب لدرجة فقدانهم القدرة على سحب أرواحهم ولو بإتجاه البرق، فكل المؤشرات الدالة عليها توحي بالتصدع، تصدع المعاني واللحظات التي باتت في العراء، تصدع الرهان الذي قوامه تعدد الهزائم، وإفراغ الحكاية من أبعادها المعهودة، فخفايا الوجوه تروي سير الرهان الطويل، الرهان الذي جعلت الملامح تقع على الطريق، تلك الملامح التي كانت تنطق بالإبهار القادم من مقوماتها العديدة والتي تتصل بالزمن الذي همش الآن، فالبعيني يظهر الإلتباس الأشبه بخرافة سردتها إحدى جداتنا على لسان أميرة الجان، وفي ولع يعمق ما يذهب إليه، لا ليربطها بخيوط تهذي على مر العويل، بل ليغير رائحة إرتعاشاتها وهي تلد في ثنايا الحكاية، وهذا ما يميز ورطته الجميلة بتبعاتها في السير بصوته إلى مصير كائناته، بل إلى مصير الحكاية ذاتها وإن داخل مؤشراته المنفتحة على مجموعة من إختياراته جلّها ترصد أقداره هو وأقدار تلك الحكاية ذاتها بكل أحداثها.

وعندما يتعلق الأمر بوقائع يجب أن تروى، عاشها البعيني وكذلك عاشها متلقيه، لا يتأخر البعيني في سردها برؤيته الخاصة، المغايرة للمرويات المعتادة، عبر مشهده البصري النابض بحفريات روحية، المتعالق بجوانب ما بمحور تجربته، المهيمن بتجاذب حالاته وتأملاته، وهذا ما يقرب ذلك المشهد من روافد لإنزياحات خاصة، تتبعها رغبة النزوع إلى التجاوزات الصوتية في نص واحد، أقصد في عمل واحد، وقد يكون ذلك مساعداً لنا في تحديد جمالية المشهد ذاته، وبوصفه تحولات لأفق تفرض ضرباً من وجهات جمالية يطغى عليها تعدد الخطاب وعدم تعثر مقولاته.

ويبدو لي أن القلق غير المبالغ فيه والذي بقي يرافق كائناته بعد سلسلة طويلة من العنف والتعذيب الروحي والنفسي والجسدي التي عاشتها تلك الكائنات في أقبية الحياة المختلفة، قلق قد يكون بمقدوره أن يشعل المشاعر بقوة على التمرد والتحدي، وما الأنساق الشكلانية لمفرداته إلا تعميقاً لرؤيته تلك، رؤيتة الفكرية منها والفنية، والتي تشكل منحى عام لأسلوبه والتي فيها ما يوازي إنتقائية أسلوبية وتجريبية، فما أرساه البعيني هنا من منابع فنية، جمالية، تعبيرية متنوعة، وبأبعاد تكوينية أو لونية يجعله يرسي بمرساته على شاطىء جله تنوع الدلالات تبعاً لتنوع القراءات، وهذا ما يمنح تجربته عدة روافد بأنماط مستحدثة، مواكبة لعجلة الحركة التشكيلية ومستجداتها، وما يجعله أيضاً قادراً على حمل مشروعه الجمالي دون رتوش أو نقوش، ودون أن ينغلق على موضوعاته لاحقاً.

وإختصاراً نقول بأن البعيني لا ينقل الوجع من موقف جمالي مبني على توظيف الإيقاع بشعرية كئيبة تمنح سرده براعم الصعود في عيون هدها التعب، عيون معلقة بأصوات أشبه بمدائن الإحتجاج، لا ينقل الوجع من موقف فكري على أهمية إحالته المرجعية كنص إبداعي، بل يحرض كائناته بكل أشيائها، وينقل فعل التحرر إليهن من قوانينها الداخلية إلى السطح كميثاق حكائي ينتج نصوص مغايرة من حيث مشروعية التحول بعيداً عن النمذجة.