شحاذ نجيب محفوظ.. مقاربة سيميائية في أطروحة دكتوراه

مما يحسب للباحث محمود الشهاوي قوله إنَّ ما طرحه لا ينفي وجود دراساتٍ جادَّةٍ سبقته كانتْ بمثابة بنية تحتية ارتكز عليها.
الدراسة جاءت مرتكزة على المنهج التكاملي لكونه، أبرز المناهج وأفضلهم في المقاربة السيميائية، حيث أفادَ الباحثُ مِن المنهج الوصفيّ والنفسيّ، علاوة على المنهج التفكيكي
استبيان التقنيات النظرية لسيميائية الزمان وإسقاطها داخل المتن الروائي

تُعَدّ الرواية أحد أهم الأجناس الأدبية في عصرنا، وذلك لما تتمتع به من حضورٍ قويٍّ أحالها إلى أن تكونَ من أبرز الأنواع النثرية الفنية، إذ كانت ومازالت رحمًا تنبثق منه فنون عدّة، ومنها على سبيل المثال الفنون التشكيلية المتجلية في أغلفة المتن الروائي والسرد المرئي الممثل في الأفلام السينمائية المقتبسة مادتها من المتون الروائية، هذا ما أكده الدكتور محمود الشهاوي - الذي نال درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية تحت إشراف الدكتور فوزي عيسى في موضوع "رواية الشحاذ لنجيب محفوظ مقاربة سيميائية"، بامتياز مع مرتية الشرف الأولى.
وعن أسباب اختيار البحث وإشكالاته يقول الشهاوي: تُعَدُّ السيميائية أحد الحقول المعرفية في مجال الدراسات الحديثة التي تصدّرت المشهد النقدي لجلِّ الفنون بصفة عامة والأدب بصفة خاصة؛ إذ كان ذلك أحد الأسباب التي ارتكزت عليها في اتخاذ السيميائية مسارًا للفهم والدراسة، ومما ينبغي التنويه إليه عدم حداثة المنهج السيميائي بالشكل الذي يوصف من خلاله أنني في مصاف من طرق باب هذا المنهج وإنما وهْن خزانة الأدب العربي من دراساتٍ جادة يتسنّى للباحثين من خلالها فهم علم السيمياء كان أحد أبرز الأسباب لخوض تلك الرحلة الدراسية المنضوية إلى المقاربة السيميائية، فقد نشأت السيميائية في القرن العشرين على يد كل من عالم اللغة الفرنسي فرناندو دي سوسير، وعالم المنطق الأميركي شارل سندرس بيرس.
ويذكر أنّ النشأة الازدواجية هذه كانت سببًا في تباين علماء السيميائية وانشطارهم بين مُؤيدٍ ومعارضٍ للعالمين المذكورين، ومِنْ ثَمَّ فإنَّ انضواء السيميائية إلى تعريفٍ جامع مانع بات من العسير الدنوّ منه نظرًا لمرجعيتها التعددية المتسقة بها مذّ نشأتها، هذا بالإضافة إلى تشعّب علم السيمياء، وتعالقه وتشابكه مع مختلف العلوم والمعارف كعلم النفس وعلم الاجتماع، وعلم التاريخ، والأنثربولوجيا.
 وبناء على ذلك فإنَّ الجهود الرامية لتحديد ماهية السيمياء لم تُحسمْ بصفةٍ قطعية نتيجة مرجعيتها التعددية، حيث لم تنبثق التعددية من نشأتها الازدواجية فحسب، بل تفاقم التباين الجوهري لعلم السيمياء بسبب انفتاحها واتساع آفاقها على جلِّ العلوم والمعارف؛ لذا فقد كانت تلك التعددية التي غرقنا في يمّها إحدى أبرز الإشكالات التي جابهَت الباحثَ في محاولةٍ منه للطفو على سطح السيميائية مِن جديد ليرتطم بعد ذلك بقاعٍ صلدٍ متمثلًا في الدراسات السيميائية التي عَمَدتْ في تأليفها على الترجمة الحرفية. مما آل بتلك الدراسات إلى دنوّها مِن الطلاسم والتعويذات بمعزلٍ عن المنهجية المتباينة المذكورة سالفًا.  

novel
النشأة الازدواجية 

هذا بالإضافة إلى السعي اللاهث وراء مستجدات الساحة النقدية قد ترتّب على إثره استقطاب كل آليات التنظير للمنهج السيميائي الغربي وإسقاطه على النصوص العربية بغضّ النظر عن موافقتها أو عدم موافقتها لطبيعة النصوص العربية شكلًا ومضمونًا، ومِنْ ثَمَّ فقد تأتّت بعض الدراسات إما سطحية بمنأى عن منهجيةٍ سيميائية أو شكلية مغلفة بطابع رمزي مرفق بها عدد من الأسهم والإشارات المفعمة بالمقاربات السيميائية للنصوص صدد الدراسة.
وهذا ما دفعني إلى اللجوء بأعضاء هيئة تدريس قسم اللغة الفرنسية ومنهم على سبيل المثال الدكتورة راجية عامر كي أنهل منهم ومنها كيفية السير على الدرب الصحيح لعلم السيمياء.
والأمر لم يُقتصَرْ على ذلك فحسب، بل امتد ليشمل تواصلًا مع أعضاء هيئة تدريس من جامعات المغرب الشقيق، حيث لهم من الدراسات الجادة في هذا المجال المعرفي ما يؤهلهم للاستعانة بهم لفهم بعض الأمور المُستغلَقَة عليَّ، وكان منهم الدكتور سعيد بنكراد، خير معينٍ في فهم استراتيجة النموذج العاملي لجريماس، أحد ركائز الفصل الثاني ودعائمه المنطلق منها.
ومما يحسب للباحث قوله إنَّ ما طرحه لا ينفي وجود دراساتٍ جادَّةٍ سبقته كانتْ بمثابة بنية تحتية ارتكز عليها في استشكال الخلفية المعرفية لعلم السيمياء المتمثلة في السيميائية مفاهميها وتطبيقاتها للدكتور سعيد بنكراد، وبناء الرواية للدكتورة سيزا قاسم، ومقاربة أسلوبية لرواية الشحّاذ لنجيب محفوظ أنموذجًا للدكتور رشاد كمال مصطفى، حيث كان لهذا الكتاب عظيم الأثر في استشكال الخلفية المعرفية للرواية موضوع الدراسة، هذا بالإضافة إلى العلامة والرواية دراسة سيميائية في ثلاثية "أرض السواد" لعبدالرحمن منيف لفيصل غازي النعيمي.
ومِنْ ثَمَّ فلَمْ يَشْرَع الباحث في كتابة تلك الأطروحة إلا بعد استغراق في قراءة متأنية تخللتها سويعات من الاكتئاب البحثي ناجم عن محاولة استيعاب تلك التعددية سالفة الذكر من جهة، واللجوء إلى مصادر لَمْ يكن بوسعها أن يستشكل منها الخلفية المعرفية لعلم السيمياء، من جهة ثانية.
ومِنْ ثَمَّ فإن هذا الاستغراق ودوام الدأب نحو استشكال الخلفية المعرفية بالتواصل مع الأساتذة سالفي الذكر، كانت سببًا في استبيان معالم تلك الرحلة الدراسية.
ويشير الباحث إلى أن هذه الدراسة جاءت مرتكزة على المنهج التكاملي لكونه، مِن وجهة نظره، أبرز المناهج وأفضلهم في المقاربة السيميائية، حيث أفادَ الباحثُ مِن المنهج الوصفيّ والنفسيّ، علاوة على المنهج التفكيكي. 
وتتكون هذه الدراسةُ مِن: تمهيدٍ وأربعةِ فصولٍ، أَمَّا بخصوص التمهيد فقد أوضح الباحث من خلاله جذور علم السيمياء وقشوره عند الأسلاف، بالإضافة إلى طرح بعض المفاهيم السيميائية والإشكالات المتأتية مِن التعددية سالفة الذكر، علاوةً على تحديد آليات التحليل السيميائيِّ ومُسَلَّمَاتِهِ النظرية المسقطة على النص صدد الدراسة، ثم أردف بالتمهيد ترجمة لكاتب الرواية نجيب محفوظ ولرواية "الشحّاذ" كمدخل لا يتسنَّى له البدء بدونه على الرغم مِن افتقاد الرؤية التجديدية فيه.
وجاء الفصل الأول: بعنوان "سيميائية الغلاف الروائي" طرح فيه الباحث علم العتبات النصية، أحد فروع علم السيمياء، علاوةً عَلَى كَوْنِهِ أحد المفاتيح التي تعين متلقي المتن الروائي لولوجه واستنباط دلائله ومقصدياته.
 هذا بالإضافة إلى طرح الرُّؤى المختلفة لأغلفة الرواية لتأكيد تعددية التأويل التشكيلي المنبثق مِن قراءة المتن الروائي عبر المرجعيات المعرفية المختلفة لكل فنانٍ تشكيليّ.
 وجاء الفصل الثاني بعنوان "سيميائية الشخصية"، وفيه طرح الباحث بعضًا مِن المقدمات النظرية الخاصة بتحليل شخصيات الرواية بصفةٍ عامةٍ، واستبيان ملامحها الداخلية والخارجية ودورها القوي والفعّال في قولبة شخصيات المتن الروائي داخل قوالب دلالية تدفع المتلقي للمكوث بداخلها بُغْيَةَ استنباط الدلالة الرمزية المتأتية مِن توصيف الراوي لتلك الشخصيات بمقصدية أسلوبية.
ويشار إلى أن البحث ارتكز في هذا الفصل على ثلاثةٍ مِن العلماء الذين ولّوا عنايتهم بدراسة الشخصية دون غيرهم، ليس لأفضليتهم عَمَّن سبقوهم أو لحقوهم، وإنما لموافقة ما طرحوه مع ما ينسجم مع طبيعة المتن الروائي محل الدراسة.
وحمل الفصل الثالث عنوان "سيميائية الزمكان"، وفيه طرح الباحث أهمية العناصر المكونة للخارطة السردية بشكل عام، وتعالقها وتشابكها مع بعضها البعض إلى أنْ تَجَلَّتْ كالبُنْيانِ المرصوصِ.

رسالة علمية
سبر أغوار المتن الروائي

هذا بالإضافة إلى استبيان التقنيات النظرية لسيميائية الزمان وإسقاطها داخل المتن الروائي، علاوةً على استنباط الدلائل المنبثقة مِن استخدامِ تلك التقنيات، فَضْلًا عَن  استشكال رؤيتنا الثنائية للمكانِ الروائيِّ المرتكز عليها مِن قِبَل سارد العمل الفني وانشطاره بين نوعين متقابلَيْن؛ الأول أَمْكِنَة الإقامة، والثاني أَمْكِنَة التنقل، ومنها خلص الباحث إلى استنباط الدلالة المتأتية مِن تلك المفارقة المكانية القائم عليها المتن الروائي.
وجاء الفصل الرابع كنهايةِ مطافٍ لهذه الرحلة الدراسية، وحمل هذا العنوان: "سيرورة إنتاج المعنى بين الرواية والفيلم السينمائي" وفيه طرحنا علاقة الرواية بالفن السينمائي والدعوى بعدم الانتقاص مِن السَّرْد المرئي والنظر بالدونية للصورة المرئية، إذْ إنها أكثر فنون العصر الحديث والمعاصر تحقيقًا لوظيفةِ التواصلية، هذا بالإضافة إلى توضيح الفروق بين النص السردي والشكل الجديد للفيلم السينمائي، ومِنْ ثَمَّ التطرق إلى رؤية المخرج السينمائي، ودوره في انفتاح النص على الزمن مِن خلال استنباط دلائله المستكناه عبر مجموعة من اللقطات المرئية المصاحبة بوسائل الاتصال المختلفة المستحدثة.
ونُذَيِّلُ هذه الدراسة بخاتمةٍ تَحْوِي أَهَمَّ النتائجَ والتوصيات التي استدل عليها الباحث واستشفّها عبر هذه الرحلة وإدراجها في نقاطٍ مستجمعة من فصول المتن الروائي قاطبة.
وقد أوصت اللجنة العلمية التي ناقشت هذه الأطروحة - والتي ضمت الدكتور عبدالرحيم الكردي، والدكتور محمد مصطفى أبو شوارب، بالإضافة إلى المشرف - بطبع الرسالة وتبادلها مع الجامعات العربية. 
وأشار الباحث إلى أن اختيار الدراسة السيميائية كمدخلٍ يتسنّى له من خلاله سبر أغوار المتن الروائي بدءً من الأغلفة المُدرجة للرواية، مرورًا بتحليل جلّ العناصر المكونة لبنية النسق السردي للمتن الروائي، انتهاءً بالسرد المرئي المتمخّض من المتن الروائي.