عالم ما بعد كورونا: صيني أم أميركي أم متعدد الأقطاب؟

ليس العالم الخارجي هو الذي سيعاد تشكيله بل العوالم الداخلية للكثير من الدول.

كثرت في الآونة الأخيرة التنبؤات التي يطلقها سياسيون واقتصاديون، ومفكرون وفلاسفة حول مستقبل العالم بعد أزمة الوباء العالمي Covid19 الذي مازال وقد يبقى لفترة قادمة غير محددة يحصد أرواح البشر دون تمييز، مع ما يصاحب هذا الحصاد من انهيارات اقتصادية ستؤدي وهذا ما يظن أو يتوقع إلى أزمات سياسية حادة على صعيد الأنظمة والحكومات وطبيعة النظام الدولي.

لم يبدأ التوتر السياسي- الأقتصادي بين الولايات المتحدة والصين مع أنتشار وباء كورونا بل قبل ذلك بكثير، بدأ مع رئاسة ترامب للولايات المتحدة حيث كال لها الأخير عدة اتهامات ذات طابع اقتصادي والسياسي، اليوم تتهم بأنها من نشر الوباء عالمياً، بسبب إخفائها مدى خطورته وسرعة أنتشاره، وتسترها على عدد الإصابات لديها في الأسابيع الأولى لاكتشافه.

وليس هذه هي الاتهامات فقط، بل لمحت الإدارة الأميركية من خلال وزير خارجيتها إلى احتمالية تصنيع الفايروس في ووهان مخبرياً، وهي بذلك ترد التهمة إلى التي كانت قد اتهمت فريقاً رياضياً أميركياً بجلب الفايروس إلى ووهان، لترد الصين بانزعاج وغضب أن الفايروس ظهر في سوق للحيوانات في ووهان وبذلك تعيد السبب إلى الطبيعة، تصعيد ترامب قد يكون مدروساً بتحميل الصين المسؤولية الكاملة عن الانهيارات الاقتصادية التي بدأت تحدث أميركياً وأوروبياً وعالمياً وهو لم يكن بحاجة للوباء لفعل ذلك اذا لطالما كانت تلك استراتيجيته في محاربة الصين، ولكن الفايروس وفر له أدوات جديدة مقنعة للمجتمع الأميركي وخارجه، وهذا يعني إرغام تلصين على دفع تعويضات مالية قادمة، ربما ستصبح أحد أهم ضحاياها قرصنة الودائع الصينية في البنوك الأميركية.

الاتهامات تحمل في طياتها حرباً من نوع جديد، خاصة أنها تترافق مع وقف الدعم الأميركي لمنظمة الصحة العالمية بدعوى تواطئها مع الصين، وبذلك يدخل ترامب المنظمات الدولية في صراعه من أجل الهيمنة الأميركية على العالم، التي كانت قد بدأت في اليونيسكو من أجل مصالح إسرائيل وانتقلت الى تهديد الدول التي تصوت إلى جانب أطراف معادية لاميركا أو تتناقض مع مصالحها، وهاهو ينقل الصراع الى منظمة الصحة العالمية، ربما بهدف تفكيك وإعادة تركيب هيئة الأمم المتحدة وفق رؤية أميركية جديدة وبما يخدم مصالح أميركا دون أي أعتبار للقانون الدولي وحقوق الإنسان.

يذهب البعض إلى احتمالية حدوث صدام مسلح سيؤدي إلى حرب عالمية ثالثة بين الصين وأميركا نهاية هذا العام، معتمدين على وقائع وتحليل سياسي استقرائي، كون الولايات المتحدة ومنذ مدة تعتبر منطقة الشرق الأقصى هي مركز اهتمامها القادم وما الحديث عن خروجها من الشرق الأوسط الا لتعزيز التواجد العسكري الاستراتيجي في الشرق الأقصى والمحيط الهادئ لكني أشك في ذلك حيث حرب عالمية تعني أسلحة نووية وتدمير شامل.

بغض النظر إن كانت هذه التوقعات بعض من الأمنيات أم ترقى إلى درجات الصدق المبني على التحليلات الاستقرائية الموضوعية، إلا أن المؤكد أن عالماً مختلفاً عن عالم ما قبل الوباء سيتكون، فبعد كل وباء أو أزمة اقتصادية عالمية حادة كان ذلك ايذاناً بعالم مختلف، رأينا ذلك عام 1929 وبعد أزمة انهيار بنك ليمان برذر عام 2008، وبعد انهيار المعسكر الأشتراكي.

في أوروبا هناك بوادر تفكك في الاتحاد، نتيجة الشك الذي أعترى بعض من أهم دوله حول معنى استمراره طرح السؤال حول مستقبله في فرنسا وإيطاليا وصربيا وغيرها، وعبر كتاب وصحف، أخفق الاتحاد في في أزمة الوباء من أن يكون موحداً، وكذلك هي الحال في الولايات المتحدة ذات الاتحاد الفديرالي حيث رأينا صراعاً سياسياً يستغل الوباء لينتقم من الآخر جمهوريا وديمقراطيا، وخلافات حادة بين بعض الولايات والإدارة المركزية كولاية نيويورك مع إدارة ترامب. ودعوة الرئيس ترامب على تويتر أنصاره بالقول "حرّروا ميتشغان.. حرّروا مينيسوتا.. حرّروا فيرجينا" وهذه الولايات يحكمها الديمقراطيون.

إذاً ليس العالم الخارجي هو الذي سيعاد تشكيله بل العوالم الداخلية للكثير من الدول ايضاً، حيث سيكون السعي في بعض أهم الدول الرائدة اقتصادياً، ليس الاقتصاد الصناعي، بل صحة المجتمع وصحة المجتمع تعني مركزية الدولة في موضوع الصحة، وهو بداية لتقمص النموذج الصيني، وربما يتعدى ذلك الصحة إلى كافة القطاعات فأزمة الكمامات وأجهزة التنفس تجعل توطين الصناعات أمراً ملحاً وهذا يعني العودة الى الحمائية الوطنية على حساب العولمة الرأسمالية الأميركية الأوروبية التي كانت اعتمدت العمالة والمواد الخام الأرخص في الشرق الأقصى.

ستتعزز القطرية أو الوطنية على حساب الإنفتاح العولمي، ويرى بعض المفكرين الغربيين (منهم ستيفن ولت من جامعة هارفرد) أن مركز الثقل الاقتصادي العالمي سيتحول بشكل أسرع نحو الشرق الأقصى وستمسك به دول مثل الصين وكوريا وسنغافورة وغيرها، بل يذهب بعض المحللين الى أننا سنشهد عولمة صينية بدل الأميركية.

 لكن جون آلن، مدير معهد بروكينغز، يرى أن المنتصرين في المعركة ضد فيروس كورونا القاتل هم من سيتسنى لهم كتابة التاريخ كما هي الحال عبر تاريخ البشرية.

العبارة الأخيرة هي ملخص لحالة الضياع التي يشهدها العالم دولاً وأفراداً في ظل المعاناة الإنسانية، وأجواء الموت والحزن، أصبح السيطرة على الفايروس ومنع انتشاره، وحماية المجتمع، وإيجاد دواء يقضي عليه هو عنوان التقدم والسيادة للمستقبل في أيامنا العصيبة، لكن ذلك ربما يعبر عن حالة مؤقتة، أما المستقبل وتغير الأقطاب المهيمنة فهي عملية تحتاج إلى عقدين من السنين على أقل تقدير قبل تحقق بعض من تلك التنبؤات.