رواية "بورتو سعيد" وعودة الروح الغائبة

رواية سامح الجباس تعتمد على ثيمة المكان طبقا لما أردفته العتبة الأولى للنص، وهو العنوان المستمد رمزيته من المكان وطبيعة محددات ركائزه.
أخبار محددة منتقاة من الوثائق الصحفية والتراثية القديمة والحديثة استخدمها الكاتب في ربط الأحداث
اختيار أهمية الموقع الجغرافي في ترخنة وترميز روح المكان من خلال التركيز على بعض شوارع المدينة وحاراتها وأزقتها

"الإسكافى لا يرتفع فوق الحذاء"
غاستون باشلار
                                            
تعتمد رواية "بورتو سعيد" للروائي سامح الجباس على ثيمة المكان طبقا لما أردفته العتبة الأولى للنص، وهو العنوان المستمد رمزيته من المكان وطبيعة محددات ركائزه سواء أكانت تاريخية أو طوبوغرافية، والمتمحورة حول عدة شوارع وحارات منتخبة من دروب المدينة الباسلة صاحبة اليد الطولى في التاريخ الوطنى المعاصر في أيقونة ساردة لطبيعة ما حدث في هذه الدروب والأزقة من أمور وأحوال إنسانية كاشفة تبدأ منذ العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر/تشرين الأول 1956 وعلى الأخص على منطقة القناة، كما تعتمد أيضا المادة الوثائقية المختارة بعناية فائقة في بلورة تاريخ المدينة ورفد حالة من الحضور الإنساني للمكان بتفاعله مع أزمنة تراثية قديمة وأزمنة أخرى آنية حاضرة فيه بكل قوة من خلال دينامية الخيال واستعادة تجربة المكان الأليف، وأيضا من خلال أنسنة الأشياء الكاشفة عن طبيعة هذا المكان والمجسدة لروح البيئة الساحلية البورسعيدية في تجليات إرثها وطبيعة تشكلها وتمردها المستمر على واقعها المستهدف بصفة دائمة، كذلك الاحتفاء بالتاريخ الاجتماعي والوطني للمدينة من خلال شخصيات فاعلة انتخبها الكاتب بحسب طبيعة المكان وجغرافيته المألوفة وسيرنة البعد الذاتي عنده باعتبار أن هذا المكان هو مسقط رأس الكاتب، والعائش فيه حقيقته الاجتماعية والمهنية والذاتية الحاكمة.

حكايات الشوارع والحارات تتواتر في المدينة لتؤثث في النهاية هذا النص السردى الحكائي الذي يعتمد المكان والتاريخ الاجتماعي والسياسي المقاوم

كما احتفى الكاتب أيضا بأسطرة بعدي المكان والزمان في شكل سردي تجريبي بتقاطع مع مقاطع ومتواليات نصية تفضي إلى أخبار محددة منتقاة من الوثائق الصحفية والتراثية القديمة والحديثة استخدمها في ربط الأحداث واختيار أهمية موقعها الجغرافي فى ترخنة وترميز روح المكان من خلال التركيز على بعض شوارع المدينة وحاراتها وأزقتها التي اختار منها الكاتب سبعة عشر شارعا وحارة رفد في كل منها ثيمة خاصة بها بدءا من "شارع كسرى"، وانتهاء "بشارع الأزهر" مرورا بهذه الأماكن البورسعيدية المألوفة "حارة العباني"، "شارع عدلي"، "شارع مظلوم"، "شارع شهداء القنال"، "شارع أبو الحسن"، "حارة الأصمعي"، "شارع الشهيد محمد طرفان خميس"، "شارع الشهيد طيار رفعت البري"، "شارع الثلاثيني"، "شارع محمد صالح حرب"، "حارة دسوقي"، "شارع المقدس"، "شارع رمسيس"، "شارع محمد علي"، حيث يتواصل السرد مع المكان البورسعيدي على إطلاقه في متواليات نصية تحكي وتسرد أحوال المدينة العظيمة الباسلة من خلال هذه الشوارع والحارات والأزقة التي حدثت بها أحداث جسام في ذلك الوقت، وتختار من بعدي الزمان والمكان أحداثه البارزة سواء أكانت تراثية قومية أم معاصرة للواقع في ثوبها القومي والوطني والاجتماعي.
ولعل المكان بأبعاده الجغرافية والإنسانية وشخوصه المنتخبة من الواقعي التاريخي والمتخيل المطلق قد انطلق من هذه الأماكن التي انتخبها الكاتب من أركان المدينة ليجسد وقائع إنسانية عاشتها شخوص وأشياء محددة تفاعل معها تاريخ المكان وأبرز حولياته لتتزامن مع ما يحدث الآن من أحوال وممارسات تخص ذات المكان والزمان في أحداثه الآنية في ترميز فاعل يسرد ويتحدث عن أماكن بعينها تعيش حتى الآن ولكنها تحكي الماضي القريب. ولعل هذا السرد قد جاء في هذا الوقت بالذات ليعيد صياغة الرمز الباقي من المكان المتفاعل مع تحولات الأحداث التي مرت بها المدينة في أزمنتها المختلفة. 
يستخدم الكاتب في صدر كل مكان وشارع مقاطع تراثية لتوصيل المعنى وتأويل الدلالة بخيط رفيع يتقابل من قريب أو بعيد مع أحداث النص. والمدينة في تكوينها الأصيل كانت حاضرة بقوة حسبما جاء في المقطع الأول من الشارع الأول من النص وهو "شارع كسرى" حيث يبدأ الكاتب بهذا المقطع التراثي المستمد من خطط المقريزي: ".. بناها قليمون بن أتريب بن قبطيم وسميت تنيس نسبة إلى تنيس بن حام بن نوح.." (خطط المقريزى).
وتبدأ الأحداث في المتوالية الأولى ببرقية تصل الراوي المتحدث عن نفسه تقول: "البقاء لله.. توفي إلى رحمة الله فريد عارف الشهير بفريد شوقي". وتعود الذاكرة إلى الثامن من يوليو/تموز عام 1957 سينما ريفولي بالقاهرة حيث يجلس فريد هذا خلف شباك التذاكر، وهو من يرسل إلى الراوي هو وزميله منير فلتاؤوس موظف شباك سينما ديانا عام 1956 برقيات تعرفه بالأفلام المعروضة في سينمات القاهرة الشهيرة حتى يحضر من بورسعيد خصيصا لمشاهدتها، تعود الذاكرة إلى هذا الزمان الصعب أثناء العدوان الثلاثي على مصر، بينما يتقاطع السرد بأخبار صحف عام 1956 أثناء القتال في بور سعيد نأخذ منها هذا الخبر المنشور في جريدة الجمهورية يوم الخميس الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 1956: "القتال مستمر في بورسعيد، صرح السيد عبدالقادر حاتم مدير عام مصلحة الاستعلامات في الساعة التاسعة من مساء أمس بأن القتال لا يزال مستمرا في مدينة بورسعيد، وأن المعتدين قطعوا المياه عن المدينة بعد أن فشلوا في احتلالها".
السارد ينادي على من رحلوا من المدينة أصدقاء الزمن الجميل، وشهداء المدينة الباسلة، وهم شخصيات حقيقية عاشت في هذا المكان واستشهدوا على أرضه "سيد عسران"، "حسين عثمان"، "على زنجير"، "أحمد هلال"، "محمود عطعوط"، "لطيف مرقص"، "نبيل الوقاد"، "أم علي"، "زينب كفراوى"، "أمينة غريب"، .. أسماء كثيرة لا حصر لها كانت تعيش المدينة بكل عنفوانها وحيويتها وسطوتها، ولكنها غابت عن المكان بفعل الاعتداء الثلاثي الغاشم على المدينة، ويتخلل السرد مقطع صحفي نشر بجريدة الجمهورية يوم الاثنين الموافق 17 ديسمبر/كانون الأول 1956 يقول: "اشتباكات عنيفة في بورسعيد، ستوكويل يعلن أن الأهالي صرعوا ضابطا وجرحوا بعض الجنود، الباقوري يخطب الجمعة في بورسعيد، اعتقال 1000 مصري". وخبر نمطي آخر يقول: "بحثت أمس الخطوات التمهيدية لمشروع صناعة التليفونات بمصر". 

يستخدم الكاتب أسطورة جزيرة الفرما القديمة التي تظهر فقط في الليالى القمرية، ويظهر فيها الموتى وهم يعبرون الشوارع متجهين ناحية البحر ليشاهدوا هذه الجزيرة الأسطورية التي كانت من معالم المدينة في الزمن القديم ثم اندثرت ضمن ما اندثر من معالم في محاولة لأسطرة المكان وبث روح الميثولوجيا القديمة المستمدة من غرائبية المشهد وروح جزيرة "الفرما" المتأصلة في ذات المنطقة، وفي متوالية "حارة العباني" وهو المكان الثانى في سلسلة الأماكن البورسعيدية المحتفى بها في هذا النص. في هذه الحارة يستدعى السارد ثلاثة شباب من شباب الحارة ليتحدثوا عن مبارة كرة تقام بين بورسعيد والزمالك يتخلل هذا الحديث، مونولوج داخلي لأحد هؤلاء الشباب يقول فيه: "ثلاث سنوات مرت منذ تخرجت يا عمر من كلية الهندسة ببورفؤاد، حاولت أن تعمل في أي من شركات المقاولات الخاصة، إلا أنك لم تجد الواسطة المناسبة، في كل عام تقول لنا الحكومة "مفيش فلوس.. مفيش تعيينات" ويهاجموننا في برامج التليفزيون "أنا مش عارف إيه الشباب الخرع اللي قاعد يقول أنا مستني تعيين الحكومة". 
ويتخلل النص ما يجرى على صعيد التجارة الحرة في المدينة من تهريب للملابس المستوردة والمخدرات في منطقة الجرابعة، حيث تصب الأموال في جيوب تجار معدودين، وانتشار تهريب ذريعة السمك في منطقة المناصرة واستخدام سيارات ربع النقل التي تقل الممنوعات بين الجمرك ودمياط بكثرة، ويتخلل النص وثيقة تتعامل مع زمن هذا الوقت من خلال خبر نشر يوم الخميس 13 مارس/آذار 1958 في جريدة الأخبار عن مطبوعات كتابي التي كان يصدرها حلمى سلام في ذلك الوقت مفاده: "مطبوعات كتابي تقدم لك اليوم مع باعة الصحف أول ترجمة عربية للكتاب المشهور الذي قرأه العالم بكل لغة "ليالى بلزاك" (قصص ماجنة)، أصرح من "ليالي بوكاشيو" الإيطالية (الديكاميرون)، وأجرأ من ألف ليلة وليلة العربية، 200 صفحة مزينة بالصور – الثمن 10 قروش فقط". 
وتنتقل الأحداث في إيقاعها السريع إلى نص "شارع محمد علي" حيث يحتفى الكاتب بتقنية الأنسنة في مونولوج داخلى جاء على لسان "نجمة البحر" المعلقة على باب إحدى العمارات ويبدأ النص بهذه الوثيقة النصية المستمدة من العدد الحادى عشر من مجلة "الهلال" الصادر في شهر يوليو/تموز 1893 والذي يقول: "يسافر جناب اللورد كرومر من القاهرة في 3 يوليو/تموز الجارى، وفي غده يغادر الإسكندرية لتبديل الهواء في أوروبا". 
ثم يبدأ النص بحديث النجمة التي علقها صاحب إحدى عمارات بورسعيد على باب عمارته وهو العائد توا من التهجير، وكله تفاؤل وأحلام بحياة جديدة، تيمنا ببحر بورسعيد وما يخرجه من خير وثراء، تقول النجمة: "جففت السنوات أحشائي حتى صرت أنشف من الخشب، لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي فارقت فيه عالمي في البحر إلى عالم الناس.. نقلني صياد اسمه منصور إلى طاولة سمك، رآني صاحبي فأعجبه لونى الأحمر". (ص90). وتشاهد نجمة البحر ما يحدث أمامها من أحداث مأساوية تطال شخصيات البيت المعلقة على بابه، وبعد أن كانت حديث أهل العمارة والتفاؤل المحيط بالمكان أصبحت ترى وجها جديدا للمكان والزمان: "جاء بشر من كل مكان، أسمعهم يتكلمون عن التهريب من منفذ اللنش ومنفذ دمياط.. ستات بجلابيب سوداء، ورجال ذو سحنات غير مريحة. لا أحد عاد يذكرني أو يراني.. أشتقت إلى الماء كثيرا.. ليتني أموت" (ص91). وتشاهد النجمة من مكانها مشاهد غير مألوفة لتأزمات الواقع وفساد الذمم والضمائر تركها المستعمر على رأسهم اللورد كرومر الذي كان يوما ما يذهب إلى أوروبا ليغير الهواء.  

novel
المدينة التي ولدت لتعيش وعاشت لتولد كل من جديد

وفي نص "شارع الشهيد محمد عطعوط" وهو نص شبه سيّرى يعتمد على الذاكرة الذاتية لأحد المسؤولين عن المدينة أثناء العدوان الثلاثي ويبدأ النص بهذه العبارة المستمدة من كتاب خطط المقريزي: "كانت الفرما على شط بحر تنيس وكانت مدينة حصينة وبها قبر الحكيم جالينوس، وبنى بها المتوكل على الله حصنا على البحر.." (ص50) بعد ذلك تبدأ اليوميات التي كتبها السيد محمد رياض محافظ منطقة القتال ابتداء من يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 1956 حين بدأت الطائرات البريطانية والفرنسية تقوم بغاراتها الجوية العنيفة على المدينة، ومن خلال هذه الحوليات اليومية يذكر السيد المحافظ الروح القتالية العالية التي كانت تتمتع بها بورسعيد ومنطقة القنال بأكملها والدور المجيد الذي قامت به المقاومة الأرضية للمدفعية المصرية ضد طائرات العدو وأثناء نزول جنود المظلات في بور فؤاد ومنطقة الرسوة ومطار الجميل واشتباك الأهالي والشرطة وجنود الجيش معهم، وتتوالى يوميات المدينة خلال هذه الفترة عبر هذا الشارع الذي سقط فيه الشهيد محمد عطعوط ومن ثم سمي باسمه بعد ذلك، وتتوقف المذكرات في يوم 22 ديسمبر/كانون الأول وهو اليوم الذي انسحبت فيه القوات الغازية وختم فيه السيد المحافظ يومياته بمقتطف مما كتبه في هذا اليوم حيث قال: "أخطرني الجنرال بحضور الكولونيل إنجلهم قائد القوات الدولية في بورسعيد أن الانسحاب يتم اليوم، وطلب أن يبلغه هل لا يزال مورهاوس على قيد الحياة أم أنه قد مات، ثم قال الجنرال استوكويل موجها حديثه إلى قائد القوات الدولية: أود أن أبلغ القوات الدولية للأمم المتحدة أن محافظ القنال قد واجه الموقف بشجاعة وكفاءة وأن المقاومة السلبية قد نجحت نجاحا كاملا فلم تقدم لنا أية مساعدة من أي جهة". (ص60)، 
تستكمل هذه المتوالية ما أشار إليه الكاتب من بيانات تحدد مساحة القوة العسكرية الغاشمة والتي جاءت في متوالية "حارة العباني" أثناء عدوان 1956، وهي القوات التي كانت تحت إمرة الجنرال سير تشارلز كيتلى ونائه جنرال سيرهيو أستوكويل بعددها وعتادها وأسراب طائراتها، وبوارجها ومدمراتها.
وفي متوالية "شارع الشهيد عريف محمد طرفان خميس" تبدأ المتوالية بهذه الوثيقة السردية التراثية المستمدة من كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي: "قال أهل السيّر: كان الفرما والإسكندر أخوين بنى كل واحد منهما مدينة، فقال الإسكندر: بنيت مدينة إلى الله خضرة وعند الناس فقيرة فبقيت بهجتها ونضارتها إلى اليوم، وقال أخوه الفرما: بنيت مدينة إلى الناس فقيرة وغنية عند الله، فلا يمر يوم إلا وفيها شيء ينهدم حتى أنه في زمننا هذا لا يعرف أحد أثر بنائها لأنها خربت وسفت فيها الرمال..". (ص61)، ثم يمتزج هذا المونولوج الداخلي للريس منصور أحد صيادي بورسعيد الشرفاء، عن واقع الحالة التي يعيشها في هذا الزمن ما بين الغلاء وبنته التي بدأت تكبر، والرزق الذي أصبح شحيحا، حينما بدأت كلمة التهجير تفرض نفسها على سكان المدينة بعد عدوان 67 يذهب الريس منصور إلى الإسكندرية، تتخلل هذه الهواجس ما تقوله الصحف في ذلك الوقت: "قدركم أن تعيشوا في بوابة مصر الشرقية، وطأتها خيول عمرو بن العاص حاملة الإسلام إلى مصر، هي مفتاح القنال، لعاب دول العالم يسيل عليها، من حرب إلى حرب إلى حرب إلى حرب تولدون محاربين، من دفنوا في ترابها منذ عهد ديلسبس أكثر مما يعيشون على أرضها الآن، تضربونها بمدافعكم وصواريخكم، وقنابلكم ولا تموت، تجرم ولا تموت، ترتشف رياض الانتصار وتنهض من جديد، ترسم عيونها بالكحل، وتحدد شفتيها بالقلم، وتنثر البودرة المعطرة على جوارحها، وتمشط شعرها المصبوغ بلون البحر وتبدأ من جديد". (ص66).
وتتواتر حكايات الشوارع والحارات في المدينة لتؤثث في النهاية هذا النص السردى الحكائي الذي يعتمد المكان والتاريخ الاجتماعي والسياسي المقاوم كما يعتمد أسطرة لكثير من أدوات القص والحكي في رفد هذه الرواية التجريبية وتعود الروح الغائبة مرة أخرى إلى الفرما لتؤسس من جديد بورتو سعيد المدينة التي ولدت لتعيش وعاشت لتولد كل من جديد.