رفعة الجادرجي والعمارة الحديثة بنكهة عراقية

معظم واجهات المباني التي صممها المعماري والفنان العراقي مغلف بالطابوق الطيني العراقي وعليه أشكال تجريدية تشبه الشناشيل وغيرها من العناصر التقليدية.

كان المعماري والفنان التشكيلي العراقي المخضرم رفعة الجادرجي، الذي وافته المنية في لندن يوم الجمعة الماضي عن عمر 94 عاما، يؤمن بأن العمارة أهم أداة للحوار الاجتماعي، فجمالها يعكس جمال المجتمع عاطفيا ووجدانيا. ولكي يبدع المعمار يجب أن يؤمن، قبل كل شيء، بقاعدة خدمة المجتمع التي تتفاعل مع المعرفة العلمية. وقد استلهم فلسفته في العمارة من نظرية الجاذبية لنيوتن، وقانون الاستفاء الطبيعي لدارون إضافة الى البيئة التي نشأ فيها. فالعمارة، حسبما رأى في أطروحته التي نشرها عام 1950، ظاهرة وجودية يجب أن تكون لها أسس تُبنى عليها مثل العلاقة بين الكتلتين، وعلى المعماري أن يفهم أن ثمة تفاعلا بين المجتمع والتكنلوجيا المعمارية.
وصل الجادرجي بالعمارة التقليدية "التحدارية"، مثلما يطلق عليها، إلى المستوى الشكلي التجريدي، فصار يُنظر إليها كمنحوتة فنية لها خصائص تقليدية مجردة حسب مفهومه، لكنه لم يتعامل مع الفراغ المعماري بتلك النظرة التحدارية أو بتلك الخلفية التقليدية، فمساقطه الأفقية مستوحات، في أحيان كثيرة، من الحداثة، كما تقول الباحثة غادة طاهر. لكن تأثر أعماله بحركة الحداثة في العمارة لم يحل دون محاولته أن يضيف إليها نكهة عراقية إسلامية، إذ إن معظم واجهات المباني التي صممها مغلف بالطابوق الطيني العراقي وعليه أشكال تجريدية تشبه الشناشيل وغيرها من العناصر التقليدية. كما أنه يُعد أول من فكّر بمعالجة الشكل الخارجي لهذه الواجهات، وإيجاد كاسرات الشمس بطريقة إبداعية محمولة على ممر خارجي يحيط بالمبني لتوفير الظل، وتقليل الحرارة بالدرجة الأولى، وتكسير شدة الضوء وتخفيف حدته وانتقاله إلى الداخل لئلا تتشوش الرؤية بالدرجة الثانية.

الجادرجي حصل على اعتراف عالمي كأحد أهم المعماريين الذين طوروا فكر العمارة الإقليمية في القرن العشرين

وفي هذا الصدد، أيضا، يرى الناقد التشكيلي سعد القصاب أن المنجز المعماري للجادرجي احتفى بفرادة المقاربة ما بين الحداثة وروح المكان، وليس ثمة غرابة تذكر لشواخصه المعمارية، فهي عراقية تماما، وكأنها نتاج الصلة المتخيلة بين الجوامع والمساجد والدور القديمة والخانات والأسواق. وقد أهّلته إسهاماته، من مبانٍ ومشاريع معمارية شديدة الخصوصية والتنظير لها، لأن يكون في طليعة المعماريين العرب منذ ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين. وذلك يعني أنه كان من المشاركين في تأسيس المجتمع المدني في عراق هذا العصر، فالعمارة ليست طرز مبانٍ نسكنها، بل إن مفهومها يدل على كونها كيانا يشاركنا العيش والوجود والمعرفة، وأثرا قابلا للتغيير والتقدم والتجدد، وابتكار عالم ممكن يبدأ من التاريخ ليطل على المستقبل.
ينتمي الجادرجي إلى أسرة بغدادية عريقة، فوالده هو كامل الجادرجي السياسي المعروف والوزير إبان الحكم الملكي في العراق، وأول رئيس لجمعية الصحفيين العراقيين، ومؤسس جريدة "صوت الأهالي"، والحزب الوطني الديمقراطي عام 1946 مع الاقتصادي العراقي محمد حديد والد المعمارية الراحلة زها حديد. لكن السياسة لم تكن محل إعجاب رفعة وشغف وطريق والده، ويذكر أن الأحاديث العائلية معه كانت تتمحور حول أمور ثقافية وفلسفية واجتماعية بعيدة عن السياسة كل البعد.

الشناشيل
أول من فكّر بمعالجة الشكل الخارجي لهذه الواجهات

سافر الجادرجي، بعد إكماله المرحلة الثانوية، إلى بريطانيا عام 1946 لدراسة فنون العمارة والتصميم في جامعة همرسميث للفنون التشكيلية، وتخرج عام 1952. ودرس أيضا الفلسفة والاقتصاد والانثروبولجيا في جامعة هارفارد مدة تقارب العشر سنوات، تعرف خلالها على الفنان التشكيلي العراقي جواد سليم، وربطتهما صداقة عميقة واهتمام مشترك بالفن، خاصة الرسم والموسيقى والمسرح.
وأسس بعد عودته إلى العراق "المكتب الاستشاري العراقي" مع جماعة من زملائه المعماريين، فأسهم المكتب في رفد الحركة المعمارية العراقية، خلال أكثر من عقدين، بمشاريع وتصاميم مفعمة ذات قيمة احترافية عالية ومستوى مهني وجمالي خلاّق، ثم توسع وأصبح معروفا في عدد من الدول العربية في سبعينات القرن الماضي.
وفي ما يتعلق بالوظائف الرسمية التي تقلدها الجادرجي، فقد عُين عام 1954 مديرا لهندسة الأوقاف، ثم   تسلم بعد 4 سنوات منصب رئيس هيئة التخطيط في وزارة الإسكان، وكان خلال عمله هذا على اتصال مباشر بالزعيم عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء، الذي طلب منه إنشاء ثلاثة نصب في بغداد، جرى إكمال اثنين منها هما "نصب الحرية"، الذي صمم قاعدته، وأبدع منحوتاته الفنان جواد سليم، و"نصب الجندي المجهول" الأول في ساحة الفردوس، الذي أُزيل فيما بعد ووُضع محله تمثال ضخم لصدام حسين. وفي عام 1961 شغل منصب مدير عام قسم التخطيط في وزارة الإسكان،  ثم تسلم بين عامي 1980 و1982 منصب مستشار لأمانة بغداد،  وكان قبل ذلك قد حُكم عليه عام 1977 بالسجن المؤبد في عهد الرئيس أحمد حسن البكر، إثر تلفيق تهمة له بأنه يخرب الاقتصاد الوطني العراقي من خلال تعامله مع شركة بريطانية، لكنه أُخرج من السجن بعد نحو سنتين، وقد كتب خلال الفترة العصيبة ثلاثة كتب منها كتاب "الأخيضر والقصر البلوري"، وغادر العراق عام 1983، وعاش فترة التسعينات في لبنان، واستقر بعدها في لندن، وألّف مع زوجته بلقيس شرارة كتابا حول تجربته في السجن بعنوان "جدار بين ظلمتين" صدر عام 2008.

الجادرجي كان يؤمن بأن العمارة أهم أداة للحوار الاجتماعي، فجمالها يعكس جمال المجتمع عاطفيا ووجدانيا

حمل الجادرجي رتبة أستاذ زائر لتدريس فلسفة الفن، والانثربولوجيا، وغيرهما من الحقول في العديد من الكليات الهندسية في جامعات العراق ولبنان وسوريا والبحرين وتونس وانكلترا والنرويج وأميركا. وأنجز قرابة 100 مشروع معماري، ليس في العراق فقط، بل في عدد من بلدان الخليج، ومن أشهر تلك المشاريع في بغداد، إضافة إلى قاعدة نصب الحرية ونصب الجندي المجهول، مباني "اتحاد الصناعات الوطنية"، "المجمع العلمي العراقي"، "مصرف الرافدين"، "البريد المركزي، "نقابة العمال"، "مجلس الوزراء"، و"بدالة السنك" في بغداد. كما شارك في معارض فنية في عدد من الدول مثل لبنان وتونس السودان والإمارات العربية. وله العديد من الكتب حول التنظير المعماري، حاول فيها النظر إلى التركيبة الاجتماعية- العمرانية في العالم العربي، منها "شارع طه وهامرسميث: بحث في جدلية العمارة "، التجديد في نهج تصميم المساجد الأثرية"، "مفاهيم ومؤثرات"، " نحو هندسة معمارية إقليمية"، "حوار في بنيوية الفن والعمارة"، و"المسؤولية الاجتماعية لدور المعمار". كما نال مجموعة جوائز دولية منها "جائزة آغا خان للعمارة"، "جائزة زايد للكتاب"، و"جائزة تميّز للإنجاز المعماري مدى الحياة من جامعة كوفنتري البريطانية". وجاء في خطاب منحه الجائزة الأخيرة على لسان البروفيسور مايكل فيتزباترك، عميد كلية الهندسة في الجامعة، "تُعد محاولات رفعة الجادرجي في الجمع بين العمارة الإقليمية وتكنولوجيا البناء الحديثة من الإنجازات الأكثر فاعلية في الشرق الأوسط، ومنها حصل على اعتراف عالمي كأحد أهم المعماريين الذين طوروا فكر العمارة الإقليمية في القرن العشرين. عمل رفعة الجادرجي الجاد، وتفانيه، وحرفيته وأفكاره هي إرث شخصي عظيم وإلهام للأجيال المعمارية الحالية واللاحقة".