"سرد الأهواء" .. كيف قال النص ما قاله؟

أحمد رجب شلتوت لديه هوى مغاربي، صنعته الكتب، والرواية على سبيل التحديد.
السيميائيات الحديثة تقاطعت مع علوم ومعارف متعددة كالفلسفة وعلم النفس الذي أفادت منه كثيرًا وخصوصًا في مجال "سيميائيات الأهواء
"حالة شجن" رواية ممتعة حظيت بعدد من المقاربات النقدية
السارد تمكن من تحويل حالة الشجن إلى حالة هزلية ترمي إلى شجب ما يجري في الواقع، وتفكيك منطقه العبثي اللامعقول

مصري، ولديه هوى مغاربي، صنعته الكتب، والرواية على سبيل التحديد؛ فقد قرأ أعمالًا لروائيين كثر من أقطار مغاربية مختلفة، ومن أجيال مختلفة. وفي المغرب توقف كثيرًا عند الطاهر بنجلون، كما أعجب بتجربة عبدالإله بن عرفة، واهتم بالرواية العرفانية، واقترب من تجارب الميلودي شغموم، وشعيب حليفي وغيرهما.  
ومن الواضح لي أن إعجابه بالنصوص قاده إلى متابعة نقدها، وهنا يشير بشكل خاص إلى تجربة سعيد يقطين وجهوده في سبيل ربط الإبداع العربي بالموروث الثقافي، كذلك أفاد ضيفي كثيرًا من استخدام النقاد المغاربة لأدوات نقدية غربية حديثة في مقاربة روايات عربية.  
 ولعل الأعداد الأربعة التي صدرت من مجلة "سرود" خير مثال على ذلك التوجه.  
ولم يقتصر هذا الهوى على الإبداع والنقد المغربيين فحسب، فثمة تواصل له كقارئ وكاتب مع المنتج الثقافي الجزائري والتونسي أيضًا، وهو ما أسفر عن نشر روايته القصيرة الأحدث "حالة شجن" مع مطلع هذا العام في صفاقس عن الدار التي تحمل اسم "الثقافية للنشر والتوزيع"، هذه الرواية الممتعة التي حظيت بعدد من المقاربات النقدية من أهمها تلك التي كتبها الناقد المغربي الدكتور محمد المسعودي. وفيها ذهب إلى أن السارد تمكن من تحويل حالة الشجن إلى حالة هزلية ترمي إلى شجب ما يجري في الواقع، وتفكيك منطقه العبثي اللامعقول.  
وتتساءل رواية "حالة شجن" عن "معنى الوطن"، وعن مثبطات الانتماء من خلال ما يحدث لشخصية "غريب" الذي أنهى تعليمه وتجنيده، ولم يجد عملًا مناسبًا لشهادته فتحول إلى بائع متجول، يجوب أسواق القرى فيتعرض لمضايقات من أعوان البلدية والشرطة، ويحدث أن يخلف موعد عودته إلى سكنه؛ فيخرج شقيقه للبحث عنه، وتستعرض رحلة البحث كل ما يحدث في الوطن، فيصبح معناه مجرد "حالة شجن".  
هذا هو ضيفي الأديب والناقد المصري أحمد رجب شلتوت، الذي نجح من داخل حجرة مكتبه الصغيرة في داره بمركز "أبو النمرس" في ضواحي الجيزة، في أن يفتح نوافذ مشرعة على الثقافة العربية في البيئات المختلفة، ولكنه أولى المغرب اهتمامًا خاصًا.  

novel
تحويل حالة الشجن إلى حالة هزلية 

ولذلك أتوقف معه، اليوم، أمام العدد الأحدث من مجلة "سرود" المغربية أود أن يسهم في إلقاء الضوء عليها.  
يقول أحمد رجب شلتوت إن المملكة المغربية شهدت تأسيس مختبر السرديات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء، وذلك في الثامن من مايو/آيار 1993، وهو الملتقى النقدي والأكاديمي الذي انطلق كمشروع متكامل يعبر عن الانشغال بأسئلة السرد ارتباطًا بنظرية الأدب والأجناس الأدبية وقضايا الإبداع والتحليل.  
وقد انبثقت عن فعاليات هذا المختبر فكرة تأسيس مجلة "سرود"، وهي مجلة محكمة نصف سنوية، تنشر الدراسات باللغات: العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وتتبع التحكيم التخصصي المتعارف عليه في الدوريات العالمية الأكاديمية.      
ويُذكر شلتوت أن المجلة التي يرأس تحريرها الروائي والأكاديمي شعيب حليفي، ويتولى سكرتارية تحريرها الناقد والمبدع بوشعيب الساوري، وتضمّ هيئة تحريرها كلّ من: الدكاترة عبدالفتاح الحجمري، وحسن المودن، وإدريس قصوري، وسمير الأزهر، والميلود عثماني، وعبدالرحمان غانمي، صدر عددها الأول في ربيع 2018، وتم تخصيص العدد لدراسة السرديات المعاصرة، بينما اهتم العدد الثاني منها بثقافة نص الرحلة، والعدد الثالث بالمقصدية في العلوم الإنسانية، ومؤخرًا صدر العدد الرابع لربيع 2020 منها ومحوره "سرد الأهواء".  
سيميائيات الأهواء  
ويضيف شلتوت بأن  السيميائيات الحديثة تقاطعت مع علوم ومعارف متعددة كالفلسفة وعلم النفس الذي أفادت منه كثيرًا وخصوصًا في مجال "سيميائيات الأهواء"، وهو مجال حديث نسبيًا يجمع بين التحليل السيميائي والتحليل النفسي، ويستهدف الوصول إلى كُنه الشخصيات وحالاتها، ولذلك فقد اهتم بدراسة الذات وانفعالاتها، وكل ما يتعلق بالرغبات وبالأهواء كالحب والكره، والهوى، ليس عارضًا أو طارئًا، بل هو جزء من كينونة الإنسان ومن أحكامه وتصنيفاته.  
وقد ظهرت سيميائية الأهواء باعتبارها نظرية تهتم بدراسة الانفعالات الجسدية، والحالات النفسية، ووصف آليات اشتغال المعنى داخل النصوص والخطابات الاستهوائية مع الكتاب الذي أصدره جريماس وجاك فونتانيي سنة 1991.  
 ونظرًا لأن الرواية هي أقدر الأجناس الأدبية على تصوير الذات والتعبير عن حالاتها، فضلًا عن مرونتها الفائقة التي تجعلها قادرة على استيعاب الأشكال والخطابات الأدبية كافة، فقد كانت ميدانًا فسيحًا لتطبيق نظريات سيمياء الأهواء. وهو ما نراه في مواد العدد الرابع من مجلة "سرود" التي اهتمت بإبراز البعد الهووي للمحكي، نظرًا لأهمية هذا الملمح من ملامح السردية، وضرورة مساءلته بعد أن بقي، ولمدة طويلة، مظهرًا لم توله السرديات الكلاسيكية ما يستحق من اهتمام؛ ومِن ثم فإن هذا العدد يسائل الخطابات السردية بالبحث في الجسد من خلال نموذج سيميائيات باريس، وكذلك التمثيل المضاد ضمن سرود الأهواء وتحليل الذات المتلفظة (نموذج جون كلود كوكي) من خلال رصد انفعالاتها التي هي آلية خطابية لإنتاج الأهواء. 
وقد جاء العدد في قسمين؛ أحدهما باللغة العربية متضمنًا ثماني دراسات تجمع بين المؤلَّف والمترجَم، وتتميز بتنوع مؤلفيها واختلاف مرجعياتها، ولكنها تشترك في النص صراحة على القيمة المركزية للدينامية الهووية. 

فيما يضم القسم الثاني ثلاث دراسات باللغة الفرنسية جاءت بمثابة تطبيقات لسيميائيات الأهواء على نماذج سردية مغاربية وغربية. 
قنطرة الجسد الهارب
ويُحلل مصطفى شادلي في دراسته التي افتتحت العدد وعنوانها "سيميائية الجسد والأهواء في رواية [الجسد الهارب] لإدريس بلمليح" ثيمة الجسد المعشوق والهارب باعتماد نموذج مدرسة باريس، مرتكزًا على تحليل البنية العميقة للتلفظ الموجهة للمسارات السردية والخطابية والاستهوائية، ويصل في نهاية تحليله للبنية العميقة للنص إلى وجود ثيمات متوارية خلف انسيابية شعرية منفلتة، موضحًا أن الرواية كانت بمثابة قنطرة عَبَرَ من خلالها الروائي إلى ضفة الشعر، ويستدل الباحث على ذلك بأن إدريس بلمليح قدم للوحات التشكيلي حسن العلوي، في نصوص جاءت كقصائد نثرية ترسم لوحة بالكلمات لثيمة الطبيعة الميتة التي تحيلنا ثقافيًا على الرسم الانطباعي، كما تحيلنا على كون الروائي اتخذ وضع الشاعر الصامت الذي لم يجهر بشعره، بل ضمنه ميكانيزمات اللفظ داخل ثنايا السرد الروائي. 
ومن بعده جاءت دراسة نعيمة السعدية "مقولات تشكل الأهواء في الخطاب" لتركز على رصد الدينامية الأهوائية من خلال شبكة من المفاهيم (السياق- القصد- الغائية- الكفاءة) ثم تتوقف عند مستوى جدل الأنساق الثاوية خلف البنيات السطحية، قبل أن تقترح على السيميائيين أن يعيدوا النظر في تنظيم المسار الشعوري للتعبير لدى الشعوب في ظل متغيرات العصر، والذي يعتبر مسارًا توليديًا، يمثل حالة افتراضية، إذ أن المنطقة الأكثر فاعلية فيه هي الفضاء الوسطي بين البنيتين، ساخط وراض، غاضب وفرح، وغير ذلك. وما ينقسم منها من المقاصد السطحية والعميقة التي تتفاعل داخل سياق لغوي وغير لغوي، وهو الشرط الأساس لتطوير سيميائية العمل.  
بينما ركزت سعيدة تاقي في دراستها "التمثيل وسرد الهوى والسرد المضاد.. جنوسة التاريخ بين التأريخ والمعرفة" على تحليل التمثيل الذي يشكله سرد الهوى في مجتمع ذكوري حول الأنوثة والمرأة.  
وترى سعيدة تاقي أن المؤرخ إنسان سارد، توازي ثقافته معرفته، ويخالط الهوى فعله، وتقتحم تمثلاته خطابه، كما أن السرد التأريخي ذو طبيعة استهوائية لا تغاير في شيء ما قد يحيله عليها مصطلح السرد من مقابلات كانت تصنف سلبًا- حين توضع في مواجهة الحدث أو التاريخ أو العلم - من قبيل القصة والحكاية والخرافة؛ فالمؤرخ كسارد هو منشئ للخرافة، خاضع لانفعالاته، ولا يمكن لذاته المعرفية أن تكون حيادية أو علمية إلا بأن تختبر قيم الكينونات والموجودات والأشياء عبر هذه الصلة الاستهوائية بالعالم. فكل تعريفاتنا وسرودنا وتمثيلاتنا وأشكال فهمنا، تتحقق عبر وجودنا التاريخي والاجتماعي والثقافي، وأيضًا عبر لغتنا، فكل هذه الأشياء تسكننا وتسهم في تشكيلنا، بما يقتضي منا أن نتخلى عن وهم الحقائق المطلقة، وبالتالي تفعيل الحقائق الموضعية والمؤقتة.  

Magazines
سيمياء التوتر 

الدراسات المترجمة  
ويضم العدد ثلاث ترجمات، تم اختيارها بعناية فائقة، لقيمتها العلمية ولقدرتها التوصيفية والتطبيقة؛ ففي الدراسة الأولى "السيميائيات العملية، والعرفانية والهووية.. أ.ج. گريماس، وج. فونطانيي.. سيميائية الأهواء" لـباولو فابري وبول بيرون، التي قام بترجمتها رشيد بن مالك، نستكشف من جديد الكيفية التي انفصلت بها سيميائيات جريماس وفونتانيي عن سيميائيات بورس والاقتران بالظاهريات والكوارثيات. وصاحبا الدراسة يريان أن جريماس وفونتانيي ينطلقان من الحدس، بما يسمح لهما، من جهة أولى، بطرح نوع من النموذج الأولي للعامل مرتبط بالقصدية، ومن جهة ثانية، يمكنهما من تصور نوع من كمون الموضوع، مما يسمح لهما باعتبار العالم كقيمة.
ومن هذا المنظور تتحول "سيميائية الأهواء" إلى "سيميائية قيم" يكتسبها العالم، وتخلص الدراسة إلى أن جريماس وفونتانيي اقتحما مجالات تحريات جديدة لاستجلاء البعد الهووي، وذلك بالنظر إلى البعدين: العرفاني والعملي.
وقد ذيل المترجم الدراسة بثبت بالمصطلحات السيميائية الواردة بها، بما يزيد من القيمة العلمية لها، مما يضاعف من استفادة القارئ والدارس منها.
مدرسة باريس  
أما دراسة "سيميائيات مدرسة باريس.. الأهواء والتوتّر أنموذجًا" لإدريس أبلالي ودومنيك دو كار، التي ترجمتها سهام والي، فتعرض لمدرسة باريس التي تستند إلى تحليل خطاب النص بنيويًا بطريقة محايثة تستهدف دراسة شكل المضمون للوصول إلى المعنى الذي يبنى من خلال لعبة الاختلافات والتضاد، وبهذا تتجاوز بنية الجملة إلى بنية الخطاب، بحيث تنتفي أهمية المؤلف وما يقوله النص من محتويات مباشرة وأقوال ملفوظة وأبعاد خارجية ومرجعية، فالمهم هنا هو كيف قال النص ما قاله، أي البحث عن دال أو شكل المدلول أو المحتوى. 
 أما سيمياء التوتر فتجمع بين الذات والأشياء، وتنفتح على المرجع والذات والغير والمتعدد.  
ويتضمن العدد حوارًا مع جاك فونتانيي من ترجمة محمد دخيسي، وفيه يكشف الرجل الثاني في مدرسة باريس عن خريطة الطريق التي عبرتها المدرسة وهي تبني نموذجا الأول ثم الثاني في تقاطعات متعددة من العلوم التجريبية والاجتماعية. وقد حاول المحاوران إلقاء الضوء على أهم نقاط التطور التي شهدتها مدرسة باريس، وجاءت أجوبة فونطانيي بمثابة تلخيص لتوجهات سيميائيات مدرسة باريس، وعرضا إجماليا لمجالات اهتمامها العلمية الحديثة، وكذلك أدواتها ومفاهيمها.  
هذا ومن المنتظر أن يصدر خامس أعداد "سرود" التي تنشر باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية، في شتاء 2020، ومن المقرر أن يكون محوره "تمثلات التنكر"، وتقوم فكرته على تفكيك الأقنعة التي كتب بها عدد من الأوروبيين نصوصًا عن الآخر بهويات مزيفة، اتخذوا لها أسماء مستعارة، عربية أو أجنبية، فزاروا أغلب البلدان العربية وبتلك الصفة التنكرية كتبوا مشاهداتهم، وعبَّروا عن مواقفهم انطلاقا من هذا التخفي الذي يعكس رمزية متصلة بما هو سياسي وثقافي وتاريخي، لأسباب قد تبدو في الظاهر متنوعة، ولكنها تشترك فيما أفرزته المرحلة التاريخية وسياقها العام من وعي الأنا والآخر.