عالقون في منتصف اللوحة والحياة

لوحة "إصرار الذاكرة" لسيلفادور دالي أراها إرهاصاً لما نحن فيه من غياب كل مفاهيم العولمة والليبرالية والتقدم والتطور والانفتاح وغيرها.
العالم صار هشاً لدرجة لا يمكن تصورها، صار أكبر سناً، وأكثر عجزاً، وشروداً، ومتاهةً وحيرة 
لن ينتهي العالم نهاية تافهة قبل أن تتحرر الحكايات من كل القيود

في هذه اللحظة الغامضة، ومن قبلها تلك اللحظات المؤلمة، ومن بعدها ذلك الغموض والحيرة في لحظات مرتقبة قادمة قريبة أو بعيدة، يتحول العالم فجأة للوحات سيريالية تعبر  عن الواقع بشكل محير، بصورة يعوزها النظام وأحياناً المنطق. فتهدأ الألوان فيها مرةً، وتصرخ فيها مرةً أخرى، لكنها تجبرنا أن نستسلم في النهاية .
وقبل أن أصف مشهد حياة العالم أجمع اليوم، أتذكر معكم لوحة "إصرار الذاكرة" للفنان سيلفادور دالي (المرسومة عام 1931) والتي أراها إرهاصاً لما نحن فيه من غياب كل مفاهيم العولمة والليبرالية والتقدم والتطور والانفتاح وغيرها  .
حيث يظهر في لوحة دالي عددٌ من الساعات مرتخية ومائعةً وأحياناً متساقطة، في إشارة رمزية لتجمد الزمن وتوقف عجلة الوقت كأن الساعة لم تدق يوماً وكأننا عالقون لا حراك  لنا.
أما اليوم ينسج "كورونا كوفيد" لوحة عالمية واحدة، يظهر على يسارها هو وبطولاته وعلى يمينها هي وأحلامه، كلاهما في نقطة لا يراها أحدهما، وتبدو القُبل التي لم يطبعها كل منهما على الآخر كالفراشات تطير فراشةً دون أخرى، وفي المنتصف فراق وقناع ورعشة وخوف .
نعم هكذا يعيش العالم منذ أكثر من أربعين يوماً، يعيش مرحلةً تعد الأصعب بلا استثناء، مرحلة الجميع فيها عالقون في منتصف الأشياء كلها، ما بين الخوف والسكينة، بين الضعف والقوة، بين التردد والثبات، بين الضياع والهدى، بين الكارثة والترميم، بين التوقف والطواف، بين كل الأيام الماضية وتلك المرتقبة، كل الأمور باتت عالقة حتى إشعارٍ آخر.
صار العالم في ظل هذا الفيروس هشاً لدرجة لا يمكن تصورها، صار العالم أكبر سناً، وأكثر عجزاً، وشروداً، ومتاهةً وحيرة . 
حتى تلك الترانيم والتكبيرات التي تحمل في طياتها السلام والقداسة اختفت وسكنت القلوب صامتةً بل وحزينة. وصار كل ما نخشى الموت الذي غدا كالمجنون لا يهدأ بعدما يمتص الأرواح دون الدماء، ونسينا وسط مخاوفنا تلك أننا سنموت جميعاً دون الحاجة لعناية مركزة ولا حجر صحي .
خيم الحزن والسكون والملل والوحدة العالم أجمع ليحمل سؤالاً افتراضياً مخيفاً ماذا لو اختفى البشر؟ أو في احتمال ٍأقل ماذا لو خيم عليهم الاكتئاب؟  
صحيح يُفترض أن تكون كورونا أزمةً صحية ينبري لها العالم لعلاجها إلا  أن إيقاع الخط الدرامي في تصاعد مستمر، وتداعياتها على حياة البشر باتت تهدد كل شيء؛ الاقتصاد والسياسة والسياحة والحياة الاجتماعية بل وطاقة البشر نفسها وابتساماتهم .
لا بد أن ننتبه لثمة خيط رفيع لا مرئي في الغالب بين السياسة والمصالح وبين التداعيات الصحية والاقتصادية  والنفسية، مما يجعل نظرية المؤامرة محتملة بصورة كبيرة خاصةً في ظل الصراع الأميركي الصيني، فالمعركة بين القطبين أكثر تعقيداً مما كان عليه الحال خلال أزمة سارس وأنفلونزا الخنازير التي تسببت في إصابة أكثر من ٦١ مليون شخص، ووفاة ٢٨٤ ألف شخص آخر في ٢١٤ دولة، وبرغم ذلك كانت ردود الأفعال العالمية أقل هستيرية مقارنة بفيروس كورونا القادم من الشرق الأقصى .

film
الأبواب صارت موصدةً في وجه الجميع

نعم حتماً هناك  شرير أتى على هيئة تنين أحمر ذي سبعة رؤوس، تنين شديد الفضول والمقامرة يملك قوة سحرية خارقة يجر بها النجوم ويطرحها على الأرض .
هناك من يقامر بمصير العالم أجمع، من يرى القوميات والهويات مجرد صفقات، من يدفع العالم لأقبح الاحتمالات .
لن أتعرض لأيه احتمالات لتفسير سبب الفيروس أو كننه أو حتى أضراره الاقتصادية فهناك من هو أجدر مني تخصصاً، إنما أردت التقاط أمور تتكاثر فيها بعض الظواهر حتى تحتل متن المعاناة و دلالاتها، فمثلاً :
الصمت والسكون الذي يعيش العالم جميعه فيه، بل وتلك الأبواب التي صارت موصدةً في وجه الجميع، وهؤلاء العالقون في الداخل والخارج معاً يجعلني أتذكر تماماً "عبدالودود" الذي ظل عالقاً على الحدود في فيلم "الحدود" لمحمد الماغوط ودريد لحام، والذي سخر فيه من إدعاء الوحدة العربية لمسافر بين غربستان وشرقستان فتضيع أوراقه الثبوتية ويظل عالقاً على الحدود. هكذا صار كل شخص في العالم ليس عبدالودود فحسب، لتطرح المشكلة أهمية الإنسان وأنه أقوى بكثير من الجغرافية .
فهل ما نعيشه اليوم يجعلنا نتذكر هؤلاء المهاجرين واللاجئين المشردين بلا مأوى والعالقين في الهواء؟ 
ربما اختفاء الأنشطة الاجتماعية والثقافية، ودوريات كرة القدم، والأسواق واللهفة الشرائية، والتراتيل والترانيم والعمرة والطواف، تجعلنا ننتبه لتلك الملامح العميقة والمشتركة بيننا نحن البشر أكثر من تلك الفوارق التي تجعلنا نتقاتل ونفترق.
فهل سنفهم رسالة السماء؟ وهل سيغير العالم قوانينه العميقة والسلطوية؟ ربما يحدث  !
في النهاية سأوجه جملةً تفاؤلية للجميع ومن قبل الجميع تلك الجرثومة التي جعلتنا واحداً بكل مكان :لن ينتهي العالم نهاية تافهة كهذه، قبل أن تتحرر الحكايات من كل القيود، وسيصبح العالم أكثر دهشةً وجمالاً ولن نتوقف كثيراً في المنتصف.