عباس الزهاوي يعمل بأدوات خاصة تخدمنا جداً في التفسير والتأويل

التشكيلي الكردستاني يستطيع أن يبلغ غرضه كتعبير وتصوير وتوصيل بأكثر من تجربة، فرغم أنه لا يرسم من الخارج فحسب، بل ما يملك عليه حسه وخياله ووهمه، فليست مصادفة أن يمنح الشكل أهمية فهو على دراية تامة بأنه المدخل إلى الجمال بجزيئاته.

من يعش في كردستان العراق لا بد أن يعشق ناسها، مدنها، هواءها، طبيعتها، لا في عشق مفاصلها بتفصيلاتها كلها فحسب، بل في تبيان كيفية إستعادة تلك الكنوز، تلك الطبيعة بجمالها وجنانها وبصدى صوتها الحقيقي الأصيل، الصوت الذي يروي التاريخ وتحولاته، برائحته وآلامه المقدسة، نعم للطبيعة صوت كما لها الحواس الأخرى كلها، من يعش في ربوع كردستان العراق، بين جبالها وأنهارها، بين عشبها وأشجارها، لا بد أن يتحول إلى مم وهي إلى زين، فكيف إذا كان هذا الأحد فناناً ولد وحبا وتنفس وركض فيها وبين جوانحها، كيف لا يكون عاشقاً، متيماً بها إلى درجة الذوبان والتلاشي.

أتحدث هنا عن الفنان التشكيلي عباس محي الدين مصطفى الزهاوي سليل اللون والحب والجمال، إبن مدينة الخانقين، مدينة الفن وأقواسه القزحية، حيث ولد فيها عام 1956، درس في كلية التربية الفنية ببغداد وتخرج منها ليعمل مدرساً لهذه المادة في مدارس المدينة التي أطلقته للحياة، المدينة التي احتضنت صرخته الأولى ولما تزل، والتي بها أعلن عن حضوره إلى هذه الحياة لا كثيمة عامة كما لدى الجميع، ولا كتقليد وفق وجهة الكل بأجمعه، بل لتوسيع فضاءاته التي سيعوم فيها بأجنحة خفافة لا تكل ولا تكد نحو اكتشاف فردانيته، وتوفير مداخل لتلك الفردانية بالنهوض نحو ثيمات وأفكار ستبرز له ولنا فيما بعد مرة بعد أخرى، ستبرز على نحو متزايد إلى الأهمية التي ستسبغها على العلاقات بين مفرداتها بكل وقائعها، أود هنا وفي هذا الضرب من السياق أن أشير من خلاله إلى إطلالاته الواسعة على هذه الطبيعة الساحرة بخطوطها وملامحها وتحولاتها، مع إشارات إلى تلك اللحظات الخاصة في وجد إقتناصها وتدوينها باللون والشعور وكأنها حياة قائمة بذاتها، قائمة على أن الوقائع يجب أن تلتقط، لا بما تفهم فحسب بل بما تختزل من القدرات الجمالية التي تقتضي التركيز على إمكانية الانعتاق لديها، فالزهاوي هنا وفي هذا المجال يتحدى السطوات الكثيرة التي تتربص به من المحيط وعقباته، فيعمل جاهداً للتخلص منها، محايثاً للظروف البيئية التي تنطوي عليها توليد الحياة الاجتماعية، وهذا ما يجعله يلقي الضوء شيئاً فشيئاً على كل تأملاته بصور طبيعية ترتبط فيما بينها بإدراكات وثيقة الصِّلة بالكيفية التي يرى بها العالم، فليس مصادفة أن يختار الطبيعة كأبجدية للغته التي ستصنع قدره ورسالته وستبرز مسؤوليته من الحرية والبقاء.

والحال أننا لم نبدأ بعد بفهم ما يشغل الزهاوي وما يشتغل عليه، فما زلنا نجاهد في التبصر إلى ما مفاده أن من الممكن أن نقبض على إستغراقاته لحظة بلحظة وما بينها من قرابات بعيدة، أن نقبض على ما يسود عوالمه دون أن يعلن عنها، وفي هذا شيء يلفت الانتباه على الرغم ما تنطوي عليه من منغصات تعترض سبلنا إليها وإلى مواردها الغنية، وما من مسألة إلا وتحمل صفاتها في ذاتها، وما ترمي إليها من أغراض إلا وتحمل قيمها في قصديتها، فما عسى أن يفعله الزهاوي وله كل المقدرة على التعبير عنها، فما يملكه من مزايا يجعله يبسط أمامنا ما يكترث به خيالنا، فيتناول صور على أنها مسألة مسلمة بها، لكنها بغض النظر عن أغراضها والتي لا تقبل إلا أن تكون فناً، ومقدرته العالية عن التعبير عنها، أقول يتناول صور على أنها مسألة مسلمة لكنها ليست آنية بل غارقة في دوائر يعجبنا منها التعبير لنفسها ولذاتها، فنتساءل نحن المتأملين فيها، في مناظره، أقصد في لوحاته والتي نقبلها كتعبير مقصود لذاتها، ونقدرها كتجربة يمكن أن ننعتها بالخالصة أو الصرفة، أقول نتساءل نحن المتأملين فيها بوصفها تجربة بطبيعتها لا يمكن أن تكون إلا نفسها ماذا عن ماهيتها، وماهية الأشياء التي تنبض بها والتي ترغب بإيصالها لنا، لا كمجرد إيصال فقط، بل كتجربة مكتفية بذاتها تعبيراً وممارسة، تجربة تحمل قيمتها وقيمها في ذاتها، وإذا كان من السهل تصورها وعلى نحو أخص في الأمور التي ترجع إلى الحواس والعاطفة، فهي أبلغ بهاء وأوفر جمالاً حين نفكر بتأويلاتها دون الاشتعال بالحكم عليها، بل بما ترمي إليها من مقاصد، وبمجرد إبانتها حتى نجد أنفسنا في تتبعها وقراءتها بكل متعة ولذة، فهناك دائماً ما تتركه في نفوسنا من آثر الذي يتعمده الفنان عن قصد أو دون قصد والذ أقل ما يقال عنه بأنه مثمر وممتع، وهذا نابع مما نعده من تجربة ممتعة في ذاتها.

عباس الزهاوي يعيش في مدار خانقين، بل في مدار كردستان، وفي جولة سريعة بين عناوين أعماله (شناشيل، بساتين خانقين، جسر خانقين القديم، سوق الخضراوات في السليمانية، بساتين بهرز ديالى، نهر الوند، منظر من خانقين القديمةً 1958، أبواب قديمة تراثية، سوق خانقين، ساحة كرندي في خانقين 1956، منظر من كردستان، ...إلخ ) حتى يبدو لنا حجم العشق الذي يعيشه الزهاوي للمكان، بتأكيد قدرته على التجاوز المتواصل والتنويع المستمر، ولا شك أننا كقراء ومتلقين نستطيع أن نحدد المقولات العديدة والمتنوعة التي تحضر في عمله والتي لا تغيب لا عنا ولا عنه، ولا نختلف في شأنها، فهي مقولات مشتركة يقدمها بوعي وفعل، بإبتكار بعيد عن التخبط، ومحاكاة مع النفس، مقولات هي رهانه في التجريب، كسعيه إلى عرض تجارب مخصوصة عن الطبيعة، وإنتاج خطاب انطباعي جديد بتقنيات معهودة، وكذلك في تشظي السرد اللوني الذي يوظف لخدمة أبعاد نفسية وتاريخية حيناً، وحيناً لخدمة أغراض يمضي إليها بهدوء وترو، وهي من مقومات حداثته وقد تكون كافية لديه لإنشاء نص جمالي جديد، وهذا ما يجعله يبتدع مقومات إضافية لإنتاج وخلق ما تسمى جمالية الإبهار، وهي جمالية بؤرتها النص ذاته، وتتصل بكل من الفنان والمتلقي معاً، وهكذا يكون لدينا مجموعة أشكال تدل عليها إشارات هي بطبعها غير محدودة المدى، ولهذا لا بد لأعمال الزهاوي أن تضج بالحيوية حيث المدلول مبني على عدة أمور وليس على عين الكاميرا التي تلتقط فقط، فالإحساسات التي تجيش بها وأقصد أعماله تنقل إلى الأذهان أدق المشاعر، فهو يعتمد على مقدرته في الابتكار والحماس والتي لا غنى منها ما لم ترافقها فوة في التعبير وهذا ما يميز الزهاوي، وهذا ما دفعته إلى الطبيعة كي يكون مصوراً يستجيب لألفاظها الخاصة تحت تأثير خاص في الخيال الذي لا يتوقف على قرائن الموضوع، بل يمضي إلى إيجاد نواة لذاته حولها يجتمع كل الإشعاعات التي ترتبط كل منها بالآخر إرتباطاً لا يقبل إلا ما يشتمل على خاصيتي التأمل والإيحاء.

لقد رأينا أن الزهاوي يستطيع أن يبلغ غرضه كتعبير وتصوير وتوصيل بأكثر من تجربة، فرغم أنه لا يرسم من الخارج فحسب، بل ما يملك عليه حسه وخياله ووهمه، فليست مصادفة أن يمنح الشكل أهمية فهو على دراية تامة بأنه المدخل إلى الجمال بجزيئاته التي كل منها تبلغ من الحسن مبلغاً كبيراً، نعم ليست مصادفة فالشكل الجميل يفتح في النفس وأقصد هنا نفس اللوحة ونفس الفنان ونفس متلقيه طاقات جميلة تغوص فيها بعمق شديد وكأنك ماض في حلم طويل ولذي ولا تتمنى الاستيقاظ منه، وهو يميل كثيراً إلى الإنطباعية متأثراً بمفردات مدينته خانقين على نحو خاص والتراث الكردي بكل رونقه وجماله على نحو عام، وإن كان لديه الكثير من الأعمال التي تصنف في باب التجريد أو التعبير، أو متزاوجاً بينهما، أردت هنا أن أقول بأن الزهاوي يحب البحث والتجديد، وله في كل باب أكثر من طرقة جميلة تترك أثره عليه، يحب التنوع الذي يأخذه في الطريق الحر، مستخدماً مقدرته بأوسع معانيها، ينبئنا بالغالب بالشيء الذي يمكن أن نطمئن إليه، ويطمئن هو معنا، فهو يستطيع أن يعبر عما يرى، وكذلك عما في نفسه مؤثراً في نفوس متلقيه بقدر ما يستطيع أن يستوعبه، وبقدر ما يستطيع أن يستجيب إليه، فهو في الحقيقة يرجع إلى أكثر من ركن يسري في عمله والذي يوصله إلى ما هو أهم وفق تحقيق ما يجدي موجوداته لا ما يتسنى له إدراكاته فحسب، بل ما يفرض عليه من إلهامات تدفعه إلى الخلق، وهذا يعزز في حكمنا الذاتي البحث على قيمة أثر من الآثار التي تثبت مهاراته الفنية التي يتمسك بها كثيراً، وهذا لا يتوقف على قيمة الحكم فقط، بل على أخلاقياته وذكائه وطبيعته، أي باختصار هو يعمل بأدوات خاصة تخدمنا جداً في التفسير والتأويل.

عباس الزعتري هو رئيس تجمع الفنانين التشكيليين في مدينة خانقين بكردستان العراق، وعضو اتحاد فناني كردستان / فرع خانقين، وعضو نقابة الفنانين التشكيليين العراقيين، حصل على " درع الإبداع والتميز " على أثر مشاركته في المهرجان الدولي للفنون (الوجه الآخر للفوضى المنتظمة) والذي أقيم في مدينة استانبول بتركيا في اغسطس/اب 2019، له أكثر من خمسة عشر معرضاً فردياً، الأول منها كان في عام 2004 في ديالى / خانقين، وكذلك له العشرات من المشاركات الجماعية في كردستان العراق، وفي داخل العراق وخارجه.