حكايات العصفور الغلباوي

رغم ثقل وزنه فإن الفرح الذي ينشره يجعله رشيقاً كفراشة يرقص مع فتاته السندريلا، لكن بعد لحظات طويلة من الرقص ينزوي الطفل وعصفوره بعيداً عن الشباك.
العصفور كان فنان، يعشق الريشة والألوان، والخطوط البسيطة والقلم الرصاص، من روز اليوسف لصباح الخير للأهرام
تجربة الكاريكاتير في حياة صلاح جاهين كانت هائلة ومميزة وطازجة وثرية مليئة بروح الشقاوة والألغاز والغموض

الحكاية الأولى:  شارع جميل والشوارع حواديت
في تلك الغرفة، بشارع جميل باشا بحي شبرا، كان يقف على الشباك عصفورٌ يأتي كل نهار مع الشمس، والنور، يقفز ويغني ويضحك، يكبر مع النور حلمه ويدور العصفور حول طفل غير وسيم، شفتاه ممتلئتان، وكذلك باقي أجزاء جسمه القصير الذي يشبه كرةً ضخمةً، لكن كان في روحه شيءٌ مختلف عن جسمه، في روحه بساتين ومزامير للحب والبهجة والخفة والدلع .
كان يجمع كل فتيات الشارع ليصنع لهن بيديه ألعاباً وعرائس مبتسمة مبهجة .
رغم ثقل وزنه فإن الفرح الذي ينشره يجعله رشيقاً كفراشة يرقص مع فتاته السندريلا، لكن بعد لحظات طويلة من الرقص ينزوي الطفل وعصفوره بعيداً عن الشباك هادئين والحزن في ملامحهما، يصمت العصفور، وتظل عين الطفل البدين القصير الأصلع على الشارع مردداً الشوارع حواديت حوادايت الحب فيها وحوادايت عفاريت.
اسمعى يا حلوة لما أضحك
الشارع ده كنا ساكنين فيه زمان
كل يوم يضيق زيادة عن ما كان
أصبح الآن بعد ما كبرنا عليه
زى بطن الأم مالناش فيه مكان
الشارع ده رحنا فيه المدرسة
اللى باقى منه باقى
واللى مش باقى اتنسى
كنسوه الكناسين بالمكنسة
الشارع ده أوّله بساتين
وآخره حيطة سد
ليا فيه قصة غرام
ما حكتش عنها لأي حد
من طرف واحد.. وكنت سعيد أوى
بس حراس الشوارع حطوا للحدوتة حد
الحكاية الثانية: صباح الخير وقهوة النشاط
العصفور كان فنان، يعشق الريشة والألوان، والخطوط البسيطة والقلم الرصاص، من روز اليوسف لصباح الخير، كبر الطفل وشب وصار فناناً، في مربع بسيط كان قلبه المليان بالفرح والشجن والغلب والمعاناة يرسم أشكالاً بسيطة في مربع الأشكال (مربع  الكاريكاتير).
نعم هكذا أصبح صلاح جاهين الطفل العبقري والعصفور الغلباوي الذي غرد بسيمفونية مبهرة للثقافة والفنون والفكر المثير والفلسفي العميق. لم يكن فناناً واحداً بل جيشاً من المبدعين المجددين كان رساماً  وشاعراً وساخراً وزجالاً وقصاصاً وسيناريست وممثلاً وفيلسوفاً ! 

أما عن فن الكاريكاتير فكانت خطوطه السوداء تخفي أكثر مما تُظهر، كانت تجربةً هائلة ومميزة وطازجة وثرية مليئة بروح الشقاوة والألغاز والغموض، فلم تختلف كثيراً لوحاته عن كلماته، واستطاع أن يبدع من خلال شخصيات صنعها  مثل (قيس وليلى، قهوة النشاط، الفهامة) كانت لوحاته مدهشةً وجريئةً وجسورةً وأحياناً صارمةً ومحيرة تشبه كلماته تماماً. 
لا تجبر الإنسان ولا تخيره
يكفيه ما فيه من عقل بيحيره
اللي انهارده بيطلبه ويشتهيه
هو اللي بكره ح يشتهي يغيره 
 الحكاية الثالثة: الضاحك الباكي 
حياة صلاح جاهين على المستوى الشخصي والنفسي محيرة، فكيف لمن ملأ الدنيا سعادةً وفرحا وروحا شبابية هائلة وحيويةً وإنطلاقاً وبهجةً يموت مكتئباً؟ 
كيف لمن أضاء الدروب وداعب كل القلوب والصبايا يموت وحيداً؟ 
كيف لمن ترجم مشاعر وأفراح الملايين بالدفء والزهو والنشوة، ينسحب وينزوي بعيداً ويصمت بعدما شكا الحياةَ والموت لرب السما؟ 
ربما لأنه كان دائماً يتلمس جراحه، بحجة أنه يطمئن عليها، أو ربما لأنه أغرق نفسه كثيراً بتفاصيل بسيطة وصادقة أوصلته بالنهاية للانسحاب؟ 
فكيف تتحول تلك الشخصيات التي أضاءت لنا الأماكن الداكنة في الحياة لشخصيات حزينة مليئة باليأس؟ 
المهم أنه في حزنه كان مختلفاً، كأغنيةٍ قديمة لم يعد يرددها أحد، كالأشياء الأكثر رقةً وصلابة وتجرها بالنهاية قصيدة .
تملكه الحزن كما تملكته البهجة، وكأن حزنه مأساة خلق لأجلها وخلقت لأجله، كتلك الزهور المسكينة التي تُنزع باسم الحب وتُذبل باسم الخيبات .
كان حقاً أعجوبةً إنسانيةً يصعب تصنيفها، مرةً يكون أقرب من وريد ومرةً يكون أبعد من خيال.
شاعر فيلسوف، وفيلسوف الفقراء، تحدى نفسه وتحدى الجميع، أختصر كل الأشياء في عبارات ورباعيات منفردةً ومكتظةً بحكمٍ وبأسرار، تربك كل المقاييس، فغنى لكل شيء العصافير، الأطفال، الإنسان، الأرض، الوطن، النيل، العروبة، الثورة، كان مثقفاً ثقافة إنسانية حقيقية، وزع نفسه في نفوس كثيرة، فكان ينمو في كل ظاهرة ينمو لينفجر .
في يوم صحيت شاعر براحة وصفا
الهم زال والحزن راح واختفى 
خدني العجب وسألت روحي سؤال
أنا مت؟ ولا وصلت للفلسفة؟ 
الحكاية الرابعة: صوت مصر على اسم مصر
 هذه الحكاية تبين علاقة المواطن الفنان الثائر بوطنه؟ علاقة جاهين بالوطن والثورة مختلفة مثله، فهو لم يكن شاعراً غاضباً، ولم تكن مشاعره خشنةً، ولم يكن عنده صداماً ولا معارضةً ولا هجوماً على أحد .
لم تكن الثورة عنده بشعارات جوفاء ولا بافتعال سياسي أو تعبوي، بل كانت من خلال أغنيات الحب والجمال والصبا، محفوفة بالمزامير، والرقصات الشعبية، فلم يقف خطيباً يوماً، بل شارك الجماهير البسيطة الغلب والمعاناة .وصف مصر على الطريقة الزجلية، ترجم مشاعر وأحلام وأفراح ملايين المصريين كلمات حية مؤثرة، معبراً عن أحلام رجل الشارع وتعبه اليومي بأغنيات تستقبل الفجر البهي القادم على الآفاق مثل (يا أهلاً بالمعارك، أحنا الشعب، بالأحضان، راجعين بقوة السلاح).
على اسم مصر، التاريخ يقدر يقول ما شاء 
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب
بحبها وهي مرمية جريحة حرب 
بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء
وأسيبها وأطفش في درب وتبقى هي في درب
وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب 

الحكاية الخامسة: عيون ونظارة سودا شايفة ورد
الحكاية الاخيرة من حكايات الغلباوي حرصتُ أن تكون عن علاقاته الإنسانية والتي تبين مدى تفرده وبساطته وعبقريته، خاصةً وأن لها مذاقا خاصا، صادقا، وبإخلاص فنانين عباقرة يشبهونه في الشجن والفرح، سعاد حسني وأحمد زكي، فربط الاتنين بأعمال مبهجة وجميلة، وأيضاً علاقته العظيمة والمبدعة بسيد مكاوي، كلاهما صنعا البهجة بنكهة فنية ناجحة ترجم مكاوي كلمات جاهين بالألحان، فكانا رفيقا الكلمة واللحن، وقدما صورةً غنائية شعبيةً وثّقا فيها صوت الباعة الجائلين في "الليلة الكبيرة" التي تعد أشهر ما قدم مسرح العرائس في مصر  واصفاً المولد الشعبي بشكل رائع وممتع، من خلال شخصيات: (الأراجوز - بائع الحمص - بائع البخت - القهوجي - المعلم  - العمدة - الراقصة - مدرب الأسود - الأطفال - المصوراتي - معلن السيرك - المنشد – الفلاح).  كما قدما أعمالاً مسرحيةً مهمة "كدائرة الطباشير، الصفقة، الفيل النونو، قيراط حرية، الغلباوي). وقدما أغاني وطنية مختلفة (هنحارب، احنا العمال اللي اتقتلوا، الدرس انتهى لموا الكراريس).
كانا شريكين ليس فقط في الإبداع بل في الوداع كلاهما رحلا في الحادي والعشرين من أبريل/نيسان؛ جاهين رحل  ١٩٨٦ ، ومكاوي ١٩٩٧:
 ليل بعد ليل، ونجم ورا نجم اتحدف
وأنا باغني لكن لوحدي للأسف
لحني الجميل مش لاقي إنسان يسمعه
يا ريته ما أتغنى يا ريته ما اتعزف
هكذا كانت بعض حكايات عن العصفور الغلباوي الذي كان مدهشاً كالأحلام، كالعصافير المحلقة من شجرة لأخرى، ومن غصن لغصن، رافق جميع الفراشات الملونة، والورود، بل والقمر و المطر .. وعجبي.