عبد الهادي سعدون .. الرحلة والرسالة

ليس في بال الكاتب العراقي أن يستعيد مجد الخلافة الذي أضاعه الخلفاء أنفسهم، ولا أن يندب حظ الأمير عبدالله الصغير حين رحل عن الأندلس.
لغة الدم التي تطوق عنق العراق جعلت الشاب العشريني يدرك أن "الثقافة" هي حوار الإنسانية الأكبر
سعدون أدرك أنه ككاتب قليل الحيلة أمام ما يحدث في وطنه، ولا يملك إلا قلمه

حل المترجم والشاعر العراقي المقيم في إسبانيا الدكتور عبدالهادي سعدون ضيفا على مصر في الفترة من 30 أكتوبر/تشرين الأول إلى 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بدعوة رسمية من معهد ثيربانتس لإلقاء عدد من المحاضرات بمناسبة افتتاح مكتبة المعهد بالإسكندرية والتي أطلق عليها اسم الشاعر الإسباني الكبير خايمي خيل دي بيدما، والذي ترجم سعدون أعماله إلى العربية.
ولد سعدون في العراق عام 1968، وعنه رحل إلى إسبانيا عام 1993، لم يكن في باله أن يستعيد مجد الخلافة الذي أضاعه الخلفاء أنفسهم، ولا أن يندب حظ الأمير عبدالله الصغير حين رحل عن الأندلس، بل كان ينظر إلى الحاضر بعينيه وإلى المستقبل بروحه التي وجدت في وطن الآخرين وطنا يستحق أن يخلص له. أدرك سعدون مبكرا خطأ الذين توارثوا البكاء على الأندلس، وضيعوا حاضرهم بالعيش بين أطلال التاريخ، يندبون قصر الحمراء وجامع قرطبة، وشوارع طليطلة، زينت لهم أوهامهم، أن أوطان الآخرين تنتظر منهم فتحا أو غزوا بالسيوف أو المدافع، البكّاؤون ضياع  الأندلس، لا يفهمون أنها عادت إلى أصحابها وتم الأمر وانتهى منذ قرون. لم يدرك هؤلاء أن أوطان الآخرين، من الممكن أن تصبح لنا أوطانا أيضا بلا سيف نشهره أو دم نسفكه. 
لغة الدم التي تطوق عنق وطنه العراق جعلت الشاب العشريني يدرك أن "الثقافة" هي حوار الإنسانية الأكبر، يقرر الفتى أن يطوى وطنه العراق في قلبه، ويعيش حياته بشطر قلب؛ قلبه منشطر إلى نصفين، نصفه الموغل في الألم يقبع هناك في العراق، يراقب ما يدور فيه، ونصفه النابض حياة بالكتابة يقيم في إسبانيا، وهو يعيش بالشطرين معا، يمسك بالقلم ليكتب عن/ في إسبانيا، فيخط القلم حكايا وطنه العراق والعراقيين. "من يملك وطنين يكتب برأس منشطر إلى نصفين، أنا دائماً أقول هذه الجملة وأكررها، أنا أمضي برأس منشطر، جزء عراقي وجزء إسباني" هكذا يقول. 

لا أسعى لمجد في الكتابة، ولا أن تُباع كتبي بالآلاف، كل متعتي وهمي أن يذكرني القارئ ولو بكتاب واحد بعد عشرات السنين

أدرك سعدون أنه ككاتب قليل الحيلة أمام ما يحدث في وطنه، ولا يملك إلا قلمه: لا أستطيع القول إنني كاتب إسباني، فأنا كاتب عراقي أحمل الهمّ العراقي، وكل كتاباتي تدور عن العراق وما يدور في العراق حتى لو أتحدث عن مدريد أو مواضيع إسبانية، فأنا أتحدث عن شخصيات عراقية ووضع عراقي متأزم في المنفى، ولا أخرج عن مفردة "الوطن". وضع العراق مؤلم جداً، أن ترى بلدك يُدمر ويُحتل وتدخل قوى أجنبية وغريبة تدمر كل حضارة العراق منذ البدء إلى اليوم، مؤلم جداً ألا تستطيع الحراك أو فعل أي شيء إزاء هذا الوضع، فكل ما بيدي هو الكتابة.
انخرط سعدون في فعل الحياة، يقرأ كثيرا، ويداوم على فعل الكتابة على الرغم من أنه  قليل النشر لأعماله، ويقرر أن يكون حلقة الوصل بين العرب وإسبانيا، ويقيم جسرا لتبادل الثقافة بجهود ذاتية، ويؤسس مع رفيقهِ الكاتب العراقي محسن الرملي مشروع "ألواح" للنشر الذي من خلالهِ قدم صورة مميزة عن المشهد الثقافي العربي والعراقي إلى الأوساط الثقافية الإسبانية. حتى بعد توقف مشروع ألواح، يمضي في الحياة وكل خطوة يقوم بها تسير على نفس النهج الإنساني الثقافي. يكتب ويترجم، وفي فعل الكتابة لا يقيد نفسه بإطار معين، ويصدر عدة كتب في مجال القصة والشعر والرواية وأدب الأطفال تجاوزت عشر إصدارات، والعديد من الترجمات من وإلى الاسبانية، وعلى الرغم من ذلك، لو سألته عن لقب ليسبق اسمه، يقول: هل عليّ أن أختار في أي الأجناس أكتب؟ دائماً ما سألت نفسي السؤال ذاته، وفي كل مرة أجدني أقرب لصنعة الأجداد بالكتابة في كل الحقول الممكنة. من هنا رغبت دائماً أن أصنف ككاتب، بعيداً من التضييق من طرف أو جهة أو حقل. أفضل أن تطلق عليّ تسمية "الكاتب". 
وكذلك على الرغم من قيامه بترجمة أكثر من عشرين كتاباً والمئات من النصوص والمقالات المتناثرة في المجلات والصحف ومواقع الإنترنت، إلا إنه ينفي عن نفسه أنه مترجم محترف، لأنه يختار بنفسه ما يحب ليترجمه دون وصاية من أحد، فهو يرى في الترجمة مشروعا إنسانيا: الحقيقة لا أعتبر نفسي مترجماً محترفاً إطلاقاً حتى لو جابهني كل منْ يعرفني بقائمة ترجماتي الطويلة، لأن تقريباً كل الترجمات التي قمت بها كانت بناء على اختيار من طرفي ولم أجبر على كتاب لا أستسيغه. اختيارات عن حب وقناعة ومن ثم متعة نقلها. لكن الصحيح أيضاً أن أقول إنني أجد في الترجمة هدفاً إنسانياً كبيراً ولا تقل على الابداع نفسه.  

Literary dialogue
أتحدث عن العراق 

نفض عبدالهادي سعدون عن نفسه روح السلبية، وانتظار ما لا يجيء، وقرر أن يكون فاعلا في الحياة العامة والثقافية منذ أول يوم: "ليس علينا الانتظار دائماً ما يقدمه لنا الآخر الذي نعيشه معه وفي بلده، بل لنحرص على أن نتفاعل معه عبر هذه النشاطات المستمرة. أقول هذا وكلي أمل أن يجرب الآخرون من خلال بلدان إقامتهم ما يساهم ولو بنسية قليلة في هذا التعريف وأن لا يتكلوا على الآخر، والأسوأ من ذلك أن يعيشوا في بلد وهم منفصلون عنها ذهنياً وثقافياً كما حال العديد". 
ويخلص لوطنه الذي يقيم على أرضه، فيبادله بدوره المحبة، وتدعوه مدينة مدريد لتمثيلها في المحافل الدولية، ويصبح وجها مألوفا ضمن الوفود الثقافية الإسبانية، ولكنه لا يترك مناسبة إلا وتحدث فيها عن وطن قلبه العراق. يشارك الكاتب عبدالهادي سعدون بفاعلية في المؤتمرات الدولية، ولكنه قليل الانخراط في حقل التصريحات كغيره من الأدباء الذين تغرقهم الأحداث في أوطانهم فتطغى على أحاديثهم في الصحف وشبكات التواصل الاجتماعي، ولكنه تخير شكلا آخر يعبر به عن تغلغل وطنه بداخله أبعد من الكلمات والتصريحات.
القارئ لأعمال سعدون سواء الشعرية منها أو القصة والرواية يدرك على الفور أنه يكتب عن العراق الكامن بداخله. ففي مجموعته القصصية "توستالا" رغم أن الفضاء المكاني للقصص إسبانيا ومدنها، إلا إن روحها عراقية، بشخوصها وأحداثها، وحالة التيه التي تسيطر على قصصها. 
"أتحدث عن العراق والوضع العراقي في رقعتي الجغرافية التي أقيم بها اليوم في إسبانيا وكل مدن إسبانيا ومناخها ولغاتها، ولكن بهمٍّ عراقي وشخصيات عراقية، ففي قصص "توستالا" من العنوان إلى آخر قصة فيها هي قصص إسبانية مئة بالمئة ومن يقرؤها بالعراقي يجدها قصصاً عراقية بحتة، حتى لو تدور في مناخ إسباني، لماذا؟ إنها المزاوجة. أعتقد أن النجاح بشكل أو بآخر هو الحديث عن مواضيع إنسانية دون الوقوع بشرك مسألة الجغرافيا ومسألة الوطن لأن القصص بكل الأحوال هي قصص إنسانية". 
ويكمل قائلا: "العراق بالطبع والغربة والتعلم اليومي من الكتابة هي محور القصص العشر في الكتاب. النصوص أغلبها تدور على ألسنة مغتربين، ولكي أكون أكثر وضوحاً هي عن الحاكي والمحكي له وكلاهما في غربة ومهجر وبعد مكاني عن البلد الأصل (العراق) وفي بلد حاضن هو (إسبانيا) وهنا تتداخل (الأنا) القاصة بالـ (أنات) الحكواتية، فالوضوح في القصد والمكان والوضع يكاد يشعرنا بأن أغلب القصص كأنها تشير وتعني القاص الكاتب نفسه، ولكنها تبقى مع ذلك ضمن اللعبة الحكائية نفسها".
عبدالهادي سعدون، حكواتي يحمل حكايا وطنه بين أضلعه يقصها نثرا وشعرا، ويترجمها إلى لغات الآخرين، حلمه أن يترجم عيون الكتب العربية إلى الإسبانية، ومن أجل ذلك عمل كمستشار أدبي في دار نشر "بيربوم" الإسبانية وساهم في إخراج أكثر من 15 كتابا مترجما إلى الإسبانية ضمن سلسلة آداب عربية منذ عام 2013، ومن ضمنها كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي حصل على جائزة الترجمة الوطنية 2017. وتسعى إليه التكريمات والجوائز، ويحصل على جائزة أنطونيو ماتشادو الشعرية، ووسام الاستحقاق من المنتدى العربي الإسباني، الذي يمنحه الصندوق الشعري العالمي (FPI) سنوياً للشخصيات المؤثرة في إسبانيا من غير الإسبانيين. 
 سعدون في حياته العادية "توستالا" وتعني بلغة قبيلته في العراق "الحكواتي الحر" يسرد القصص كما يشاء، يسمعها عن آخرين، أو يبتكرها، الأهم في هذا كله: أنني أتلاعب بها كما أريد، أضيف إليها وأحذف منها، حرّ في اختياراتي ولا أحد يمكنه أن ينازعني مكاني، لأن حكاياتي لا تشبه حكايات الآخرين، ولا تشبه حكاياتي نفسها التي سأسردها يوم غد.

Literary dialogue
ليس علينا الانتظار دائماً 

قد يجمعك به لقاء، وتندهش لتلقائيته المحببه، يجذبك بحديثه عن فنون الطهي وأنواع (الباييه) وهي الطبق الشعبي الإسباني، ويشرح لك بلا تكلف ما يدور من حولك، وفجأة  ينظر إلى ساعته يترقب العودة إلى "علوشة" أو صغيرته "عليه" التي لا تذهب إلى النوم قبل أن يحكي لها حكاية من كتاب باللغة العربية، أو يحكي لك عن "مايا" الصغيرة وتعلقها به. لا يركض عبدالهادي سعدون، الذي حصل على الدكتوراه مؤخرا، وراء ألقاب أو مجد شخصي، يعتبر فعل الكتابة في حد ذاته حياة جديرة بأن تعاش، ولو بقي مما يكتب شيء في الذاكرة يكون قد حقق حلما غاليا: لا أسعى لمجد في الكتابة، ولا أن تُباع كتبي بالآلاف، كل متعتي وهمي أن يذكرني القارئ ولو بكتاب واحد بعد عشرات السنين. 
من مؤلفات السعدون
ليس سوى ريح، شعر،2000. انتحالات عائلة، قصص، 2002. عصفور الفم، شعر،2006. الكتابة بالمسمارية، شعر بالإسبانية، 2006. دائما، شعر بالإسبانية 2010 (جائزة أنطونيو ماتشادو العالمية للشعر). حقول الغريب، شعر بالإسبانية 2011. مذكرات كلب عراقي، رواية، 2012 (ترجمت إلى الإسبانية 2017). توستالا، قصص، 2014. وترجمة أكثر من عشرين كتابا إلى الإسبانية آخرها "حكايات غجر إسبانيا الشعبية" 2019 عن مشروع كلمات.