عز الدين نجيب وحوار الثمانين

الفنان التشكيلي والناقد المصري يتساءل في زمن الكورونا: من لديه شهية لاقتناء لوحة يزين بها منزله، وهو غير مطمئن على حياته وماله اليوم قبل الغد!
نقابة التشكيليين، والجمعيات الفنية، لا تقوم بدورها في بلادنا، لا في زمن كورونا ولا فيما سبقه
"كرتونة غذاء رمضانية" تفجر أزمة في نقابة التشكيليين المصرية

لكونه صوت الحكمة والثورة معًا في الساحة التشكيلية في مصر، وهو الذي يجمع المبدعون بل والكُتاب والنقاد على احترام رأيه، ولاسيما بعد بلوغه الثمانين مؤخرًا، فقد رأيت أن أجلس إليه وأطرح عليه الأسئلة والهموم الشاغلة لمعظم الفنانين التشكيليين في مصر، وأن أبدأ بسؤاله عن دور الفنان التشكيلي، اليوم، في زمن الكورونا، زمن التباعد الاحتماعي والحظر، فقال: إن دوره يجب أن يتمثل في إشاعة الطمأنينة بين الناس، وتعويضهم عما تفرضه هده الجائحة من عزلة واكتئاب، بمنحهم قدرًا من رقة المشاعر، وروح التفاؤل من خلال همس الألوان والأضواء والظلال والخطوط والمساحات والأحجام، واستخلاص قيم الجمال من قلب القبح، وقيم الخير من قلب الشر،  والانتقال من ذلك إلى تأمل معانٍ وجودية فيما وراء الطبيعة والكون.
وكيف يمارس الفنان هذا الدور؟
يؤكد عز الدين نجيب أن مهمة توصيل هذه الرسالة إلى المجتمع تقع على عاتق الدولة، والمؤسسات الأهلية المرتبطة بخدمة الإبداع الفني، كنقابة التشكيليين، والجمعيات الفنية، لكنها للأسف لا تقوم بدورها في بلادنا، لا في زمن كورونا ولا فيما سبقه! وذلك لأن الدولة لا تعتبر رسالة الفن التشكيلي ضرورة من ضروراتها إلا شكليًا فقط، بتخصيص جهاز حكومى بلا أي استراتيجية عمل في الحاضر أو المستقبل، ومن ثم، فهي لا تبالي حتى بفتح المتاحف الفنية المغلقة منذ سنوات بعيدة تصل في أحدها، وهو أهمها، إلى ٣٠ عامًا، وتلك مجرد عينة من بين عشرات الحالات الأخرى التي يضيق المقام عن ذكرها، وهي تدل على تخلي الدولة عن دورها الجوهري، لا الشكلي، الذي كانت تمارسه في الماضي بوعي وإخلاص.
وعندما أسأله عن نقابة التشكيليين والجمعيات الأهلية يجيب: دع عنك جانبًا الجمعيات الأهلية، فهي "كانتونات" تعاني العزلة، ونضوب الموارد والتجاهل الرسمي والعوز إلى التمويل والمقار لممارسة نشاطها، فوق حصارها المزمن بالبيروقراطية والشكوك في نواياها، دون اهتمام ملموس بمساعدتها من قبل الدولة، أو من جانب رجال المال والأعمال، بعكس ما كان يحدث منذ قرن مضى. إلى جانب مشكلات أخرى من داخلها، أهمها انكماش روح العطاء والعمل التطوعي لدى الفنانين والمثقفين، لكونه عطاءً مجانيًا، وبلا عائد معنوي، حتى بات أغلبها اليوم في حال أشبه بالموت السريري.

إضفاء المتعة والسعادة والطمأنينة على نفوس الملايين في محبسهم الاضطراري، بأن نجعل متاحف الفن ومعارض الفنانين تنتقل إليهم، لا أن ينتقلوا هم إليها

أما نقابة التشكيليين فيرى أنها "كذلك في غيبوبة سريرية منذ قرابة عقد من الزمن، وعندما دبت الحياة فيها من جديد، بعد النجاح في إجراء انتخابات شملت النقيب ومجلس الإدارة، بعد سنين طويلة من تجميد الحياة النقابية، جاءت النتيجة مخيبة لآمال ألوف الأعضاء بعد أن أعطوا أصواتهم لمن توسموا فيهم خيرًا، ولكن ما حدث هو العكس، وتم ذلك بسرعة قياسية غير مسبوقة"، موضحًا: "أي بعد أقل من شهرين اثنين، حيث عجزوا عن تقديم برنامج عمل أو خطة أو أى مشروع للنهوض بأوضاع الفنانين، وكان أهم إنجازات النقيبة المنتخبة، في أعقاب انتشار فيروس كورونا وتضرر الاوضاع الاقتصادية لكثير من الأعضاء من جرَّاء الحظر وعدم وجود مرتبات أو دخول ثابتة لهم، هو قبول تبرع من إحدى جمعيات سيدات الأعمال العرب، عبارة عن عدد من "كراتين" المواد الغذائية المعروفة، كإعانات الصدقة في الأحياء الفقيرة، ونشرت السيدة النقيبة صورتها بجوار "الكراتين" وهي تبدو فخورة بإنجازها، وعندما تصدى لها الزملاء بالنقد والاستهجان لما سببته من إهانة لكثير من الأعضاء والنقابة، هاجمتهم بعنف، ووصفتهم بأعداء النجاح!
 ويمكن تلخيص ما تقوم به سيادتها في أنها تعشق الظهور والأضواء، وتعادي العمل الجماعي وروح الفريق، ولا تطيق اختلاف الرأي معها، وتؤمن بدور واحد وهو دور العلاقات العامة، وهو في نظرها الذي يأتي بالتبرعات التي تحتاجها النقابة!
 وحتى هذه لا تبالي بمناقشتها ووضعها ضمن خطة تراعي أولويات الأعمال التي تنفق فيها."
وعن دور مجلس الإدارة يقول: في مقابل استبداد النقيبة برأيها وافتقارها إلى الحد الادنى من الممارسة الديمقراطية. انقسم أعضاء المجلس، بين أغلبية تابعة لها، مستسلمة بالمسايرة، أو بالصمت، وأقلية معارضة تحاول إبداء رأيها المعبر عن مطالب القاعدة العريضة من الأعضاء، ومنها أمور تتعلق بالتحقيق في قضايا فساد مالي، إلى حد قبول "كراتين" المواد الغذائية، أو تتعلق بمشروعات تنموية يحاول بعض الأعضاء طرحها للمناقشة دون جدوى، وقد بلغت مصادرة حقهم في إبداء الرأي على مائدة الاجتماعات درجة قمعهم وتأنيبهم، وكأنهم تلاميذ، دون احترام كبر سنهم، أو مكانتهم الفنية والعلمية، الأمر الذي أدى إلى أن يقدم بعضهم بلاغا إلى النيابة العامة حول مخالفات مالية وإدارية، لكن رفض النقيبة تمكينهم من الاطلاع على المستندات التي تثبت أقوالهم (عملا بحقهم القانوني) جعل النيابة تأمر بحفظ التحقيق، مما أثار جموع الأعضاء، وشكل رأيًا عامًا معارضًا للنقيبة والمجلس السلبي، وطالبوا ولا يزالون عبر منصات التواصل الاجتماعي وموقع النقابة الرسمي، بسحب الثقة منهما عبر جمعية عمومية غير عادية يجمعون التوقيعات لعقدها عقب إجازة عيد الفطر المبارك، فماذا كان رد فعل السيدة النقيبة؟

قامت بعمل "بلوك" لكل من انتقدوها، أو اعترضوا على أسلوبها ودعوا إلى سحب الثقة من المجلس ومنها على موقع النقابة ومواقعهم الشخصية. فهل نتوقع من مثل هذا الوضع النقابي إنجازات ذات قيمة؟
وأعود لأسأله: ولكن النقيبة والمجلس لم تتح لهما فرصة زمنية كافية لعمل شيء، لا سيما وأن انتخابهم أعقبه مباشرة تفشي الكورونا، مما أدى لإغلاق النقابة ضمن حالة وقف الأنشطة العامة، فضلًا عن أنهم ورثوا وضعًا صعبًا من ضعف الموارد المالية، وضآلة المعاشات، وقلة الخدمات التي تقدمها النقابة للأعضاء، مما استدعى أن يكون السعي لجمع التبرعات في اولويات النقيبة.
فأجاب: ومن الذي يعترض على ذلك؟ المهم أن تجمع بشكل يليق بكرامة الفنانين، لا بجمع الكراتين!
إن النقيب الذي يستهل عمله بذلك يجعلك تقرأ عقله بسهولة، وتدرك إلى أين يقودك! فهو مؤشر بالغ الدلالة على فكر جزئى ضيق الأفق لا يليق بنقابة ذات دور حضاري مرموق، فكر يعجز عن القبض على عصب المشاكل مكتفيًا بالامساك بشواشيها، ولا يستطيع ايجاد الحلول الكفيلة بحل تلك المشاكل انطلاقًا من كونها حقوقًا مشروعة للفنانين ينبغي أخذها بكرامة تليق بهم، وقد سقت كثيرًا من أمثلة هذه الحلول ردًا على فضيحة "الكراتين"، ومنها تطبيق قانون تحصيل نسبة ٢% من مبيعات أعمال الفنانين المعروضة بقاعات العرض لصالح النقابة، وهي تقدر بالملايين منذ صدور هذا التشريع، الذي لم ينفذ حتى اليوم، حيث يبلغ ثمن العمل الفني الواحد لبعض الفنانين رقمًا تلحقه خمسة أصفار، ولو طبق لكانت نقابتنا من أغنى النقابات، ولما كانت قيمة المعاش الشهري للعضو هي ٧٥ جنيها! 
وهذا باب واحد من عشرات الأبواب التى يمكن الدخول منها لزيادة موارد النقابة، وقد سبقت لي الإشارة إليها دون أن تهتم النقابة بمناقشتها!
وأحاول التخفيف من تأزم الموقف فأقول له:  ربما تحتاج هذه الحلول إلى وقت لا يتوفر في الظروف الحالية؟ فيقول: المهم فيمن يمثل الفنانين ديمقراطيًا أن يقبل مبدأ تعدد الرؤى، وقبول الرأي الآخر، والتحاور معه، فما العمل والنقيبة لا ترى في أي رأي مخالف إلا أنه مؤامرة عليها من أعداء النجاح؟!
فأين المؤامرة فيما يطالب به بعض أعضاء المجلس للكشف عن إيصال هيئة البريد الذي كبَّد ميزانية النقابة آلاف الجنيهات لإرسال خطابات إلى الأعضاء؟
أليس في الكشف عنه تبرئة للنقابة من التهمة بأن الخطابات لم ترسل أصلا؟
وأين المؤامرة في المطالبة بإظهار المستندات الدالة على حصول النقيبة على موافقات الجهات المختصة لقبول تبرعات خارجية، وعلى بنود إنفاقها؟
وأقول له: إنك تنفي قيام النقيبة والمجلس بعمل أية إنجازات مهمة لصالح الاعضاء، ألم تعلن النقابة عن تنظيم "معرض أون لاين" لأعمال الفنانين بغرض التبرع بعائده للنقابة كي تساعد به الأعضاء في مواجهة تبعات الأزمة الحالية؟ فيجيبني: هذا في حد ذاته كافٍ كنموذج للبروباجندا الجوفاء بلا عائد يذكر؛ فهم يعرفون أولًا أن سوق الفن متوقف تمامًا في ظل الجائحة لأسباب نفسية ومالية ليست بحاجة إلى إيضاح، فمن الذي لديه الآن شهية لاقتناء عمل يزين به منزله او حتى ليستثمره وهو غير مطمئن على حياته وماله اليوم قبل الغد! 

fine arts
قدر من رقة المشاعر

ثانيًا: حتى إذا وُجِد مَنْ يشتري.. فمن الذى يدفع مبلغًا كبيرًا ثمنًا لنسخة ورقية من طبعة يدوية "رقم ٩" على سبيل المثال حتى لو كانت موقعة من فنان معروف.. وهو ما يمثل نسبة من الأعمال المقدمة للمعرض.. وحتى لو كانت الأعمال لوحات زيتية لأسماء غير معروفة في سوق الفن، فلن تجد من يشتريها، لأن أغلب المقتنين يدفعون عشرات الألوف من الجنيهات لأصحاب الأسماء الشهيرة.
 أما غير ذلك فقد يشتريها أبناء الطبقة الوسطى بأرقام متواضعة، وهم أساسًا يعانون اليوم أزمة اقتصادية طاحنة في ظل كورونا، ويفكرون في احتمال إفلاسهم الوشيك كأصحاب أعمال، في حال استمرار الأزمة أسابيع أخرى، وليس شهورًا، وإذا كانوا في وضع أقل اقتصاديًا فهم يفكرون فى ضرورات الحياة، وليس في اقتناء اللوحات، فماذا يجدي، إذًا، مثل هذا المعرض أكثر من نشر عناوين صحفية براقة، وأخذ "اللقطة الإعلامية" للمنظمين من محبي الظهور؟!
* عودة إلى بداية الحوار.. ماذا كان يمكن للنقابة فعله من دور في ظروف الجائحة التي يعيشها الناس الآن؟-
- إنه دور معنوي مهم، وهو التنسيق بين النقابة ووزارة الصحة، ووسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي لإمداد المستشفيات التي يتم فيها العزل الصحي، وقنوات التليفزيون، وأصحاب المواقع الإلكترونية المحاصرين جميعا في بيوتهم أو في المستشفيات، وفنادق العزل بفيديوهات للأعمال الفنية التي تحمل طاقة ايجابية تسمو بالمشاعر، كما سبق أن أشرت في بداية هذا الحوار، مع نبذة بسيطة عن الفنانين ومدارسهم الفنية من مختلف العصور، وبذلك نصيد عصفورين بحجر واحد: الأول: إضفاء المتعة والسعادة والطمأنينة على نفوس الملايين في محبسهم الاضطراري، بأن نجعل متاحف الفن ومعارض الفنانين تنتقل إليهم، لا أن ينتقلوا هم إليها. والثاني: أننا كفنانين سنستمد قيمة معنوية واعترافًا من المجتمع بوجودنا وأهميتنا في حياته، وهذا هو مفتاح الخروج من أزمة الفن في مجتمعنا على امتداد تاريخ الحركة الفنية.. وللأسف فإن هذا المفتاح لم يستخدم في يوم من الأيام!!