عزالدين همت لسان حال دمشق وطبيعتها
عزالدين همت (1938-2020) من أبناء دمشق، فيها ولد وفيها ترعرع وفيها أنتج، لم يكن إبنها فحسب بل كان كل منهما مسكوناً ب/في الآخر، فدمشق لم تغادر أضلعه كما لم يغادر هو أضلعها، ولهذا وعلى مدار ستين عاماً ونيف وهو يسخر ريشته لها، لأحيائها الشعبية، لبيوتها القديمة، لأزقتها، لمعالمها، لطبيعتها، لغوطتيها الشرقية والغربية، لنهرها بردى وما يحيط بها من جمال، فهو بحق أحد أهم رواد الفنانين السوريين الذين رسموا مدينة دمشق بكل تفاصيلها وجمالها، حتى كتب عنه البروفسور الروسي بوكدانوف الأستاذ في أكاديمية سان بتربورغ للفنون الجميلة والمتخصص بفنون الشرق في كتابه الصادر باللغة الروسية عام 1981 تحت عنوان "رسامون سوريون"، واعتبره في طليعة الفنانين السوريين الذين اهتموا برسم الطبيعة والأحياء الشعبية، فهو العاكف على دمشق وتصويرها، بل توثيقها لا مكانياً فحسب بل زمانياً، وبمرور سريع على أعماله وعناوينها (سوق الزرابلية وحمام الراس، حارة حمام سامي، مطعم فول بوز الجدي في سوق الجمعة، الربوة وجسر على بردى، جامع الشيخ محي الدين، باحة دار العرند في باب الشاغور، زقاق الحمام، الراعي في غوطة دمشق، من حديقة التكية السليمانية، القاعة حي الميدان، الشاغور الصمادية، زقاق الحنابلة الشيخ محي الدين، جامع الصابونية السنانية، قاسيون والغوطة، حارة الورد ساروجة، بساتين العدوي، ... إلخ ).
سندرك إلى أي حد وأي مدى كان عاشقاً لدمشق، حاملاً أدواته من ريش وألوان وكل ملحقاتهما، متنقلاً بين مفاصلها ملتقطاً ياسمينها وتأثيرها عليه وعلى الدمشقيين جميعاً وعلى كل من يتلحف عطرها، مبرزاً كنوزها كمادة حية للمعرفة الفنية وبأشكال جديدة للتجسيد الفني وبما يلائمها، مستكشفاً منابع الجمال فيهاً، وحالاتها المثيرة للدهشة وغير العادية، مستكشفاً عناصر وقوى العالم الموضوعي المحيط بها وأهميتها كظروف مؤثرة على ريشته، فهو لا يلغي شيئاً منها مؤكداً أنه كفنان لا يمكن أن يعيش في مجتمع ويكون مستقلاً عنه، لهذا كان لهذا المجتمع، لهذا الوسط، لهذه المدينة ( دمشق ) تأثيرها المباشر عليه، على شخصيته كإنسان، ثم عليه كفنان، وهذا ما يمكن أن نلمسه في تصويره الواقعي للمكان والإنسان.
يثير عزالدين همت بإمكاناته الفنية، ومن خلال العملية الإبداعية المتمثلة في بناء العالم الفني تصورات تستند على وظائف تعبيرية فنية متعددة، تشكل ألوانه وريشه فيها كأدوات لسرد عوالم فكره ونفسه وقلبه ونشاطه الإجتماعي في الوسط المحيط وفي الزمان والمكان، فهو يشير بذلك وبوصفه فنان تشكيلي يسعى لتصوير المكان والناس في حالة من الحركة المستمرة، لا سكون فيها، وربما هنا يكمن سر قدرته على الإضاءة الفنية للحياة التي تشمل كل جوانب الواقع الإنساني بعلاقاته المترابطة والمتبادلة، وكأنه يلتقط مقولة مكسيم غوركي بأن عين العالم المبصرة كل شيء، العين التي ينفذ شعاعها إلى المكنونات الدفينة لحياة النفس الإنسانية، ويترجمها في الأشكال المختلفة لتجلياته أقصد لأعماله، أعماله المبدعة التي فيها تتجلى مجمل خصائص الواقعية كمنهج فني يحدد طبيعة تعبيراته مستخدماً كافة الوسائل والإمكانات المتاحة له لعكس الواقع بشكل فني متميز، بسماته وخصائصه محققاً وظيفة إتصال لها مقدرة عالية على الخلق، لها مقدرة النفاذ إلى جوهرها والوصول إلى أسرارها من خلال رسم علاقة بين هذا الداخل وما عليه أن يخطه في الخارج، على السطوح مظهراً حقيقتها، حقيقة حياتها، واضعاً في إعتباره هذا الخيط غير المرئي بين السطوح والأعمال كي ينبض على مدار القراءة.
وإذا كان الروسي نيكولاي تشير نشيفسكي ( 1828- 1889 ) يستخدم في أشكال الحياة ذاتها، في أشكال الحياة الواقعية ذاتها لا كسمة للواقعية بل كحقيقة أكيدة تميز كل تصوير فني، فإن عزالدين همت يستخدمها إضافة إلى ذلك كإطار للعالم الواقعي الذي سيضفي سماته وملامحه على عالمه هو، فهو يحمل كل تصوير فني للحياة طابعاً نابعاً من طبيعة الفن ذاتها كإنعكاس فني للواقع، وتظهر الكثير من هذه الأشكال الفنية في تجربته الغنية، فهو يكاد يكون الذاكرة الإجتماعية والحياتية لدمشق وأهلها، دون أن يهدر بمخزونه الفني كشرط لإحيائها وتوثيقها، ودون أن يفقد من عمله مفرداتها الجمالية، فتجربته تحتفض بمغزاها الفني والحياتي العام معاً.
يعير عزالدين همت إهتماماً كبيراً لقضايا الواقعية مؤكداً على فكرة إرتباط الفن على نحو وثيق بالحياة، ولهذا كان حريصاً على أن يبقى أميناً لذلك، وما تجوالنا بين أعماله التي تستحق أن تكون بحق لسان حال دمشق حينها إلا توكيداً على ذلك، يدرس المكان بداية ثم يعطيها الروح حتى يبدأ بجمعها مع كل ما تبعثر تحت سوط الزمن، لا يزيف ما يراه، مدركاً أن للطبيعة أحاسيس تستحق أن تؤخذ بالحسبان وهو يتقدم بالخوض في رسمها، وكان مجتهداً في صياغة ذلك، مجسداً إياه بحالاتها التي لا تقف عن العزف.