عودة مستر إكس

المشهد الأخير لمقتل جورج فلويد يعيد إرثاً تاريخياً ثقيلاً للعنصرية والعنف والتطرف المغروسين في المجتمع الأميركي، والتي لم يمحُها التاريخ يوماً.
مستر إكس صار أمامي جلياً بحقيبته السوداء وساعة يده السوداء والنظارة السوداء وبملامحه الهادئة الثابتة رغم ثورته ونضاله
قصة الأميركي الأسود الذي كان أكثر شجاعةً وتأثيراً على مر التاريخ الأميركي

أعلن جاك دروسي مؤسس شركة تويتر عن اعتبار 19 يونيو/حزيران عطلةً على مستوى الشركة، وذلك في ذكرى إعلان تحرير العبيد، للقضاء على العبودية وهو ما يعتبره الأمريكيون يوم الاستقلال الثاني.
ويأتي الاعلان في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة موجةَ احتجاجات بسبب عنف الشرطة مع السود، على خلفية وفاة جورج فلويد ذي الأصول الأفريقية.
المشهد الأخير لمقتل جورج فلويد والذي لن يكون القتيل الأخير جراء لونه أعاد وبوضوحٍ إرثاً تاريخياً ثقيلاً للعنصرية والعنف والتطرف القابعين والمغروسيين في المجتمع الأميركي، والتي لم يمحُها التاريخ يوماً.
فنعيد قراءة قصص البشرة السوداء، والأقنعة البيضاء، ونتحقق من مصداقية بعض المفردات الفضفاضة كالديمقراطية، وحرية التعبير، والعدالة، تلك المفردات العظيمة التي تستخدمها أعظم دولة بالعالم (أميركا) حلم المحبطين والثائرين.
هذا الإحباط الأسود الذي أعاد صورة مستر إكس في مخيلتي وصار أمامي جلياً بحقيبته السوداء وساعة يده السوداء والنظارة السوداء هي الأخرى، وبملامحه الهادئة الثابتة رغم ثورته ونضاله، وقصة هذا الأميركي الأسود الذي كان أكثر شجاعةً وتأثيراً على مر التاريخ الأميركي.

 قصص البشرة السمراء مع البيضاء توضح الثنائية العميقة التي تسيطر على العالم أجمع والمسافات البعيدة بين التنظير والواقع، بين الدين والتدين، بين الدستور والواقع

وقبل أن أعرض قصته أردت الاستهلال بقصيدةٍ لطفلٍ أفريقي اعتبرتها الأمم المتحدة أفضل قصيدة لعام 2008 يقول فيها:
حين وُلِدتُ، أنا أسود
حينَ كَبرتُ، أنا أسود
حتى وأنا في الشمس، أنا أسود
حينَ أكونُ مريضاً، أنا أسود 
حين أموت، أنا أسود 
وأنتَ أيها الأبيض حينَ تُولد، أنتَ زهري
حينَ تبرد، أنتَ أزرق
حينَ تخاف، أنت أصفر 
حين تمرض، أنت أخضر 
حين تموت، أنتَ رمادي 
وأنتَ تصفني بأني ملون!
نعم، ذاك الأبيض الذي قبع على رقبة الملون ليصرخ  I can’t breath، فتبرر عبارة مالكوم إكس سر الكراهية "أو تدري لماذا يكرهك الرجل الأبيض، لأنه في كل مرةٍ يرى فيها وجهك، ويرى مرآة فيها جريمته وضميره الذي يعذبه فلا يتحمل ذلك". 
إنه مالكوم إكس الشباز صورة من صور الاحتجاج والنضال المدني على المجتمع الأميركي، عملة نادرة وبلا غطاء. 
فقد نشأ ذلك الأسود في ظل مناخٍ مضطرب ملئ بالإذلال والعنصرية والتحطيم النفسي والاجتماعي والمعنوي، نشأ متعرضاً لأبشع أنواع التمييز والعنصرية لا لشيء غير أن بشرته سوداء، فكان عليه أن يواجه مصيراً مجهولاً وألماً لا يوازيه ألم.
فيقتل العنصريون البيض أربعةَ من أشقائه السته، وتحرق منظمة "كوكلوكس" العنصرية منزلهم، وتقتل مجموعة وحشية أخرى والده لتزعم أنه مجرد حادث دهس غير مقصود.
سلسلة من الاضطهادات أدت لسلسلة من الإحباطات والجرائم التي قام بها من سرقه، وقواده، وتجارة المخدرات، وتظاهر بالجنون ليتجنب التجنيد الإجباري إبان الحرب العالمية الثانية، فيدخل سجن كونكورد 1946 كعقوبة عشر سنوات، في حين نال رفيقاه نصف تلك المدة فقط لأنهما بيضاوان، والمفارقة أن تتحول حياته في السجن لحياة بحث وقراءة وتساؤلات، خاصةً بعد رسائل أخويه التي تخبره بأنهما توصلا لدين جديد لا يصلح إلا بالسود، وينصحاه بألا يدخن، ولا يتناول لحم الخنزير، فيقرأ لمؤلفات سبينوزا اليهودي الأسود وعلاقة السلطة الدينية بالسياسية، وكتابات النمساوي مندل في علم الوراثة، ومؤلفات عن قصة الحضارة، الأمر الذي انتهى به للانضمام لحركة "أمة الإسلام" تحت رعاية اليجا محمد الذي جمع أجزاءً مبعثرة من الإسلام، ونسب للإسلام مفاهيم مغلوطة لمجرد جذب السود، فيؤسس باسم الإسلام دعوةً مناهضة عنصرية ضد البيض، تعتبر البيض شياطيين.
فيتحول مالكوم ليتل إلى مالكوم إكس فكانت إكس X إشارةً لحياته السابقة قبل الإسلام، ليعود إليه الفضل بزيادة أعداد منظمة أمة الإسلام من 500 شخص إلى 300 ألف شخص في غضون تسعة أعوام، ومن أبرزهم محمد علي كلاي. 
 مستر إكس، أو الحاج مالك الشباز لا أريد تناول قصته كداعيةٍ إسلامي، إنما كمناضل إنساني مدني مرَّ بتحولات متناقضة وغريبة تشابه كثيراً أحوالنا اليوم بل وأمس وربما غداً، لتقوى احتمالية عودته مرةً أخرى.
نعم، لا خلاف على شخصيته الكاريزمية، والنضالية التى ناصرت العدالة، وأنه الشخصية الأكثر تأثيراً في حركة الدفاع عن الحقوق المدنية للسود والأقليات ضد التمييز العنصري. 
ولكن لن ننسى أنه اعتنق الإسلام من بوابة الانتماء الايديولوجي والعرقي، كما لن ننسى أن اعتناقه للإسلام تجدد مرةً أخرى بعدما تصححت مفاهيمه المغلوطة الأولى، فبعد خطابات المؤامرات الشيطانية والعنصرية والاضطهاد إلى خطب أكثر وضوحاً تكشف النزعة الإنسانية للعقيدة الإسلامية وأنها ليست كما رُوج لها اليجا محمد لا تصلح إلا للسود، وأنها تصلح لجميع الألوان والأجناس. 

وكان السبب المباشر في التحول والتمرد على المرشد الديني اليجا محمد، بعد تورطه في قضايا أخلاقية وإقامة علاقات جنسية غير شرعية مع ست نساء ينتمين للجماعة تثمر أطفالاً غير شرعيين، كما أوضحت رحلة الحج بالنسبة له حقائق لم يكن يعرفها مطلقاً، فكان كالطفل يرى الأشياء خارج الإطار فيتحرر من التبعية العمياء ويتجه للاعتدال، وينفصل عن مشروع أمة الإسلام، ويصوغ أفكاراً جديدةً تدعو للتعايش، ويؤسس منظمة "الأفريقي الأميركي"، ويغير اسم أمة الإسلام إلى البلاليين نسبة ًلـ "بلال بن رباح". وكم أراه حقاً يشبه هذا الحبشي ذي الصوت الجميل الذي صدح بالآذان، مثلما كان يصدح مالكوم بخطب نارية، لتنتهي حياته في إحدى خطبه عندما أهداه اليجا محمد 16 طلقة نارية فيكون مالكوم المناضل الذي مات واقفاً 1964 لتؤكد حياته أن ارتكاب الخطيئة عملٌ إنساني لكن تبريرها والاستمرار فيها عملٌ شيطاني. وأن أغلب التاريخ الأميركي سطوره مظلمه وسوداء، وأن المشاهد  ربما تختلف لكن سرها واحد، فما كان مقتل جورج فلويد إلا فرصةً مواتية لكشف تفاصيل السر العلني وعواقب الدائرة الخطرة. 
فما نشهده اليوم مرحلة متقدمة للعنصرية العرقية والدينية التي تسهل الهيمنة العالمية الإمبريالية الأميركية التي تنتج بشكل رخيص وتبيع بشكل هائل ولا تكترث بمن يشترى ولا بمن يبيع.
بل إن المرحلة التي تعيشها أميركا اليوم مرحلةً استثنائية، ترامب القائد العنصري الديكتاتوري يقود دولة الحزم والقانون ويعرض أميركا للتفكك، بل ما أشبه ترامب باليجا محمد، فكلاهما استخدم الورع الديني لأغراض سياسية فعلى بعد من البيت الأبيض تستخدم الشرطة الغاز المسيل لإبعاد المتظاهرين، في حين يرفع ترامب الإنجيل أمام كنيسة القديس يوحنا في واشنطن، كنوع من التعويذة المقدسة لتكريس صورته كقائد مختار، كما يشبهه أخلاقياً كثيراً (ثلاث زيجات، اتهامات بالتحرش، فضيحة الأفلام الإباحية) كل أوجه الشبه تلك ألا ترجح عودة مستر إكس؟  
كما يتضح من مقتل جورج فلويد وغيرها من المشاهد الأكثر ثورةً وعنفاً استمرارية إنعدام الثقة في السلطات، وأن الطريق للمساواة لا يزال طويلاً لغياب العدالة الاجتماعية التي قد تجعل تفكك أميركا وشيكاً.
أليست قصص البشرة السمراء مع البيضاء توضح الثنائية العميقة التي تسيطر على العالم أجمع والمسافات البعيدة بين التنظير والواقع، بين الدين والتدين، بين الدستور والواقع، بين النسخة الحقيقية والنسخ الشكلية، بين الإسلام والإسلاموية، بين المعركة وسرها؟ بين الهندي الأحمر والرجل الأبيض الذي أهداه الأول خطبته الأخيرة على لسان محمود درويش في قصيدة الخطبة الأخيرة للهندي الأحمر أمام الرجل الأبيض:  
يحاصركم أيها البيض، موتي 
يموتون، موتي 
يعيشون، موتي، يعودون، موتي 
يبوحُونَ بالسر 
فلتمهلوا الأرض َحتى تقول 
الحقيقةَ كل الحقيقة
عنكم 
وعنّا 
وعنّا 
وعنكم.