صلاح الدين بوجاه .. الموت والميلاد، المتعة والألم

فجيعتي في فقد صديق عمري الكاتب التونسي الكبير صلاح الدين بوجاه الذي نعته أمس الشاعرة التونسية جميلة الماجري.
نصوص بوجاه الروائية مكنته من أن ينحت لنفسه اسمًا يليق به في مدونة الإبداع السردي 
رواية "التخاس" تغوص في تربة الأسئلة الوجودية الكبرى وفي استفهامات العالم اليوم

عشرات المرات التقيت فيها صديقي الروائي التونسي الكبير صلاح الدين بوجاه في مدن تونسية ومصرية، كما شددنا الرحال إلى خارج بلدينا، إلى أن وصلنا شرقًا حتى كوريا الجنوبية، التي تجولنا في العديد من مدنها، وأجملها "جيجو" أو جزيرة الأحلام، وكان ثالثنا في هذه الرحلة/ الحلم صديقنا الكاتب أحمد فضل شبلول، الذي شاركنا حضور أحد الملتقيات الدولية التي استضافتها العاصمة الكورية الجنوبية سيول، وكان الدكتور جابر عصفور والسفير رضا الطايفي من أبرز المتحدثين في هذا الملتقى ممثلين لوطننا العربي، وبالطبع كان ثالثهما صلاح الدين بوجاه الذي لا تزال ذاكرتي تحتفظ بموضوع ورقته وهو "الثقافة كقاطرة للتنمية".
وهذا الملتقى هو الذي التقينا فيه بالمفكر العالمي "فوكوياما"، وفي تلك الرحلة زرنا مدينة "إنتشون" التي أسسنا فيها أول مركز كوري للثقافة العربية والإسلامية في شارع وافقت السلطات الكورية على أن يحمل اسم "شارع العرب"، وقد أهديت هذا المركز الثقافي الفريد قطعة من قلبي تمثلت في ألف وثلاثة كتب من مقتنياتي، جعل منها الكوريون مكتبة وضعوا عليها لافتة باسمي بالعربية والكورية ضمت اختياراتي من كتب التنوير العربية، ومن الإبداع العربي بمختلف ألوانه وبيئاته وأجياله.
وقد تم هذا كله بمباركة من صديقي السفير رضا الطايفي، الذي كان هو سفير مصر هناك في ذلك الوقت في مطالع الألفية الثالثة.

عزيزي القارئ لقد سقت لك كل ذلك لأوصل إليك إحساسي بفجيعتي في فقد صديق عمري الكاتب التونسي الكبير صلاح الدين بوجاه الذي نعته أمس الشاعرة التونسية الكبيرة جميلة الماجري، مديرة بيت الشعر بالقيروان، فلم أستطع أن أسيطر على مشاعري فانتابتني نوبة هستيرية من البكاء لم أعهدها من قبل حزنًا على فراقه وعجزي عن أن أكون في مشهد وداعه إلى مثواه الأخير في القيروان التي استقبلني في أول زياراتي لها بصحبة الكاتب المسرحي التونسي الكبير عزالدين المدني والمترجم ساسي حمام بعد شهور قلائل من اندلاع ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 في البلاد التونسية.
القيروان التي كان بوجاه ابنًا بارًا لها، وفيًا لتقاليدها التليدة، حتى أنه في كل زيارة يلتقيني فيها في أي بلد كان يحمل إلي هذا الصندوق الكرتوني الذي يمتلئ بـ "المقروض".. الحلوى القيروانية التقليدية من أفضل صناعها. 
لم يكن بوجاه مجرد مبدع عربي انتبهت مبكرًا إلى أصالة مشروعه الثقافي، وأهمية مدونته الروائية، وولعه بالتجريب في الموروث الشفاهي والمدون، واستلهامه في أغلب نصوصه الروائية التي مكنته من أن ينحت لنفسه اسمًا يليق به في مدونة الإبداع السردي التونسي والعربي بالطبع.
ولعل قناعتي بأهمية المشروع الروائي لصلاح الدين بوجاه هي التي دفعتني إلى دعوته أكثر من مرة ليلتقي بقرائه ونقاده في مصر، وقد كانت الإسكندرية بطبيعتها المنفتحة على ثقافات العالم هي المبادرة بتبني دعوتي لمناقشة روايته "النخاس" في ندوة سجلتها ذاكرة المدينة وحفرت في ذاكرة بوجاه، وشارك فيها عدد من أبرز مثقفي الثغر، وفي مقدمتهم الناقد شوقي بدر يوسف، والكاتب أحمد فضل شبلول، وأدارها الناقد الأكاديمي والشاعر الدكتور فوزي عيسى.
وأذكر أنني قلت في تلك الأمسية: أجد أن مناقشة رواية "النخاس" هنا في الإسكندرية داخل "مركز الإسكندرية للإبداع"، في حضور مؤلفها الروائي العربي الكبير صلاح الدين بوجاه بين مبدعي الثغر، وكبار نقاده فرصة لتبني مشروع إبداعي ضخم حول روايات البحر المتوسط.. هذا الحوض المائي الكبير الذي شهد ميلاد الحضارات في فلسطين ومصر واليونان، ونهضتها في إيطاليا وفرنسا، وتميزها في الشمال الإفريقي والأندلس. وربما يكون هذا المشروع نواة لحوار من نوع جديد لنا مع الآخر الذي نشاركه هذه المرة شريان الحياة المائي، ونهر الإبداع الروائي.
وقد أغرتني هذه الرواية بإعادة قراءتها وتقديمها في طبعة شعبية في مصر لعدة أسباب؛ لعل أولها أنها تنتمي إلى كاتب قيرواني استطاع أن يضع بصمة واضحة في مدونة الرواية العربية في تونس، حتى أنه أصبح ثاني الأسماء التي تقفز إلى الذهن عندما يرد الحديث عن الرواية التونسية بعد الرائد الكبير محمود المسعدي، الذي قدمه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للمشرق عندما نشرت روايته الشهيرة "السد". ولكونها رواية مربكة مريبة، تأخذ بقارئها في بعض مساربها، فإذا ما اطمأن وأسلس لها القياد عادت فطوحت به بعيدًا حتى يضيع منه المعني فيدخل بيداء الغموض.
وهذا هو الانطباع الأول الذي يقابل قارئ "النخاس"، هذه الرواية العجيبة، فيزج به في منطق اللهاث والتقصي؛ اللهاث خلف أحداثها المتعاقبة الشيقة، وتقصى مضامينها التي تغوص في تربة الأسئلة الوجودية الكبرى من ناحية، وفي استفهامات العالم اليوم، من ناحية ثانية.
وربما يكمن هنا ثراء هذا النص الذي يثير قضايا الموت والميلاد والمتعة والألم والبداية والنهاية إثارته للصراع الغريب المتقد بين الحضارات، حتى يتحول البحر في الرواية من بؤرة صدام بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، فيكون الأداة والرمز في آن واحد.
ولأن حوض المتوسط ملتقى لحضارات وثقافات عدة، فإن "النخاس" تستدرج أجناسًا وشعوبًا، منها: الإيطالي، والإسباني، والفرنسي، والتركي، واليوناني، والمصري؛ القبطي والمسلم، فضلًا عن التونسي طبعًا، فتستدرج بذلك مناخات متعددة تٌغني الرواية، وتمدها بثراء فريد، وتتخطى بنا أحادية الأسلوب والأغراض للخوض في حوار حول جنس الرواية ذاتها.
ولعل هذه الوجهة في الفهم هي التي أغرت الناقد البارز الدكتور صبري حافظ، الأستاذ بجامعة لندن، بالإشارة إلى أن روايات صلاح الدين بوجاه قد أنشأت حوارًا جديدًا مع الرواية في المشرق العربي.
وضمن هذه الوجهة نضع "النخاس" التي تدعونا إلى قراءات متجددة للوقوف على خفايا بنيتها، ومجاهل قضاياها.. ومتعة أسلوبها، وهي وجهات في الفهم والتأويل يلخصها الشاعر القيرواني الكبير المنصف الوهايبي بقوله: "تبدو الرواية على وشيجة عجيبة بفن التزويق العربي، أو ما اصطفى له مؤرخو الفن الأوروبي لفظة "أرابيسك"، حيث يسم التفريع الأصول، كما يسم التعريج الفروع، ويدرك التشعيب غايته.. قبل أن تنكفئ الحكايات على ذاتها مثلما في "ألف ليلة وليلة".

لهذا نؤكد على أننا إزاء أسلوب ساحر، ونص سردي مريب، وإثارة عجيبة للمعاني والأغراض.. تدفعنا جميعها إلى التوقف عند نص نزعم أنه من النصوص المؤسسة لمرحلة جديدة في الإبداع الروائي العربي.
ولهذا فإننا لا ندعو إلى مجرد قراءة هذه الرواية، وإنما لتأملها، ومقاربتها المقاربة النقدية التي تليق بها، ووضعها ضمن مسارات الإبداع الروائي الحديث.
هكذا تدرك استفهامات الرواية الكثيرة وأفقها الفعلي، وهي الساعية إلى تجاوز الواقع التونسي أو المغاربي بصفة عامة إلى إثارة مسائل إقليمية بالغة الحيوية، هي "قضايا البحر المتوسط " على وجه الحقيقة، وعلى وجه الإطلاق قضايا تونس ومصر وغيرهما من البلدان العربية.
تاج الدين فرحات، غابريللو كافينالي، لورا، الراقصة ليلى، وجرجس.. جميعها شخصيات يمكن أن نقول في شأنها ما قاله الكاتب في "النخاس": "تاج الدين نخاس كاتب، حلزون تائه، زاحف في دنيا الناس، كاشف خفاياهم، شارح صدروهم، حلزون يحمل قوقعة عذابه فوق ظهره، صدره كون من الشموس والنار والثلج والخوف والخامات النفيسة وقصور الحكام وفحش آخر الليل، والحياء والعفة، والمخطوطات النادرة وأولياء الله الصالحين.
وقد شجعني هذا كله على استجماع عناصر حيرتي، وأنا أقرأ رواية أعجبتني كثيرًا في مراوغتها الممتعة، فدعتني إلى الإسهام في التفكير الكوني الذي يثار الآن في موضوع الحوار العالمي، وحقيقة إسهام العرب في الجدل الحضاري القائم، وسالف إسهاماتهم في حضارة الأمس واليوم.
ولكم احتلت هذه الرواية مساحة عريضة من مناقشاتي مع صديقي الراحل صلاح الدين بوجاه كلما التقينا. فقد أكد لي أن شخصيات "النخاس" لا ظل لها على أرض الواقع، وإنما هي تجسيد لحضارات متباينة، بل ومتصارعة فيما مضي في حوض هذا البحر. ولكنها تتجسد في سفينة تبحر من تونس إلى إيطاليا، وكأنها تَعلِّة للانعطاف على لعبة كبرى.
أما من يبحث مثلي عن القيروان مجسدة داخل "النخاس" فسيرهقه البحث، فصلاح الدين بوجاه أكد لي أن مدينته لا تعدو أن تكون مجرد خلفية مكانية وزمانية، وهو حتى عندما يقرر أن يكتب عن القيروان أو يدونها في رواية أخرى مثل "السيرك" مثلا فإنه يقدمها كمحصلة لقراءته في المدينة العربية بشكل عام.
فهل ننعطف في الختام على موقف الناقد العراقي المعروف ماجد السامرائي الذي أكد: "حين تسأل الروائي صلاح الدين بوجاه أن يقص عليك رحلته مع الكتابة تجده يبدأ مع "الراوي عن نفسه" ليخبرك بأن الرغبة في الكتابة ولدت عنده منذ طفولته الأولى".
ومن جديد يلتقي الثغر بعد سنوات مع صلاح الدين بوجاه في رحاب مكتبة الإسكندرية عبر مختبر السرديات في ندوة يديرها الصديق الكاتب منير عتيبة.
وعندما يقدر لي أن أكون في تونس في ذات الوقت الذي يتوج فيه صديقي صلاح الدين بوجاه في المسرح البلدي بشارع الحبيب بورقيبة بجائزة "الكومار الذهبي" عن روايته "لون الروح" أقرر أن أصدر طبعة مصرية منها، وبالفعل تنشرها صديقتي الناقدة الدكتورة عفاف عبدالمعطي في عام 2009 عن "دار هفن للترجمة والنشر والبرمجيات"، وهي الطبعة التي قمت بتقديمها بدراسة بعنوان "لون الروح ودرس الجسد".