تفاصيل المشهد الأخير في حياة نادر

نادر محمد جميل سحب بعضه معه، وترك أكثره هنا بيننا، بعدما تبخرت روحه الشابة.
الستار أسدل على المشهد المزدحم بالتفاصيل، وبعيداً عن الوجع والفقد والألم، رأيته مشهداً يتغذى على المفارقات 
نادر الطالب الذي وصفه أساتذته الذين اشتكى منهم بالمتفوق انتهى، ليبقى مليون شابٍ آخر نادر نخشى عليهم من نفس الظلام والصدأ

صعد للقمة لآخر طابقِ، للمنصة الدوارة، لكنه لم يصعد ليرتقي، بل ليشقى. ففي الساعات الأولى من الليل يبدأ المشهد "جماهير محتشدة في القاعة، وسماء مفتوحة، وتاريخ عريق طويل شاهد على الجميع، يأتي البطل وحشرجة في حلقه، وصدأ يلف نفسه، وقصص رمادية في عقله يستحضرها، وحكايات لا نعلمها تجعل قلبه حزيناً، وكثير من الشياطين، تزين له فكرة الغياب الأبدي فبلا استحياء يقنع جسده بأن الرحلة انتهت، والمصابيح انطفأت، وفي قفزة سريعة وربما قوية تسارع  نحو القاع، لينتهي المشهد بجثةٍ هامدة مطروحة على الأرض من ارتفاع ١٨٧م".
هكذا سحب نادر محمد جميل بعضه معه، وترك أكثره هنا بيننا، بعدما تبخرت روحه الشابة.
نادر صاحب حادثة الانتحار من قمة برج الجزيرة، كان مشهد نهايته مأساوياً مؤلماً، وربما كان قوياً وصارماً! فلماذا اختار هذا المكان تحديدًا وهذه النهاية؟ وأي همٍ ثقيل ذاك الذي يحمل شاباً في العشرين على الموت والذهاب لمقبرته بنفسه؟ ألم يحلم بفتاة ترتدي ثوباً أبيض، يقتسم معها الحب والحياة؟ لماذا لا خيارات أخرى كانت أمامه؟
أسدل الستار على المشهد المزدحم بالتفاصيل، وبعيداً عن الوجع والفقد والألم، رأيته مشهداً يتغذى على المفارقات .
ولا أنتوي هنا البحث عن السبب وراء الانتحار، لأنه يبقى في النهاية سراً مدفوناً مع صاحبه، لكننا نعلم جميعاً أنها لحظة توتر وصراع وصدام نفسي عظيم يرى المنتحر أن لا أمل في الحياة، ولا أنتوي أيضاً تحويل المنتحر لبطل ٍشعبي، فلا بطولة للضعفاء، خاصةً وأن اللحظة القوية الوحيدة لديهم كانت لحظة الانسحاب .
فقط أردت عرض تلك المفارقات الغريبة التي غلفت هذا المشهد دون سواه، وربما تجعلنا نراجع كثيراً من الأمور المسؤولة بشكل كبير عن هذا الحدث وشبيهه من الأحداث التي تكررت في الآونة الأخيرة .متبعةً حديث الجموع لا حديث الغرف المغلقة، ومصرةً  أن نحول ضمير الغائب فيها لكاف الخطاب، فالأحداث تنتهي وتبقى الدروس .

انتحار الشباب
الغياب الأبدي

نعم انتهى نادر الطالب الذي وصفه أساتذته الذين اشتكى منهم بالمتفوق، ليبقى مليون شابٍ آخر نادر نخشى عليهم من نفس الظلام والصدأ .
وأهم تلك المفارقات التي جعلته غريباً :
١/ اختيار برج القاهرة 
اختيار برج القاهرة كمسرح للأحداث . مكان له تاريخ نضالي عظيم فلا ننسى ان مصر حولته من (شوكة ناصر) إلى (وقف روزفلت) ليتحدى به الإرادة الأميركية في إبعاده عن مناصرة القضية الجزائرية .
مكان  كان فيه نادر أول الضحايا فهل أراد أن تكون صيحته ورسالته واضحة للعالم أجمع فلا نستطيع أن نُغلق القضية ونُقيدها ضد ميؤوس .فالأمر أكبر من ذلك وأعظم .
٢/ الضحية، أو (الجاني والمجني عليه) طالبٌ جامعي في أفضل كليات مصر، الأمر الذي يجعل الجامعة مسؤولة مسؤولية عظيمة عن انحراف طلابها، بل والمتفوقين أيضاً، وذلك على خلفية وصف الجامعة لنادر بالمتفوق . الأمر الذي يجعلنا نسأل الجامعة عن دورها الاجتماعي والنفسي والإنساني مع طلابها، والطريف في الأمر أن جامعة حلوان نفسها فازت بالعرض المسرحي "المايسترو" بالدورة الثانية من ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي في الفترة من ٢٠ - ٢٦ أكتوبر/تشرين الأول. 
يبدو أن هناك مسافة عميقة بين عروض الواقع وعروض المهرجانات، أليس من المفارقات أن يكون رئيس المجلس التنفيذي لمؤتمر اتحاد الجامعات العربية الذي أقيم بالمملكة العربية الأردنية الهاشمية، هو نفسه رئيس جامعة حلوان، الذي عاش فيها نادر محمد جميل سنوات خمس من عمره الدراسي والاجتماعي انتهت به للانتحار، فأين الجهات النفسية بالجامعة وأين الأنشطة الطلابية القادرة وحدها على إعداد إنسان يتمتع بطاقة إيجابية قادرة على تطهير نفسه وممارسة الفعل الحر والحوار والوعي، فمن قال إن مهمة الجامعة إنتاج خريجين استوعبوا دروس العلم ولم يستوعبوا الحياة، لماذا لا ننهض  بالوجدان لينصلح البنيان؟
٣/ ابتسامة فارغة
أغلب الشباب المنتحر صورهم تغلفها ابتسامات جميلة، لكنها تفشل بالنهاية بصنع السعادة والأمل، ابتسامة فارغة من البهجة والدهشة والمتعة، الأمر الذي يجعلني أسأل أين اختفى صانعو الابتسامات؟ أين الفنانون الذين رسموا فيما مضى الضحكات والحياة؟ بل أين ما وصفت به الشخصية المصرية ذاتها من مرحٍ وانشراح وسعة صدر وقدرة فائقة وخارقة على التحمل والمثابرة؟ 

٤/ اتصال لا تواصل
من الأحداث الهامشية  للحدث  الانتحاري لنادر، أنه كتب على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من الاستغاثات دون جدوى، الأمر الذي يجعلنا لا نعوّل عليها كثيراً فهي ليست سوى مواقع اتصال افتراضي لا أكثر، وأن التواصل شيء آخر، التواصل كان قديماً  على القهاوي مع فنجان القهوة، التواصل على موائد الطعام مع الأسرة، التواصل بتشابك الأصابع مع من نحب، التواصل اختفى ولم نعد سوى متصلين لا متواصلين.
كل هذا يؤكد أن سقوط نادر من برج الجزيرة لم يكن سقوطاً مفاجئاً بل محتملاً، وعلينا أن   نخاف عمن بقى، وأن نبحث معاً عن اللون المفقود في اللوحة التي صارت بلا إطار، خاصةً، وأن اللون الأسود صار ستارا يحبس الألوان المضيئة .
فليغمد الله روحك يا نادر بالرحمة والسلام، ولنسأله تعالى لمن على الأرض جميعاً الرحمة والسلام.