رواية "أسامينا".. ما لا تقوله الشفاه!

رواية هدى حمد تحلق بنا بأحلام وأحداث وعلاقات ذات دلالات إنسانية عميقة، مسلطة الضوء بتخييل فنتازي على المخبوء فينا. 
الكاتبة العمانية تصحبنا إلى عوالم بعيدة عن صوت فيروز، إلى عوالم الريف والمدينة العمانية
هدى حمد تنتقل في حكيها بين الماضي والحاضر، تارة بالأحلام، وأخرى إلى الواقع

قرأتُ هدى حمد من سنوات قاصة متمكنة، لأجد لها مؤخراً روايتين في معرض القاهرة الأخير للكتاب: أسامينا.. وسندريلات مسقط.. صادرة عن دار الآداب.. بيروت. 
هنا يحضرنا مشهد السرد في عُمان. وتزايد إصداراته، خاصة في القصة القصيرة التي  تُكتب بنضج واضح. فسريعا ما حول كتاب عمان، بلدهم إلى أرض خصبة لهذا الفن. بعد أن بدأوا من حيث انتهى الأخرون، لتحتل القصة القصيرة في عمان مساحتها بين فنون أخرى ضاربة في وجدان المجتمع، حيث أخذ كتّابها بالتحديث والتجريب المتواصل، بتناولهم لقضايا اجتماعية مهمة، مثل معالجة انتقال المجتمع من الحياة التقليدية إلى المعاصرة. 
وقد تعرفنا إلى المشهد القصصي في عُمان من خلال عدة أسماء. أذكر منها: يونس الأخزمي، يعقوب الخنبشي، مازن حبيب، عبدالعزيز الفارسي، المنذري يحيى، سليمان المعمري، سالم آل تويه، نمير آل سعيد، جوخة الحارثي، محمد سيف الرحبي، خليفة سلطان العبري، الخطاب المزروعي، طيبة عبدالله الكندي، سلطان البادي، عبدالله حبيب، حسين العبري، زوينة خلفان، طاهرة اللواتي، أحمد محمد الرحبي، معاوية الرواحي، طالب المعمري، حمود الشكيلي، عبدالحكيم عبدالله، عبدالله بني عرابة، فاطمة العبيداني، سمير العريمي، مريم النحوي، نبهان الحنشي، سلطان العزري، هدى الجهوري، عادل الكلباني، حمود سالم الكلباني، علي الصوافي، محمد اليحيائي، ناصر المنجي، أزهار أحمد، سعاد العريمي، قاسم اليعقوبي، رحمة المغيزوي، فايزة اليعقوبي، محمود الرحبي، سعيد الحاتمي، أحمد الزبيدي، حمود العويدي، خولة الظاهري، ليلى البلوشي، حمود الشكيلي، عيسى البلوشي، عبدالله بني عُرابة، هلال البادي، عبدالله الطائي، نبهان الحنشي، بشرى خلفان، محمد عيد العريمي، سمير العريمي، أزهار أحمد ... وأسماء أخرى أبدعت بالعديد من النصوص المميزة.
ولأن فن القصة لا يجيده إلا من يمتلك قدرات فنية عالية، نجد قلة ممن حفروا بتجددهم والإتيان بما يدهش، لتستمر كتاباتهم، والكثرة منهم فضلوا الهروب إلى الرواية. وقد وجدوا ما يكتبونه لا يقدم الجديد. وأمسوا نسخا باهتة لغيرهم. ومن هؤلاء من ظنوا مخطئين بأن القصة ما هي إلا تمرين أولي لكتابة الرواية، لنجدهم بعد انتقالهم لكتابة الرواية يدورون في دوائر الثرثرة. عدى القلة. ومنهم هدى حمد التي نناقش في هذه العجالة إحدى روايتها "أسامينا". 

ظلت تحمل ثقل نظرات أمها الاتهامية، ليستقر في أعماقها إحساسها بالذنب. إحساس بوزر لأثم لم ترتكبه

عنوان يستدعي صوت فيروز، وهي تشدو بإحدى أغانيها، لكن بعدد قراءة ما يقارب المائة وأربعين صفحة، نجد أن الكاتبة تصحبنا إلى عوالم بعيدة عن صوت فيروز، إلى عوالم الريف والمدينة العمانية. بيئة زراعية "سيح الحيول" إحدى القرى التي تبعد عن مسقط بـ 140 كيلومترا. ثم إلى صالة رقص في أحد أحياء مسقط "نادي الجميلات"، حيث تلتحق الساردة كمتدربة رقص، ثم مدربة، التي تسرد بأسلوب سلس طفولتها المبكرة في أحد التجمعات الريفية "سيح الحيول" حيث النخيل، وحقول القمح والذرة، والخضر وبساتين الفواكه، ثم انتقال أسرتها إلى مسقط المدينة الجميلة والمعاصرة. هي صورة تحول المجتمع العماني من الريف إلى المدنية.
كبندول ساعة تنتقل الكاتبة في حكيها بين الماضي والحاضر، تارة بالأحلام، وأخرى  إلى الواقع. في نسيج متماسك وشيق، حاكمة قبضتها على خطوط السرد المتوازية، متلاعبة بخيوط الأحدث وعلاقات الشخصيات المتباينة، بتقاطع مصائرها، مثيرة لأسئلة بين صفحة وأخرى. تتنقل في سرد أحداث روايتها، بخطوات شبيهة بالرقص، من موضوع إلى آخر دون إخلال، فكل قسم يحمل فكرة، وبين سطور تلك الأقسام تنتقل بنا بين مواضيعها الجزئية، بدراية وفن، فمثلا من الصفحة 43 إلى 52 نجد أكثر من خمسة مواضيع. 
تبدأ بموضوع التطَيُر من الأسماء لدى مجتمع الرواية، والمصير الغامض لحاملي الأسماء، ولذلك يفضل الأهالي عدم إطلاق أي اسم على المواليد، بل أن بعض الشخصيات لبثت سنوات دون اسم. وبعضها حتى وفاتها "لا تسميها وإلا خطفها الموت.. الموت يعرف الناس بأسمائهم". هذه هي الأم.. ولذلك ظلت بدون اسم إلا أن طلبت بعد زواجها بأن يكون لها اسم سعاد "ذهبت إلى الشيخ: أريد اسما.. سأسمي نفسي سعاد". واختيارها لذلك الاسم لم يكن إلا بدافع الغيرة لأعجاب زوجها بسعاد حسني الذي كان يشاهد أفلامها في سفرياته وعلى جهاز الفيديو. ولم يكن الشيخ يعلم بذلك، ولذلك قال لها ناصحاً "لقد حماك غياب الاسم من فواجع الدهر التي ألمت بأخوتك". لكنها ظلت على تصميمها. وبعد أنجابها لتوأم رفضت أن تسميتهم "سألها أبي: إلى متى سنقول البنت والولد.. ماذا سنسميهما؟ قالت: لا أعلم. أخشى أن أسميهما فيذهبان من يدي". كان ذلك في ردها على زوجها، بعد أن سافرت ذاكرتها إلى ماضي طفولتها "لقد استعادت قصص إخوتها التسعة الذين ذهبوا في حوادث محزنة بسبب أسمائهم: لا أستطيع أن أسميهما الأسماء تقتل وتصنع الحظ". وهكذا ظلت تقاوم، رافضة تسمية أبنائها "وكلما أصر أبي على أن يطلق علينا الأسماء ذرفت أمي الدموع: سيأكلهما السحرة ما أن نسميهما!".
ومن الأسماء إلى جفاء الأم لابنتها، وحالتها المرضية بعد وفاة ابنها. لتصاب باكتئاب دائم، إلى نشاط العمة ذات الفص في عينها اليسرى. ومن الصور وتطير أفراد المجتمع إبقاء صورة الميت معلقة، مؤمنين بجلب الشرور والفأل الشؤم.
 تستمر الكاتبة تنتقل من موضوع إلى آخر في صفحات قليلة. فمن سيارة أبو كشمة "نظارة" إلى بداية تدريس البنات في أرياف عمان، ثم ذلك اللوح الذي خطت عليه الساردة لأول مرة اسم أمها. ومن رحيل الأسرة من "سيح الحول" إلى مسقط، ثم لحالة أمها الحزين مع الاكتئاب. وهكذا نجد التنوع في كل قسم، بل في الصفحة الواحدة، كل ذلك بسلاسة وتشويق مدهش.  
 وبالعودة على بدء نجد أن التطير والتشاؤم من الأسماء في ذلك المجتمع عالجته الرواية كأحد محاورها، ولذلك استعاضت الكاتبة عنها بالصفات والنعوت. مثل: البنغالي، البنغالي الثاني، الخالة صاحبة القطط، العمة صاحبة الفص في عينها اليسرى، الأم، الأب، الأخت، الفتاة الحشرة، صاحب الشعر الأحمر، أبو كشمة، فتاة الاستقبال، صاحب البناية، الفتاة الممتنة، رجل الشاورما، الخ ذلك. تلك صفات تُقرب الشخصيات إلى القارئ. متخيلا العمة صاحبة الفص في عينها اليسرى، وصاحب الشعر الأحمر وراعية القطط، وبقية الشخصيات، لنتخيل صورا وأشكل كل شخصية، وفق ذائقة كل متلقي ومخزونه المعرفي "الأيام الأكثر رعباً التي مرت على حياتي كانت عقب أن أصبح لي اسم". 
هكذا تحكي الساردة رعب أن تحمل شيئا لم تألفه "جلس أبي على مقربة مني في أربعينية عمتي صاحبة الفص في عينها اليسرى. أمسك بيدي اليمنى وقال لي: لقد تأخرنا كثيرا، ولكن بات لك اسم جميل الآن. حدقت فيه كأني لا أعي الكلام الذي يقول لي: العمة اختارت الاسم. سنخبر الجميع.. سينادونك بهذا الاسم وستعتادين عليه...".
 "لم يكن الأمر بالسهولة التي ظنوا.. لقد أعتدت أن أكون دوما (البنت). لأمد لا يقل عن خمس سنوات. ذهبت البنت .. جاءت البنت.. تعالي يا بنت.. وعندما يسألوني عن اسمي في سيح الحيول كنت أقول ببساطة تامة.. البنت". 
وإذا كان غياب الأسماء أحد محوري الرواية، فلئن المحور الثاني كان ذا أهمية، والمتمثل بالعلاقة المعقدة بين الساردة وأمها. تلك العلاقة التي ظلت مرتبكة وجافة من قبل الأم. تجلت بنفور الأم وتجهمها تجاه ابنتها. بينما ظلت البنت تتقرب منها، تفرح لبارقة أمل، بطيف ابتسامة أو همسة طائرة "فأنا لا أذكر أني أدركت أي إعجاب يذكر.. بأي معنى من المعاني. لم يرغب بي أحد يوما ما؛ منذ كنت صغيرة وحتى الآن". 
كان موقف أمها منها مؤثرا على نفسيتها وحياتها، وألقى بظلالها على علاقتها بالآخرين، إلى أن بلغت الأربعين من عمرها، لتتحاشى الاقتراب ممن حولها، تقرف لملامسة أحد، حتى زميلاتها وطالباتها في الرقص "ثم لم أعد أفكر بشيء.. أكثر من المحافظة على المتر الذي يقف بيني وبين الراقصات، بيني وبين العالم. إن ذلك المتر يبدو أغلى ما أملكه الآن". 

novel
إحساس بوزر لأثم لم ترتكبه

"تراهن كما ترى أي محذور "لقد كان اللمس أحد أصعب الأشياء التي تقف بيني وبين هذه الكائنات الرجراجة"، لتتجه بأحلامها إلى خلق عالم مواز يعوضها. أن ترى أحدهم يقف على فرندة عمارة مقابلة لشقتهم. تترصده يخرج في أوقات محددة. تراه أملاً لها. أن تحكي لصاحب الشعر الأحمر. وأن تجالسه وتبوح إليه بما تعانيه: "وعلى العموم، بقدر ما تحتاج أمي إلي يبدو أني أحتاج هذا الرجل.. عبر مسافة هلامية لا تفصح عن الكثير". 
ويوم خرجت تسير ليلاً وحيدة دون هدى، وجدت نفسها أمام بوابة العمارة التي يقطن فيها ذو الشعر الأحمر، صعدت درجاتها، قرعت جرس باب شقته، فتح الباب امرأة سمينة وعدد من الصغار خلفها. لم تعبأ لها دخلت تبحث عنه، فتشت الشرفة التي تراه كل يوم يطل منها، لكنها لم تجد أحد. فغادرتها.
جفاء أمها جعل كوابيس وأحلاما مفزعة تزورها ليلا. ففي إحداها ترى أمها ذئبة تلاحقها: "فرأيت في محجري الذئبة الجائعة عيني أمي، عينان لا تفصحان عن شفقة أو رحمة". 
وفي  كوابيس أخرى "تهرب وقد عضتها تلك الذئبة ومزقت شيئا من أنسجة ذراعها.. إلى زريبة المواشي.. تغلق الباب: تحسست حرارة عيني أمي وهياجها من ثقب صغير في الباب الحديدي". لتزداد تلك العلاقة تعقيدا، فحين تدخل أمها في غيابها غرفتها تجد ألبوم صور. تلك الصور التي التقطها والدها لها ولشقيقها التوأم الذي توفى غرقا في حوض ماء. كان يلعب معها  في غفلة أمهما، ليغرق ويلفظ الروح. تثور الأم وتتهم ابنتها بعد أكثر من ثلاثين سنة على وفاته. "لماذا قتلت ولدي". يتعالى صراخها، تهرب البنت من الصراخ إلى غرفتها "أندسُ تحت بطانيتي وأنتفض. يدخل توأمي معي تحت البطانية ليضيء الظلمة بشمعة في يده، ثم يدخل رأس أبي ورأس أختي ورؤوس أخرى. نظروا جميعهم إلى بعضهم بعضا، وقالوا بأنهم يعرفوا سحرا قديما. سحر سيأخذنا إلى سيح الحيول. في اللحظة ذاتها. خرجت معهم من تحت البطانية. رسمت تلك الرؤوس خطوطا بيضاء على الأرض. وبعد لحظات وجدت نفسها بعيدا عن مسقط، في سيح الحيول. رفعت لوح البئر وكان جميعهم ينظرون إلي بمن فيهم الأشجار الكثيفة والسواقي. ومن حيث لا أدري انبثقت الموسيقى في أرجاء المكان. خلعت نعلي ولامست قدمي تراب الحقل البارد. ووجدت أن الفرصة سانحة لكي أرقص".  
"لم يكن سقوطي في الماء آمناً كما ظننت. فقدت الوعي في لحظة ارتطامي المتلاحق بجدران البئر". أكتشف حذائيها البنغالي العامل في المزرعة، ذهب للشرطة وحين عرفوا من تكون وأين تسكن تعجبوا لوجود جثة امرأة تسكن مسقط. 
"كيف وصلت امرأة أربعينية إلى هذه المزرعة النائية؟ حيث تبعد هذه المزرعة عن مكان إقامتها المائة والأربعين كيلو!". نقلوها إلى إحدى مستشفيات مسقط. حضرت أمها، لتتعرف على جثتها "وبعد لحظات قليلة.. تناهى إلى مسامعي بكاء مخنوق.. أردت مرارا وتكرارا أن أحصل على لذة من هذا النوع.. أردت ان أراها بهذا الفزع". 
لم تكن فكرة الانتحار بسقوطها في البئر هي الأولى فقد فكرت مرارا في عدة طرق للتخلص من حياتها. وكل ذلك ليس لشيء إلا لترى خوف أمها وحنوها عليها، لترى ملامحها فزعة على ابنتها. ظلت تحمل ثقل نظرات أمها الاتهامية، ليستقر في أعماقها إحساسها بالذنب. إحساس بوزر لأثم لم ترتكبه.  
تلك "أسامينا" تحلق بنا بأحلام وأحداث وعلاقات ذات دلالات إنسانية عميقة، مسلطة الضوء بتخييل فنتازي على المخبوء فينا. لتطفو جماليات النص. ويتضح ما غمط.
رواية تستحق حصد أكثر من جائزة، لكن أفضل الجوائز هي إعجاب القارئ ورسوخ ما تحمله من معاني إنسانية في وجدان القراء.