سؤال الذات والهوية

العالم الجديد مخيف، والحروب التي تشن في الشرق دوافعها واهية، ما يسمى الحرب على الإرهاب، تسمى في الإستراتيجية الأميركية بالحروب الاستباقية.
أميركا أمة المهاجرين، العقيدة المشتركة توحد أغلب الإثنيات في ثقافة واحدة، قائمة على الديمقراطية الليبرالية التي منحت أميركا المكانة والصدارة في القرن العشرين
الوعي القومي يتشكل بالحروب وتصويب السهام نحو العدو، الحقيقي أو المصطنع

من نحن؟ سؤال فلسفي عميق في الهوية والذات الجماعية، لا يطرحه صمويل هنتغتون إلا بعد دراسات وتأملات في التاريخ والسياسة والثقافة، وكل التغيرات التي طرأت على الهوية القومية الأميركية، من بداية تشكيل أولى المستعمرات والرحلات الأولى من بريطانيا إلى أميركا، والحروب المتتالية إلى ميلاد الولايات المتحدة، كما يغفل الكاتب قصدا الإشارة للسكان الأصليين من الهنود الحمر، وللحضارات الأخرى العريقة في أميركا اللاتينية، والتاريخ هنا لا يبدأ إلا بعد 1490 من اكتشافات كريستوف كولومبوس أي تاريخ لما يسمى بالرحلات الاستكشافية للعالم الجديد، أرض الأحلام. 
يحاول الكاتب تحديد مجموعة من الأطروحات عن الهوية الأميركية بين التباين والتنوع، الأطروحة الأولى تتعلق بهيمنة الهوية الأميركية المستقلة بذاتها، وتشكيل وحدة من عناصر مختلفة يطبعها البعد الاجتماعي والأخلاقي، كنتاج للمزج بين القيم البروتستانتية والمسيحية، والأطروحة الثانية في تعريف الهوية على أساس العرق والجنس والثقافة والمعتقدات والتقاليد الضاربة بجذورها في الوعي الجمعي، والأطروحة الأخرى تتمثل في اللغة الإنجليزية والقيم البروتستانتية التي تعود للبدايات الأولى عند المهاجرين القادمين من الغرب الأوروبي وبالذات من بريطانيا. الهوية لا تتجزأ، وما طرأ على المجتمع الأميركي من هجرة واسعة، وترحيل كبير للزنوج من أفريقيا، والقرب من أميركا اللاتينية يزيد من المخاوف أن تتبدل الهوية، وتتلون بمعالم الثقافة الإسبانية العابرة من المكسيك وكوبا، وتلك التهديدات الجديدة من حضارات أخرى على النموذج الناجح للولايات المتحدة كأمة قائمة على الديمقراطية والقانون والمواطنة.                                                                                                          
الليبرالية كأسلوب في الحياة وتدبير للدولة والمجتمع من سمات النظام السياسي الأميركي، والتهديد سواء من الشيوعية في السابق أو من الإسلام السياسي للجماعات المتشددة، ومن الصين الصاعدة، يزيد من وحدة الأميركيين في مواجهة الخطر ويعزز الهوية أكثر، يطرح هنتغتون الأسئلة عن الواقعي وعلاقة الذات بالآخر، عن التنوع والتفرد، ويستدل بأقوال من مرجعيات مختلفة حتى يقحم القارئ في المناظرة الكبرى عن قيمة أميركا بين الأمم، جوهر الهوية الأميركية تتضمن أربع مكونات وهي العنصر والعرق والثقافة والإيديولوجية، الهوية متعددة الأوجه والمكونات، والنقطة الأولى التي جاءت بكل المنجزات هي بناء المستوطنات، اللبنة الأولى في حركة إيجابية نحو الأمام، الهوية نتاج للتفاعل بين الإنسان والطبيعة، وبين الذات والآخر تحت راية ثقافة مركزية موحدة للشعب الأميركي، هوية الأجداد، أولئك اللذين عبروا البحر، وتركوا بصمة في بناء أول مستوطنة، أميركا أمة المهاجرين، العقيدة المشتركة توحد أغلب الإثنيات في ثقافة واحدة، قائمة على الديمقراطية الليبرالية التي منحت أميركا المكانة والصدارة في القرن العشرين، أو كما قال روزفلت يوما "أميركا هي أمة من المهاجرين الثوريين". 

الخوف من الآخر والعيش تحت التهديد يزيد في لحمة المجتمع وتماسك مكوناته                                                                    

يعترض هنتغتون على هذه الفكرة وأفكار أخرى من قبيل محدودية الهوية الجزئية، والكشف عن تاريخ المستوطنات من الجزر البريطانية، يريد هنتغتون العودة بالأميركيين إلى النقطة التي شكلت بوادر المستوطنات الجديدة، لولا الفكر اليقظ والقيم النابعة من الجماعة لما تمكنت أميركا من بناء ذاتها والخروج للعالم، الرغبة الواعية في تعميم الهوية بالمزج بين الوطنية والقيم الدينية، الأولى ترسخت من خلال الحروب المتتالية لأميركا بين حرب الشمال والجنوب وتحرير العبيد، والحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، وأخيرا الحرب في الشرق أفغانستان. 
يتشكل الوعي القومي بالحروب وتصويب السهام نحو العدو، الحقيقي أو المصطنع، ولا يقف هنتغتون على الحقائق في صراع الأنا مع الآخر والعدوانية التي تميز أميركا في سياستها الخارجية ونزوعها نحو القوة، سوى ما يعتبره مواقف متأصلة في ثقافة الآخر، كراهية القوى الإسلامية المتشددة، وما تمثله الهجرة من المكسيك، ودول أخرى على تماسك الهوية ووحدة الذات الجماعية من الاختراق، وتزايد أعداد المهاجرين، وانقلاب في التركيبية السكانية، وعندما ننظر للجدار بين أميركا والمكسيك، وتشجيع الهجرة من أوروبا نحو أميركا فإن في الأمر أهدافا وغايات صريحة وكامنة، تقارير تفيد باكتساح اللغة الإسبانية لبعض الولايات، ولما جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول اكتملت الرؤيا في صراع الحضارات، والسعي نحو تحديد الهوية، ومعالم الذات الجماعية مقابل الآخر العدو، الشرس الذي يهدد الأمن وسلامة الناس.
قال بوش: "إننا نرفض أن نعيش في خوف"، واختار تقسيم العالم بين محور الخير ومحور الشر(إما معنا أو ضدنا)، العالم الجديد مخيف، والحروب التي تشن في الشرق دوافعها واهية، ما يسمى الحرب على الإرهاب، تسمى في الإستراتيجية الأميركية بالحروب الاستباقية، الذهاب بعيدا واستدراج العدو للقضاء عليه حتى يعم الأمن أميركا. الخوف السائل كما يسميه زيجمونت باومان، الرعب الشديد مفيد حتى تتقوى الوحدة وتتماسك الهوية، ويزداد وهج المواطنة، الزيادة في العداء وتقوية الروابط، وزرع الشقاق بين الأمم لأهداف سياسة وأيديولوجية، العداء للآخر يشجع الأميركيين على تعريف هويتهم والتمسك بتقاليدهم، الخطاب السياسي تحريض الناس على المقاومة السلمية بالرفض لكل ما هو دخيل، ولكل ما يهدد الأمة في بعدها الثقافي والديني، يلعب الخطاب على الحماسة وزرع الخوف في نفوس الناس، فالحرب الشاملة والتهديد الأمني لن يزيد أميركا إلا إصرارا على حسن اختار قيمها. الأمريكيون - كما يقول هنتغتون - يعتبرون أنفسهم مسيحيين، وتتراوح النسبة بين 80 و85 في المائة، هويتهم بروتستانتية متعارضة مع الكاثوليكية، والديمقراطية نتاج للعادات والتقاليد. بل ما يزعج هنتغتون كذلك الموجة الكبيرة التي عرفتها أميركا في ميلاد ثقافة جديدة تدعو للتعددية الثقافية والدينية، تيار ما بعد الحداثة، إعادة الاعتبار للهامش وتفتيت المركز، وتعرية الخطاب المهين على الحقل الثقافي والاجتماعي، والخلخلة للثنائيات المركزية: الأنا والآخر، البيض والسود، المرأة والرجل، ومفاهيم كالطبقة والمركز الاجتماعي والنسق والمواطنة، وتعتبر أميركا نتاج لحركة واسعة من المهاجرين والأجناس من مختلف بلدان العالم، حركة التفكيك الثقافي وجذورها الفلسفية النابعة من تفكيكية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في خلخلة المركز، وتقويض النزعة المركزية الغربية، وإعطاء أهمية للهامش والمنسي، التعددية أيقظت الملونين والمهمشين من سباتهم للمطالبة بالحقوق المدنية من خلال حركات اجتماعية وثقافية، ثورة على الرجل الأبيض، دعوة للحقوق والمساواة بين الناس على أسس عادلة يكفلها القانون والمواثيق الدولية.                                                                                         
الهوية متعددة الأوجه، شعور بالانتماء للوطن، ولولا التنوع لما استطاعت أميركا تحقيق مستوى الرفاه الاقتصادي، عندما جاء الناس من مختلف الأوطان في بحث عن تحسين ظروف عيشهم، وتشجيع السياسة للهجرة نحو العالم الجديد، أصبح الآسيوي يعتبر نفسه مواطنا أمريكيا، وظهرت أجيال جديدة ولدت في الوطن الجديد، ولذلك يرفض الكثير من السود في أميركا فكرة "مواطن أميركي من أصل إفريقي"، كما لا تقال عن الأفراد الذين جاؤوا من أوروبا الغربية، من ألمانيا وهولندا وفرنسا، هذا نوع من المفاضلة والعنصرية الصريحة المحددة باللون والعرق، وإذا كانت الفلسفة الليبرالية تتباهي بالحرية والمواطنة والكونية، فإن سؤال الهوية يجعل من أميركا بلدا منفتحا على كل الهويات شرط أن لا تكون هذه الهوية قاتلة ومميتة، والغنى في التنوع يزيد أميركا قوة في تركيبتها الغنية من العناصر الجديدة التي تتركب منها في أفق تحقيق الوحدة الشاملة على أساس سياسي وثقافي، أميركا البلد العلماني والدولة المدنية شعارها الفصل بين المجال الخاص والعام، بين الديني والسياسي. عودة الجمعيات الدينية وتحفيز الكنائس، وعودة الدين من جديد بمثابة التنصل من العلمانية، وتمويه الجماهير بالأوهام والعداء السافر للحضارات الأخرى، يريدون تغيير قيمنا كما يتكرر في الخطاب السياسي والإعلامي، خطاب الإنجيليين الجدد، إذن لماذا يريد هنتغتون النظر لأميركا من زاوية المزج بين الدين والوطنية؟ وهل أميركا شعب واحد أم شعوب متعددة؟              

ميلاد أميركا بالحروب، وزمن التعرض للمخاطر يزيد في شحن الوعي القومي بالوحدة ضد العدو الظاهر والخفي الذي يتربص دائما بالحضارة ويسعى لتدميرها. مخاوف من الإسلام السياسي، ومن التشدد العلماني، وصعود التنين الصيني، والهجرة من أميركا اللاتينية، الخوف على الحرية والنموذج الأميركي، هذا الخوف الذي تسلل للخطاب السياسي والإعلامي يزرع صورة قاتمة عن الآخر من خلال حروب بيولوجية وجرثومية، وتهديد مستديم بالتدمير، حتى بات الأمريكيون يطرحون هذا السؤال: لماذا يكرهوننا؟ عند الجواب يذكرنا بعض المفكرين أن أميركا صانعة الرخاء في العالم، ساعية للخير والسلام، للكرامة والحرية. 
بفضل العولمة، يصير العالم قرية كونية، تعميم الفلسفة الليبرالية، ونهاية الأنظمة الفاشية، والأحزاب القومية الراديكالية، وتقويض القوى الصانعة للشر، أو ما تسميه بالدول المارقة، والجماعات المسلحة العنيفة، دليل هذا الخطاب، حسم الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وإرغام الدول المارقة في تغيير سلوكها وسياستها، وإلزام الكل بتطبيق القانون والاحتكام إليه، وكلها أشياء ممكنة لأجل عالم أفضل، وبالتالي يقدم هنتغتون صورة حسنة عن أميركا، ويريد العودة للماضي القريب قبل ثلاثة قرون عندما تمكن الرجل الأبيض من وضع عقيدته، وثقافته التي يعتبرها الأولى في تحقيق الوحدة والتكامل بين أطياف المجتمع، فلا مكان للهوية الجزئية عند القول إن أميركا نتاج للهجرة وجماعات المهاجرين، ولا قول في الصميم عندما لا يوجه هنتغتون نقدا للمستوطنين في إبادة الهنود الحمر، والتقليل من أعدادهم، والسيطرة على أرضهم، فلا وجود للنقد الذاتي وللسياسة الخارجية في الحروب المدمرة في الشرق وانتشار القواعد العسكرية، وتقويض كيانات تحت دوافع وهمية، وينتهي هنتغتون بطرح سؤال: هل أميركا عالمية أم إمبراطورية أم قومية؟
لا يوجد مجتمع خالد كما قال روسو، كل الحضارات يصيبها التآكل والاندثار، دورة الحضارات من النشأة والتقدم إلى التقهقر حسب ابن خلدون، نهاية روما وأسبرطة، نهاية التاريخ لا تعني صمود الأنظمة السياسية والاقتصادية إلى ما لانهاية، بل يمكن معاينة تجارب حضارية جديدة، أفول الدول من الداخل أو من الخارج، وأسباب انهيارها يوجد في خروجها عن الصواب، في القوة المفرطة واستعباد الأمم، واستنزاف خيراتها وطمس هويتها. هنتغتون وأزمة الهوية، ومخاوف من تنامي الأقليات والقوميات داخل الولايات المتحدة، الهجرة المكسيكية للمدن القريبة، وللمناطق التي انتزعها الأمريكيون من المكسيك، ومخاوف من إضفاء الطابع اللاتيني على بعض المدن والولايات (كاليفورنيا - ميامي)، وتدفق أعداد كبيرة منهم، فالهوية الثقافية للأجداد على المحك في واقع تنامي الهجرة، هنا نلمس رغبة هنتغتون في حث أميركا على سن سياسة خاصة بالهجرة تشمل أصحاب البشرة البيضاء من الأوروبيين، بديلا عن باقي الأجناس والحضارات، وخير لأميركا إذا أرادت أن تطيل بقاءها بعيدا عن التهديد الداخلي والخارجي، من القوى المضادة للحرية والفكر الليبرالي، المتربصة بالنموذج الأميركي والسعي نحو التدمير والتفكيك، لا بد من عودتها للأصول والجذور، الولايات المتحدة هي نتاج لمجتمع المستوطنين، أدى ذلك إلى ظهور ثقافة سياسية ومؤسسات وقوى فاعلة، والخوف من الآخر والعيش تحت التهديد يزيد في لحمة المجتمع وتماسك مكوناته، خوف من صعود حضارات جديدة تنافس أميركا، وخوف من تنامي المد الإسلامي في مجتمع يدين بالمسيحية كما يقول. مخاطر لا تنسجم وفكرة الانفتاح والعولمة، تناقضات بين "أمركة" العالم وغلق الأبواب أمام رياح التثاقف.