رسائل هيمنجواي تكشف عن هوسه بالموت

هيمنجواي أدرك الفرق بين كتابة الأديب عن ذاته وتعريته لذاته في اليوميات والرسائل.
أتمنى ألا تنشر الرسائل التي كتبتها في حياتي. وأطلب منكم عدم نشر أي من هذه الرسائل أو الموافقة على نشرها
المترجم: أرجو أن تغفر لي زلاتي وأن تسامحني على أنني نقلْتُ إلى لغة لا تعرفها ما أوصيت أهلك بعدم نشره حيًّا أو ميتًا

غالبا ما تتسم رسائل الأدباء بالبساطة والتلقائية والصدق، وهي السمات التي قد لا تتوافر في سيرهم الذاتية، إذ يعمد الكاتب من خلال سيرته المكتوبة إلى تصدير الصورة التي يريد إلى قارئه، أما حينما يبوح إلى صديق من خلال رسالة فالأمر يصبح شخصيا وسريا تماما، يصبح شبيها بالتعري في غرفة تخصك بعيدا عن أعين الرقباء والمتطفلين .
لقد أدرك هيمنجواي الفرق بين كتابة الأديب عن ذاته وتعريته لذاته في اليوميات والرسائل، فثمة فارق بين أن يكتب عن نفسه كما في "وليمة متنقلة"، أو أن يبوح بمكنون النفس في رسالة  لصديق أو حبيبة، فكان حريصا على أن تبقى خاصة بينه وبين المرسل إليه،  لذا اعتاد أن ينهي رسائله لأمه بقوله "لا تقرئي هذا الكلام على أي شخص"، وفي رسالة أخرى كتب لها عن صحفية تعد مقالا عن فترة شبابه، وهدّد الأم  إن تعاونت معها "أظن، سيكون موقفا سيئا جدا، أن أتوقف عن مواصلة المساهمة في تأمين حاجياتك في حالة نشرهم لمقالة من هذا النوع دون موافقتي".
وقد كتب قبل وفاته في رسالة موجهة إلى القائمين على تنفيذ وصيته: "أتمنى ألا تنشر الرسائل التي كتبتها في حياتي. وأطلب منكم عدم نشر أي من هذه الرسائل أو الموافقة على نشرها".
لكن تلك الوصية لم يلتزم بها أحد، فنشرت رسائله، وأصدرت إحدى المؤسسات الرسائل كاملة في سبعة عشر مجلدا، ومن أهم الكتب التي صدرت عن رسائله "إرنست هيمنجواي، رسائل مختارة، 1917-1961"، الذي أصدره  كاروس بيكر في ألف صفحة. 

الهوس بالموت يرجع لأسباب وراثية، إذ انتحر والده بإطلاق الرصاص على نفسه، كذلك انتحرت شقيقتاه

وبيكر الذي اشتهر بالسيرة التي كتبها عن هيمنجواي، بدأ هذه المجموعة من الرسائل في أغسطس/آب 1917 بعد إتمام الدراسة الثانوية، وتنتهي قبل وفاته بأيام، وهي المجموعة التي اختار منها د. عبدالمقصود عبدالكريم الرسائل التي ترجمها والتي أصدرتها مؤخرا دار آفاق بالقاهرة في مجلدين، وفي مقدمتها يخاطب المترجم هيمنجواي بقوله "أرجو أن تغفر لي زلاتي وأن تسامحني على أنني نقلْتُ إلى لغة لا تعرفها ما أوصيت أهلك بعدم نشره حيًّا أو ميتًا".
وجه آخر
كان هيمنجواي من هواة كتابة الرسائل منذ طفولته، وحتى قبيل وفاته، وتمكن الباحثون من جمع حوالي سبعة آلاف رسالة بخط يده أو مرقونة على الآلة الكاتبة، وكان يكتب الرسائل بشكل شبه يومي، وبالرغم من ذلك كان يعتقد أن أفضل الكُتَّاب يكتبون أسوأ الرسائل، وكان يقول إنه إذا كتب في أي وقت رسالة جيدة فهذا يعني أنه لا يعمل، ووصف رسائله بأنها بذيئة، بما يفسر وصاياه المتكررة بعدم نشرها، لكن من يقرأها قد يكتشف سببا آخر، فالرسائل تكشف عن وجه آخر لهيمنجواي، أو ربما تسقط القناع عن وجهه الحقيقي، فيظهر المحارب القوي رقيقا هشا يبكي لموت قطته التي رافقته لأحد عشر عاما. قال عنها في رسالة إلى صديق "غادرتني بعد أن أطلقت النار عليها عندما رأيتها تتلوى من الألم جراء الكسور التي أصابت قدميها"، وفي نفس الرسالة يصف الذين سخروا من دموعه باللا إنسانية، ومنهم طبيب نفسي زاره بالصدفة في ذلك اليوم فقال متهكما "لقد جئنا في أكثر الأوقات أهمية وحضرنا لنشهد الكاتب العظيم وهو يبكي ألما على قطته المقتولة".
وتكشف الرسائل أيضا عن تضخم ذاته في مواجهة من يتهمونه بالإفلاس وعدم مواصلة الإبداع، فينتقم لنفسه في الرسائل من أدباء يراهم بعض النقاد أفضل منه، فإذا كان النقاد يمتدحون في سكوت فيتزجيرالد قدرته الدائمة على التجدد، وكان هيمنجواي معجبا بأعماله الأولى لكنه كتب رأيه عن رواية ما لسكوت، وأرسل رأيه تفصيليا لصديقه، بدأه قائلا "أحببتها ولم أحبّها"، وقال للكاتب "منذ مدة طويلة توقفت عن الإصغاء إلا إلى إجابات أسئلتك الخاصة. وقد وضعت أموراً جيدةً في الرواية لكنها لم تكن تحتاجها، وما يفسد الكاتب هو ألا يصغي"، وينهي رسالته بنصيحة وكأنه يخاطب كاتبا مبتدئا، وليس لصاحب "جاتسبي العظيم"، كتب له "تستطيع أن تكتب أفضل مرتين مما كنت تكتب سابقاً. كل ما تحتاجه هو أن تفعل ذلك بصدق وأن لا تأبه لمصير ما تكتب".  

Translation
ميول انتحارية 

انقضاء المتع
تعرض إرنست هيمنجواي للموت مرات كثيرة، وكان يفلت منه دائما، لعل أشهرها في عام 1953، حينما سقطت الطائرة التي كان يستقلها في كينيا، وكان مسافرا في رحلة صيد، فأُصيب بكسور، لكنه خرج من الغابة حاملا عنقوداً من الموز وهو يقول: "هذه هي الحياة، المصاعب طريقنا إلى النجاة"، وفيما بعد كتب رسالة عن تمسكه بالحياة وفرحته بالنجاة، قال فيها "ظهري قوي مرة أخرى، كما كان قبل تحطم الطائرة، رأسي بخير أيضا، لا يوجد صداع، وجميع الأعضاء الداخلية بخير، لم نولد أنا وأنت لنموت بسهولة، ولنتذكر الحيوانات التي أطلق عليها الصيادون النار في تنجانيقا وعاشت سنوات، قررت الآن أن أعيش فترة طويلة، ولدي متع كثيرة وآمل أن نقضي بعضها معا".
لكنه بعد سبع سنوات يذهب بنفسه إلى حتفه، ففي مساء السبت تناول هيمنجواي وماري وجورج براون العشاء في أحد المطاعم وانصرفوا مبكرًا. وفي صباح الأحد استيقظ هيمنجواي قبل السابعة، ودخل البدروم، واختار بندقية بماسورة مزدوجة من على الرف، وحملها إلى الدور العلوي، ووضع في البندقية خرطوشتين، ووضع مؤخرة البندقية على الأرض، وضغط بجبهته على الماسورتين وفجر رأسه.
يبدأ عبدالمقصود عبدالكريم مقدمة ترجمته للرسائل باستعادة هذا المشهد المأساوي كما تخيله الرواة، لم يذكر أحدهم شيئا مما حدث ما بين تناول العشاء والاستيقاظ، حتى زوجته التي هرعت إليه بعدما سمعت صوت الرصاصة لتجده غارقا في دمائه، تصر على أن انطلاق الرصاصة من فوهة البندقية كان قضاء وقدرا ولم يكن انتحارا، وكان هيمنجواي قد حاول الانتحار كثيرا ولم ينجح إلا في المحاولة الخامسة، فقد كانت لديه ميول انتحارية نتيجة إصابته بالاكتئاب الشديد، وهكذا انتهت حياة حافلة بدأت يوم 21 يوليو/تموز 1899، فلعل المتع كانت قد انقضت، كما أوحت رسائله، ولم يعد قادرا على الكتابة أو معاشرة النساء أو شرب الخمر، فمثلا كتب هيمنجواي في رسالة إلى أرشيبالد ماكليش "بالنسبة لي أقايض كل جوائز العالم بزجاجتين جيدتين من كلاريت في اليوم، وعودة كلبي الأسود شابا، بحالة جيدة ولا أدفنه في حمام السباحة بجانب ملعب التنس".
وعموما كان إرنست مهووسًا بفكرة الموت، وقد اعترف بذلك في رسالة لزوجته الثانية، قائلًا: "أعتقد أنني سأبقى راغبًا في الموت دائمًا"، ويبدو أن ذلك الهوس بالموت يرجع لأسباب وراثية، إذ انتحر والده بإطلاق الرصاص على نفسه، كذلك انتحرت شقيقتاه. (وكالة الصحافة العربية)