زكي نجيب محمود آخر الرواد المحترمين

الناقد والمترجم فتحي العشري يروي قصة الكتاب الذي يكمل به نشر مخطوطات شقيقه الناقد والكاتب والمترجم الكبير جلال العشري بعد سنوات طويلة من رحيله.
زكي نجيب محمود علامة واضحة على الطريق إلى أنفسنا، والطريق إلى الآخرين
الوفاء لهذا التراث وفاءً للأدب المعاصر، والفكر المعاصر

في تقديمه لكتاب "زكي نجيب محمود وثورة العقل المعاصر" الصادر عن "المكتبة الأكاديمية" بالقاهرة، يروي الناقد والمترجم فتحي العشري قصة هذا الكتاب الذي يكمل به نشر مخطوطات شقيقه الناقد والكاتب والمترجم الكبير جلال العشري بعد سنوات طويلة من رحيله، فيقول: "اتخذت من البحث عن تراث جلال العشري قضية شغلتني بعد رحيله، لا لأنه أخي الذي تربطني به عاطفة الأخوة فقط، بل لأن تراث جلال العشري يعد قطعة من الأدب المعاصر، وهبه - حتى رحيله - كل وقته.
وكان الوفاء لهذا التراث وفاءً للأدب المعاصر، والفكر المعاصر الذي كان شغله الشاغل فيما يؤلف أو يُترجم. وقد وجدت في أوراق جلال ملفات وأوراقًا بعضها محدد الملامح، ومفهرس، ولكنه غير مستوفٍ الموضوعات؛ فجلال العشري كان يخطط مشروع كتابه قبل أن يشرع في تنفيذه. وقد رأيت البدء بالأعمال المكتملة أو القريبة من الإكمال، فأعددتها للنشر.
وكانت ملفات ثلاثة كتب؛ صدر أولها بعد رحيله، وهو "العقَّاد والعقَّادية"، وها هو الكتاب الثاني يصدر عن زكي نجيب محمود، ولم  يكن جلال قد وضع عنوان الكتاب على مسودته فأطلقت عليه "زكي نجيب محمود"، وأثناء استماعي إلى شرائط مسجلة لجلال العشري لفت انتباهي اللقاء الصحفي الذي جمع فيه مصطفى عبدالله بين جيلين من المفكرين: الدكتور زكي نجيب محمود وتلميذه جلال العشري، وهو اللقاء الذي احتفت به الصفحة الأدبية لجريدة "الأخبار". وفي هذا اللقاء صرح جلال بأنه انتهى من هذا الكتاب، وقال إن عنوانه هو "زكي نجيب محمود وثورة العقل المعاصر". وعلى الفور قمت بإكمال عنوان الكتاب أثناء تصويب بروفاته.
ويضيف فتحي أنه يتبقى لديه ملف مشروع كتاب آخر وضعه جلال عن أنيس منصور، ولكن مادته لا تزال عير مكتملة، ولا تصنع كتابًا، ويضيف بأن أمامه حل من ثلاثة: أن ينشره كمقالات، أو يتولى كاتب ثالث إكمال هذا النقص، ويكون متفهمًا لفكر جلال العشري، ليتمكن من إيصاله بأمانة إلى قرائه.
ويذكر بأنه لا يزال يبحث في أوراق شقيقه عما يفيد القراء مما تركه جلال العشري من دراسات ومقالات. ويشير إلى أن آخر ما وجده بين أوراقه ملفًا شبه مكتمل عنوانه: "مدن لها تاريخ" كتب فيه عن عدد من المدن المصرية من زاوية تاريخها الحضاري، ومازال فتحي يبحث عما يكمل هذه الدراسات ليخرجها إلى النور، وبذلك يكون قد أدى دوره الواجب نحو جلال العشري الكاتب، أما واجبه نحو جلال الإنسان، فلن تكون له نهاية.
ويختتم تقديمه بقوله: "وقد آثرت أن أكتفي بهذه المقدمة السريعة، تاركًا لضلعنا الثالث الأخ الصديق الدكتور عبدالبديع عبدالله كتابة المقدمة التحليلية للكتاب حتى أن أنجرف في الحب ناسيًا الموضوعية التي ألمسها عن قرب ويقين كامل في الصديق عبدالبديع عبدالله. 

philosophy
الفلسفة العلمية لا تضيف علمًا جديدًا إلى العلم

وفي الفصل الذي يحمل عنوان "ثورة العقل في الفكر الحديث" نتعرف على رؤية "جلال العشري" لأستاذه زكي نجيب محمود عندما يقول: إذا كان الدكتور زكي نجيب محمود في مطلع حياته العلمية قد اتجه نحو الغرب، شأنه شأن أكثر المثقفين العرب الذين فُتحت عيونهم على الفكر الأوروبي، فظنوا أنه الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفُتح على غيره لتراه، وراح في كتابه الباكر "شروق من الغرب" يُعلن أنه لا خلاص لنا من تخلفنا الثقافي، ولا أمل لنا في مواكبة الغرب، إلا إذا كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وارتدينا من الثياب ما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون، لنفكر كما يفكرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون من علم ومعرفة وسفر.
هذا هو زكي نجيب محمود الذي تخرج على يديه جيل وراء جيل. أنا لا أقول إنه علم من أعلام ثقافتنا الحديثة، بل علامة واضحة على الطريق؛ الطريق إلى أنفسنا، والطريق إلى الآخرين.
فعل الدكتور زكي نجيب محمود هذا كله ولا يعلم إلا الله مدى ما أثر ذلك اليوم المشهود في مجرى حياته. فكما عزَّ على نفسه عندئذ أن يُضرب بالدنيا كلها على رأسه، آثر عندئذ أن يضع الدنيا كلها في رأسه، فلم يقف عند استيعاب فكر العالم القديم، بل آثر أن يستوعب كذلك فكر العالم الحديث وألا يقف عند فكر العالم الغربي، قديمًا وحديثًا، بل يتجاوزه إلى فكر العالم العربي في القديم والحديث، وألا يسبح في بحر الفكر فقط في كلا العالمين، بل يعبره إلى بحار الآداب والفنون، وهي المرحلة التي اتجه فيها نحو الفكر الغربي بوجه عام، والفلسفة الإنجليزية بوجه خاص، والوضعية المنطقية بوجه أخص، والتي اشتملت على أهم كتبه الفلسفية: "خرافة الميتافيزيقا"، و"المنطق الوضعي"، و"نحو فلسفة علمية"، إلى جانب كتابيه عن الفيلسوفين الإنجليزيين: ديفيد هيوم، وبرتراند رسل، فضلًا عن ترجمته لكتاب "المنطق.. نظرية البحث" لجون ديوي. 
والذي يستوقفنا في هذه المرحلة هو تلك "الثورة الفكرية" التي راح الدكتور زكي نجيب محمود يدعو إليها، داعيًا فيها إلى الأخذ بمنهج العلم في كل تفكير وتعبير، منكرًا فيها كل فكر غيبي لا تلمسه الحواس، وكل رأي ميتافيزيقي لا تراه العيون، فهو يستعرض صورة الفكر في مصر قبل الثورة ليصرخ بأعلى صوته في كتابه "خرافة الميتافيزيقا": "وعقيدتي هي أن عصرنا هذا في مصر بصفة خاصة، يسوده استهتار عجيب في كل شيء، والذي يهمني الآن ناحية خطيرة من نواحي حياتنا، هي ناحية التفكير والتعبير، فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالًا غير مسئول، دون أن يطوف ببال المتعلم أو الكاتب أدنى شعور بأنه مطالب أمام نفسه وأمام الناس بأن يجعل لقوله سندًا من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي.
وكالقطة التي أكلت بنيها راح د. زكي نجيب محمود في كتابه "المنطق الوضعي" يجعل الميتافيزيقا أو كل تفكير فيما وراء الطبيعة، راح يجعله أول صيده، فينظر إليه بمنظار الوضعية المنطقية ليجده كلامًا فارغًا لا يرتفع إلى مستوى الكذب، لأن ما يوصف بالكذب لم يتصوره العقل، ولكن تدحضه التجربة، أما الفكر الغربي فهو فكر يضع الإنسان في حالة خارجة عن معايير العمل، يضعه في حالة غيبة أو غيبوبة أو غياب، هذه الحالة هي التي جعلته يؤمن بالعلم كل الإيمان، ويُشهر إيمانه به على هذا النحو: "أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يُجدي على أصحابه ولا على الناس شيئًا. وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية يكثر أو يقل، بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه".
على أن زكي نجيب محمود في ثورته الفكرية هذه لا يكتفي بأن يحمل في إحدى يديه معول الهدم. ولكنه يحرص أن يحمل في اليد الأخرى أداة البناء؛ فهو في كتابه "نحو فلسفة علمية" يتجه إلى رصف الطريق أمام كل تفكير فلسفي يريد أن يصبح علمًا، لا بمعنى أن يشارك العلماء في أبحاثهم فيبحث في الضوء والكهرباء أو في الحياة والإنسان كما يبحثون، وتكون النتيجة إضافة عبارات إلى عباراتهم أو صياغة قوانين. لا.. فإن الفلسفة العلمية لا تضيف علمًا جديدًا إلى العلم، ولكنها تحلل عبارات العلم نفسها لكي تستخرج ما تنطوي عليه هذه العبارات من مبادئ وحقائق أو من فروض ونظريات.

ويمضي الكتاب في فصوله: "زكي نجيب محمود رؤية جديدة لعصر جديد"، و"زكي نجيب محمود ونظرة عصرية للتراث"، و"زكي نجيب محمود وتجديد الفكر العربي"، و"زكي نجيب محمود وفلسفة الجمال"، و"زكي نجيب محمود وفلسفة الفن"، و"زكي نجيب محمود ووصايا الفيلسوف"، و"زكي نجيب محمود بين الأصالة والمعاصرة"، ثم "زكي نجيب محمود آخر الرواد المحترمين".
وأخيرًا، يختار واضع الكتاب آخر كلمة لزكي نجيب محمود عن جلال العشري بعنوان "جلال العشري.. ودمعة حزينة". ويستهلها بقوله: "كنت أتوقع للأستاذ الناقد الأديب جلال العشري أن يكتب رثائي، وإذا بالمنية تسرع إليه فأرثيه، والمنايا – كما قال عنها زُهير بن أبي سُلْمى – "تخبط خبط عشواء، من تصب تمته، ومن تخطئ يُعَمِّر فيهرم"، لقد كان لي ابنًا عزيزًا وزميلًا وصديقًا؛ أما البنوة فقد بدأت منذ كان طالبًا في الفلسفة في كلية الآداب، فكان يطلعني على بواكير فكره، فأجد أن الذي بين يدي إنما هو عقل نضج في سن مبكرة، ومع العقل قلم قادر يُحسِن التعبير فتنبأت له بما يشبه اليقين أنه سيضطلع بدور ملحوظ في حياتنا بعد التخرج، ولكنه فاجأني قبيل تخرجه بأول كتاب يصدره جعل له عنوانًا غير مألوف صاغه من مصطلح يعرفه الدارسون لعلم المنطق وهو "الكل ولا واحد". وأما ما طواه تحت هذا العنوان من مادة فهو شيء يتصل بجوانب من الفكر العربي عند السلف، فرأيت في هذا كله مؤشرًا قويًا إلى ما قد اختاره لنفسه مجالًا لنشاطه العقلي إذ اختار أن يكون ناقدًا للفكر والأدب، بما هو موهوب فيه من قوة التدليل والتعليل، من جهة، ورهافة الحس الأدبي، من جهة أخرى، وذلك هو ما حققته له الأيام.