'سيد درويش' قائد ثورة التجديد إرث شعبي وسلاح وطني

فنان مات في أوائل الثلاثينيات من عمره، إلا أنه يعد صاحب الفضل الأول في تطوير الأغنية الشعبية والوطنية.
إرث سيد درويش الفني لا يزال يتردد في أرجاء الوطن العربي حاملا رسالة العزة والكرامة

تعد فنون الشعب إحدى أهم الوسائل التي يمكن أن يستخدمها الشعب في مواجهة الاضطهاد والقمع الثقافي، على مدار الكثير من الحقب الزمنية شكل الفن دورًا هامًا في نضال الشعوب المستعمرة لاستعادة حريتها وكرامتها وكان سلاًحا قوًيا حمل رسالة الحرية والعدالة.

وبرزت فنون الموسيقى والغناء الشعبي كإحدى أقوى أدوات الشعوب في مواجهة الاضطهاد والاستعمار، وبقرب حلول ذكرى وفاة سيد درويش تطل علينا سيرته الفنية كواحد من أبرز الفنانين الذين استخدموا فنهم كسلاح في مواجهة الاستعمار وإشعال نيران الغضب في قلوب الشعب ضد الاحتلال.

إن سيد درويش فنان عبر عن صوت الشعب بكل روعة وإبداع، وبرعت موسيقاه في تحريك العواطف ونشر الوعي الوطني وتأجيج لهيب المقاومة ضد المستعمروالهيمنة الاستعمارية في مصر فكانت سلاحًا فتاكًا في هذه المعركة الثقافية والوطنية.

لقب سيد درويش بالعديد من الألقاب التي حملها جميعًا عن جدارة واستحقاق فكان "أبوالطرب"، "فنان الشعب"، "صوت مصر" وهي ألقاب تكشف كيف كان سيد درويش فنانًا مصريًا أصيلاً استطاع أن يلامس قلوب المصريين، وينبش في آلامهم ويشاركهم أحلامهم وهمومهم، ويبعث روح المقاومة ضد الظلم والفساد في نفوسهم، وحملت أغانيه معاني قوية تدعو إلى الحرية والكرامة.

وبفضل صوته العذب وأدائه المميز استطاع درويش أن يوحد الشعب ويجمعه ضد تبعية الاستعمار وظلمه الاجتماعي، وكانت أغانيه تحظى بجماهيرية كبيرة بين الشعب، مما جعلها تنتشر بسرعة فائقة، وكان سيد درويش فنانًا حقيقيًا يؤمن بأن الفن أداة قوية يمكن استخدامها في بناء الأمة وتعزيز الهوية الوطنية.

ولد سيد درويش لأب فقير يعمل في النجارة، توفي عندما بلغ درويش السابعة من عمره مما اضطره إلى هجر مدرسته، ورأت والدته أن تلحقه بكتاب الشيخ حسن حلاوة ليتعلم قراءة وتجويد القرآن، وبعد أن استوفى كل ما يعرفه الشيخ انتقل سيد درويش إلى مدرسة سامي أفندي، ولم يطل بقاؤه فيها فتركها ليعمل مقرئ ثم مؤذن، وظل ينتقل من مهنة لأخرى حتى انتهى به المطاف نحو الموسيقى والغناء.

وشاءت الظروف أن يستمع إليه المسرحي أمين عطاالله ويضمه لفرقته ثم تسافر الفرقة لتجوب بلاد الشام وهناك التقى سيد درويش بالموسيقي العراقي عثمان الموصلي الذي لقن درويش فن الموشحات والضروب قديمها وحديثها ونهل معه من التراث الموسيقي ما جعله يصمم على الاستمرار والنجاح في طريق الموسيقى والغناء برغم أن الأمر كان لا يرق لأسرته، وكان في صراع دائم معهم بسبب ميله للفن والغناء.

وفي عام 1914 التقى الشيخ يونس القاضي بسيد درويش واصطحبه إلى القاهرة وهناك غنى درويش في عدد من الملاهي إلا أنه لم يحقق نجاحًا كما كان يصبو ويأمل فعاد أدراجه إلى الإسكندرية، وكان أثناء تواجده بالقاهرة قد تعرف على بديع خيري الذي كان يهوى الموسيقى والغناء أيضًا فأعجب بموهبته وطلب من سيد درويش أن يعاود إلى القاهرة ليقدمه إلى نجيب الريحاني.

وفي بادئ الأمر أسند الريحاني إلى سيد درويش تلحين بعض الفواصل الغنائية الاستعراضية لتقديمها بين فصول مسرحيات الريحاني، فنجح درويش نجاحًا مذهلا جعل الريحاني يسند له تلحين مسرحياته كاملة، لاسيما وأن المسرح الغنائي في هذا الوقت كان خاليًا من بطل يقوده بعد وفاة سلامة حجازي.

لمع نجم سيد درويش وتبوأ مكانة رفيعة جعلت أصحاب الفرق الموسيقية تقبل عليه وتطلب تلحين مسرحياتها، الأمر الذي جعله يفكر في تكوين فرقة مسرحية خاصة به أسماها "فرقة دار التمثيل العربي" وقدم فيها مسرحية "شهرزاد"، "البروكة"، إلا أن الفرقة أتت على كل ما يملك من مال ولم يستطع الاستمرار وحُلت الفرقة وعاد إلى الإسكندرية مرة أخرى خالي الوفاض.

عزم سيد درويش على السفر إلى إيطاليا لدراسة الغناء وفنون الأوبرا، إلا أن القدر لم يمهله، إذ توفي إثر أزمة قلبية حادة في العاشر من سبتمبر/أيلول سنة 1923 عن عمر يناهز إحدى وثلاثين عامًا.

ورغم أن سيد درويش مات وهو في أوائل الثلاثينيات من عمره، إلا أنه يعد صاحب الفضل الأول في تطوير الأغنية الشعبية والوطنية، حيث كتب في كافة أنواع الغناء العربي ماعدا القصيدة وكان يرى أن الموسيقى لغة عالمية تستطيع كل شعوب الأرض أن تفهمها وتتذوقها.

من هذا المنطلق بدأ سيد درويش في تطوير الأغنية وأدخل عليها موضوعات جديدة تتناول الحياة اليومية سواء من الجانب السياسي أو الاجتماعي، واستطاع بفنه أن يعبر عن ضمير الشعب ووجدانه وكرس الطقطوقة لخدمة الجماهير وأضاف لها طابعا خاصا، وجعل سيد درويش الأغنية الدرويشية إحدى اللبنات الأساسية في العمل الدرامي المسرحي مما حول العمل المسرحي الدرامي إلى عمل مسرحي غنائي يحمل قالبًا فنيًا مميزًا وأبعادا شاعرية تعبيرية.

لحن سيد درويش خلال حياته الفنية سبعًا وعشرين مسرحيةً غنائيةً ضمت بداخلها مائتين وسبع وأربعين أغنية، كما لحن عشرة أدوار، وسبعة عشر موشحًا، وست وستين طقطوقة وأغنية خفيفة.

ظهر تأثر سيد درويش بالموسيقى الشعبية فجاءت ألحانه جمعًا بين التراث والتجديد واستطاع من خلال موهبته الفذة أن يوحد صفوف الشعب ضد الاستعمار الإنجليزي، وأن ينقل روح المقاومة والصمود ليحرك عواطف المصريين، ويشعل نيران الثورة في قلوبهم.

واستخدم سيد درويش الكلمات والعبارات الرمزية في أغانيه الشعبية والوطنية، وجاءت كلمات العديد من أغانيه تحمل دلالات رمزية ضد الاستعمار الإنجليزي فما لبث أن تبناها الشعب وراح يرددها، مما بث القلق والخوف في قلوب المستعمر حتى أن أحد قادة الإنجليز في مصر ذكر أن الوضع أصبح يهدد بقيام ثورة ضد الإنجليز وأسماها ثورة الرموز.

إن وطنية سيد درويش وتضحياته جعلت منه رمزًا للحرية والعدالة ودفعت ألحانه الشعب المصري على الصمود والنضال، وجاءت أغانيه سلاحًا وطنيًا لمواجهة الاستعمار، وامتلك سيد درويش قدرة فريدة أسست لتواصل عاطفي بينه وبين الجماهير فأصبح صوت الشعب ومتحدثهم، وحملت موسيقاه شجاعة وإبداعًا، وصارت كلماته وألحانه رصاصات في قلب المستعمر.

ولا يزال إرث سيد درويش الفني يتردد في أرجاء الوطن العربي حاملا رسالة العزة والكرامة، ملهمًا للأجيال الحالية والقادمة بأغانيه الشعبية التي واجهت القمع والظلم، رمزًا للثورة الفنية الموسيقية للشعوب المستعمرة، وصوتًا صادقًا ضد الطغاة والمحتلين.

إن إرث سيد درويش لا يزال حيًا في قلوبنا إرثًا ثقافيًا فنيًا حمل نضاًلا وقضية وطن ضد الاحتلال، وإبداعات فنان وطني تجاه قضية استقلال بلاده، ودعم رموز الحركة الوطنية، وأمتع الجميع بألحانه وموسيقاه الخالدة إنه أيقونة التلحين المصرية، ساحر الموسيقى، ملهم الشعب، كريم العنصرين، رحم الله سيد درويش ورحم الله كل روح حملت عبق الوطنية والانتماء لبلادها.

بحبك يا بلادي