روائي مصري يرى أن الواقع وحده لا يكفي لكتابة رواية جيدة

سرد محمد إبراهيم طه يفيض عذوبة وشاعرية، وهو ينهل في إبداعه من روافد عدة أهمها النشأة الريفية بخصوصيتها وموروثها الشعبي.

يفيض سرد  محمد ابراهيم طه عذوبة وشاعرية، وهو ينهل في إبداعه من روافد عدة أهمها النشأة الريفية بخصوصيتها وموروثها الشعبي، وأيضا عالمه المهني كطبيب، أصدر حتى الآن خمس روايات وأربع مجموعات قصصية، حصد عنها عدة جوائز مصرية وعربية، منها جائزة الشارقة عن روايته الأولى، وجائزة الدولة التشجيعية فى القصة القصيرة، وفى محاولة للاقتراب من عالمه، التقيناه، وبدأ الحديث عن روايته الصادرة مؤخرا بالقاهرة "البجعة البيضاء"، قائلا إنها أنها خط آخر مختلف عن كتاباته السابقة التى كانت تزاوج بين الواقعي والميتافيزيقي، فهي رواية يمتزج فيها الواقع بالحلم والتشوش بالقدر الذى يخرج العمل من دائرة الواقعية الفجة والمستقرة والراسخة.
صوب المدينة
في روايته الأولى "سقوط النوار" كما في مجموعة قصص "توتة مائلة على نهر"، كان فضاء الإبداع ريفيا، لكنه تحول في الأعمال التالية إلى الفضاء المدينى. يرجع محمد إبراهيم طه هذا التحول لتعقد العالم وابتعاده عن البكارة والبساطة، يقول: الفضاء الريفي يعني النشأة، البراح، العوالم المفتوحة على كل شيء بدائي وبسيط وغير معقد، حقول وأشجار وترع ومساقي ومدقات وأجران ونباتات، هذا هو العالم الذي تفتح وعيي عليه، ونشأتُ فيه، فكان لا بد أن يكون له الأولوية في الحضور، فحضر ببذخ وجمال في "توتة مائلة على نهر" و"سقوط النوار". 

ثم تعقدت الحياة شيئا فشيئا، فحضر عالم المدينة الصغيرة التي ليست قرية وليست مدينة في "العابرون" ثم امتزجت أجواء الريف مع أجواء الصحراء في "دموع الإبل" لتتلاشى وتبتعد ملامح الريف تدريجيا وتبدأ أجواء المدينة الحديثة المنظمة في "باب الدنيا" أما عالم المدينة الخالص المنقطع الصلة في أحداثه وشخوصه بالريف فلم يأت بعد في رواياتي".

ويضيف طه "القرية لم تعد نقية كما كانت، وفي مصر كلها لا توجد قرية خالصة، ولا مدينة خالصة، وضاقت الهوة أو ردمت في بعض الأماكن بين القرية والمدينة، وبالتالي انحسرت الكتابة عن القرية، التي شهدت عصرها الذهبي مع بزوغ ثورة يوليو/تموز 1952 بما قدمته للفلاحين من امتيازات، انحسرت الرواية الريفية الخالصة، زينب، والأرض، والحرام، وصارت أكثر تعقيدا منذ أزيلت الحواجز بين القرية والمدينة سواء بالهجرة أو بتأثير ثورة الاتصالات، وأصبح على الروائى الذي يكتب في هذه المنطقة أن يغوص أكثر فى شخوص لم تعد تعمل بالزراعة، شخوص تخلصت من الزي الريفي التقليدي ويعيشون في المدن بشكل مؤقت أو دائم، موظفون، وعمال، وفنيون، لكنهم فلاحون، ويختلطون من حيث المظهر ربما مع أبناء المدينة الخالصين، وبات على الروائي أن يميز بين هؤلاء وهؤلاء، لا من خلال الشكل، إنما من خلال الجوهر، الطباع والمعتقدات والقيم والعادات وكل هذه الأشياء".   
غريبو الأطوار
وعن شخصياته غريبة الأطوار مثل عبدالوهاب غصن في "سقوط النوار"، وعبدالمجيد راشد في "العابرون" يقول الروائى "وجود مثل هذه الشخصيات المشوشة أو الغريبة تمنح النص مزيدا من الجمال، وتضفي على العالم الروائي الواقعي والجاد مسحة من خفة الظل، وتخفف من الوقوع في الملل كما تكون أحيانا بوقا للآراء الحادة أو الأفكار المخالفة التي لا تجرؤ شخوص سوية ومنطقية البناء على التلفظ بها". ولا ينكر الروائى أن حضور الشخصية الغرائبية في رواياته الأولى كان تمهيدا لرواية "دموع الابل" فعالمها كان كله غرائبيا، ويضيف قائلا: بالفعل فقد كان افتتاني في "دموع الإبل" بدواخل هذه الشخوص أكثر من ملامحها الخارجية، وما تؤمن به من موروث شعبي وديني، وسعيت إلى الإمساك ليس فقط بهذه الشخوص بل بالأماكن والعالم في مواقف غريبة وأسطورية في لحظات محلقة، وكان على المستوى الفني لا بد من البحث عن تقنيات سردية وفنية أخرى تناسب تعقيد وغموض وغرابة عالم ينطلق بداية من الواقع ثم يحلق في الخيال ثم يعود مرة أخرى إليه، أو يتناوب الانتقال من الواقعي إلى الخيالي، والخروج من هذه الرحلة الفنية بمقاربات ورؤى متعددة ورحبة تقف في وجه الصلف واليقين الكاذب المتمثلين في الواقع الخارجي".

The Egyptian novel
اكتساب مهارات سردية جديدة 

الوقوف على باب الدنيا  
وعن سر تحوله  تدريجيا من الواقعية نحو الميتافيزيقا يقول الروائي "إكتشفت مبكرا أن الواقع وحده لا يكفي لكتابة رواية جيدة، ولا بد من الارتفاع قليلا فوق الواقع المباشر، وفي البدايات كانت معرفتي الظاهرية بالعالم هي التي تقف خلف الكتابة، فكنت أسعى إلى رسم اللوحة الكلية للعالم بشخوصه المنحوتة واضحة المعالم الجسدية بهدف تجسيد العالم وتقديمه باعتبار أنه عالم يستحق أن يأخذ مكانه، فجاء الريف في أول كتابين خلابا بالنسب الواقعية والمنظور الطبيعي المعتمد أكثر على معرفة ظاهرية للعالم وخبرة  أقل بباطنه، فلعب الوصف الدقيق لعالم القرية بشوارعها ودروبها والنهر والترع والمساقي ومفردات عالم القرية في إضفاء الجمال على الكتابة، ثم تطور قليلا في "العابرون" و"الركض في مساحة خضراء" وتواصل التحول إلى أن وصل في "باب الدنيا" إلى الابتعاد تماما عن الملامح الخارجية، وتجاوز الموروث والمعتقد إلى التأمل في الجوانب النفسية والروحية للشخوص وطرح الأسئلة والبحث في التفاصيل التي تشكل الشخوص نفسيا وروحيا ووجدانيا عن إجابات، فالوقوف على باب الدنيا هو وقوف في المنطقة الفاصلة بين الواقعي والميتافيزيقي، لا يمنح صاحبه فرصة اكتشاف نفسه مرة أخرى فقط، بل اكتشاف العالم كله عبر منظور أكثر رحابة من رؤيته الجزئية، حيث تصبح الرواية بحثا لاهثا عن معرفة شاملة تميط اللثام عن جوانب خفية وغير مرئية من حياة الإنسان.
وعن تأثر شكل الكتابة عنده بهذا التحول يضيف طه "كان لا بد لي من البحث عن تقنيات سردية وفنية أخرى، واكتساب مهارات سردية جديدة تناسب تعقيد وغموض هذا العالم الذي يتناوب الانتقال من الواقعي إلى الخيالي، والتحرر المؤقت من قوانين الواقع وقيوده بالخيال والحلم والجنون والأسطورة والخرافة، بهدف العودة من هذه الرحلة الفنية بمقاربات ورؤى رحبة تواجه صلف الواقع الخارجي وترفض يقينه الكاذب. (وكالة الصحافة العربية)