صفحة الأسد التي طُويت
تفكر أجيال سورية في الأسد الإبن فيما تفكر أجيال أخرى بالأسد الأب. بعد لم يُنس الأب لكي يُنسى الإبن. وقد لا تكون المقارنة بين الإثنين ضرورية في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ سوريا. ذلك لأن الخوف من الأسوأ لا يزال قائما. فإسقاط نظام سياسي أياً كان نوعه عن طريق السلاح يظل محفوفا بالخطر. خطر انتقال الحكم من عصابة صارت مُجربة إلى عصابة ستظل في طور التجريب لسنوات عديدة مقبلة.
"هل ستعود سوريا إلى شعبها بعد أن كانت للأسد في شعاره إلى الأبد؟" ذلك سؤال لا يتحمل الإرجاء أو التأويل أو المناورة. ولكن ما لا يجب الهروب منه أن الجماعة المسلحة التي أسقطت نظام الأسد لها برنامج سياسي معروف ومكشوف ليس من بين فقراته دمقرطة الحياة السياسية بمعنى إعادة السلطة إلى الشعب كما يقول الدستور. تلك مشكلة مستعصية لا حل لها وهي التي تحدد سقف الحريات العامة أيضا وسيكون لها الدور الأكبر في رسم خريطة العلاقات بين الحاكم والمحكوم، على الأقل في المستقبل القريب وهو زمن الطوارئ الذي لا غنى عنه بالنسبة للأطراف كلها وبالأخص الشعب الذي خرج من كهف عقود خمسة مظلمة.
لن نضطر إلى القيام بنزهة في عقل الجماعة المسلحة. سيكون كل شيء واضحا خلال وقت قصير. أيام معدودات ويعرف الشعب السوري بعدها ما الذي ينتظره. وإذا الإئتلاف الوطني قد سعى من خلال أفراد منه أن يظهر في الصورة فإن ذلك المسعى لن يكون بالضرورة بمثابة تمهيد لإستلامه زمام السلطة التي يجب أن تكون مؤقتة إلى حين إجراء انتخابات كما هو متعارف عليه في حالات التحول القسري. الجماعة المنتصرة هي التي تملك سلطة القرار الذي يتعلق بمستقبلها كما مستقبل سوريا.
ولكن قبل أن نعلق بتفاصيل لا تزال غامضة لابد أن نتساءل "هل كانت الثلاث عشرة سنة الماضية ضرورية من أجل انضاج فكرة رحيل الأسد؟" يمكننا أن نفكر في إطار نظرية المؤامرة. ما بين 2011 و2024 في سوريا هو زمن شبيه بما بين 1991 و2003 في العراق. عام 1991 بعد حرب تحرير الكويت سقط النظام السياسي قي العراق وتم إحياؤه اصطناعيا غير أنه عبر سنوات الحصار الثلاث عشرة عاش ميتا من غير أن يقوى على تجديد أي شيء من أدواته وبالذات آلته العسكرية. دفع الشعب ثمن ذلك الموت موتا ومرضا وجهلا وتشردا وذلا وقمعا وهوانا.
ذلك ما حدث في سوريا بالضبط، حين تُرك نظام الأسد حيا وهو في الحقيقة ليس كذلك. كان الشعب هو الضحية. أما المحاولات التي بُذلت من أجل إحيائه فلم تنفع لا لأنها ليست جادة، بل لأنها جاءت متأخرة. ليس مهما والحالة هذه فيما إذا كان الأسد قد أدرك أنه قد انتهى منذ اللحظة التي حرك قطعات جيشه في اتجاه درعا. فالرجل الذي استلم سوريا باعتبارها مزرعة أبيه كان منذ البدء منفصلا عن الواقع وكل تقديراته أقامها على أساس حسابات خاطئة. وهو ما جعل مسألة عزله عربيا أمرا مقبولا.
لم يقاتل الجيش السوري دفاعا عن الأسد هذه المرة لأن قادته قد أدركوا أن المسألة تشبه الانتحار وكان موقفهم نبيلا وشريفا حين دفعوا عن جنودهم شبح موت مجاني لا قيمة له على المستوى الوطني. بعد ثلاث عشرة سنة من الاهمال صارت كل معدات الجيش (طائراته وناقلاته ودباباته ومدافعه وبنادقه) عبارة عن خردة حديد. وهو ما لم يكن يعني الأسد في شيء لأنه كان مطمئنا إلى أن بقاءه في دمشق كان رهين رغبة روسيا وإيران في الحفاظ على مناطق نفوذهما في سوريا. وهي الفكرة الأكثر قبحا من بين أفكاره الصبيانية التي اعتبرها جزءا من فلسفته.
وهكذا يكون بشار الأسد قد ترك سوريا من غير جيش وهو ما يشكل مصدر هلع حين التفكير بالمستقبل. كما أن الوضع الاقتصادي الذي وصل إلى الحضيض بسبب الحصار الذي فرض على سوريا لا يمكن إنقاذه في زمن منظور ولا يمكن لسوريا بعد أن فقدت الكثير من عوامل بنيتها الزراعية والصناعية أن تسترجع عافيتها التي كان اكتفاؤها الذاتي واحدا من أهم وجوهها.
صفحة الأسد طويت على مستوى غياب الشخص غير أنها لن تُطوى حقا إلا إذا استعادت الدولة السورية كل ما فقدته من مفردات وجودها وهي لا تُعد ولا تُحصى.