عمران شيخموس يضبط متطلبات الحالة قبل خروجها عن حدودها

التشكيلي السوري ابن عامودا يهتم إلى حد كبير بالفجوات بين المرئي واللامرئي من جهة وبين الشكل والواقع من جهة أخرى، وهذا قد يوفر له ولنا مدخلاً إلى ثيمات وأفكار هي الأبرز في أعماله.

بينت في مادة سابقة عنه، قبل عدة سنوات حملت عنوان "عمران شيخموس والتدافع نحو مشهدية العمل "، ونشرت حينها على صفحات كل من الصدى نت وصحيفة كردستان، بينت فيها ما كان لديه من مطامح أساسية تجلت في رؤيته كشيء إيجابي مشتق من مقتضيات الحالة الفنية عنده، وأشرت حينها إلى آماله التي كانت ومازالت تتحرك وفق أشكال مختلفة من الفعل الجمالي، إن كانت على مستوى الفاعلية الفنية التي كانت تهدف بدورها إلى تبيان أهمية التوجه نحو توضيحات تراثية، تاريخية تلخص أفكاره، أو كان على مستوى الممارسة التي بها كان يتناول التحولات الأساسية بغنى موضوعاتها.

 وما أريده من هذه المقدمة هو أن أستكشف كيف غدت رؤية شيخموس بعد هذه السنوات وفي هذا العالم المتبدل، هل لا يزال ينزع بها، أقصد برؤيته إلى كل ما من شأنه يرفع جرعات تفاؤله بعيدة عن أي من المطبات التشاؤمية، فهو قد تمكن حينها من تقديم بعض من أبرز تبصراته في طبيعة الضبط الفني والجمالي حاسماً في إحداث تغيير ما، وهي بالنسبة له ليست عسيرة، فهو يفضي شيئاً فشيئاً إلى ما ينبغي أن تكون عليه نظرته، وهي تنازع تدريجياً لتحل داخل ظلاله، فتكون أكثر دقة، وأكثر رهافة في بناءاتها حول علاقاتها وبين مجالاتها المختلفة، فيتناول واحدة بعد أخرى حتى يدفع بها جميعاً صوب ضروب محددة قائمة على التركز الزائد على تلك السمات الأساسية التي تميز أشكاله الجديدة، وبذلك فهو يلعب دور الضابط لمتطلبات الحالة التي ترغب الخروج عن حدودها، أقصد حدود ذاتها، وهنا سيبدو العمل الفني بحد ذاته بعيداً عن الاستفزاز واللاسيطرة، فهو مرسوم بأسلوب تعبيري رشيق، فيه من التجريد ما يجعلك أن تتناوله بمقدرة عالية وأنت تلملم أفكاره من جوهره، وعلى الرغم من كل ذلك فهو يكشف للذوات طرقاً للتعامل مع بعضها بعضاً، وبمعناه الواسع يكشف النقاب عن موضوعات إنسانية أقل ما يقال عنها بزوغ الحياة وأسلوبها، بزوغ النظرة التي ترى إلى العالم على أنه مؤلف من أشياء تشمل الموضوعات الآنفة الذكر.

لا يجب أن نغض الطرف عن إستكشافاتنا لبعض الأفكار الأولى التي اشتغل عليها عمران شيخموس، والتي تطورت فيما بعد حتى غدت في أعماله أساساً يتيح لنا كقراء بعضاً من التبصر في البيئة الفكرية والإجتماعية والثقافية التي انبثقت منها تلك الأفكار التي يضعها في سياقها الجمالي، فهو يهتم إلى حد كبير بالفجوات بين المرئي واللامرئي من جهة، وبين الشكل والواقع من جهة أخرى، وهذا قد يوفر له ولنا مدخلاً إلى ثيمات وأفكار هي الأبرز في أعماله، كتوسيع مفهوم ذبول الفرد في المجتمعات التي كانت قائمة على الفردانية، مع الإشارة إلى تلك التحولات التي قد تظهر في عمليات الإنتقال من جيل إلى آخر، فشيخموس يلقي الضوء على قضايا كانت تحتل مكانة مركزية يوماً ما، ويترك أثر ذلك على مجمل أعماله، فهو من جهة يلقي الضوء على الحاجة المتنامية لديه ولدى أبناء جلدته إلى الحياة، إلى الأمكنة والشخصيات التي تؤلف وتسجل يومياته، بتاريخه وميثاقها، وما تحمله من إحالات مرجعية يغلب عليها ما تقربه من التخيّيل الذاتي، ومن جهة أخرى يصور تلك الممارسات التي تنطوي على موضوعات عن الذات الإنسانية وهي في أشد نشاطها وفي أعمق فعلها وفاعليتها.

والحال وتبعاً للكيفية التي ينظر بها شيخموس في تقديم افتراضاته، فإنه يقرر بنظرات إسترجاعية قاتمة ما الذي كان عليه القيام به وما الذي لم يكن، وبإعتقادي أن الأهم هنا ونحن نمعن، بل ونحن نبحر في أعماله أن نعتبرها نتاجات لسياقات حياتية منتجة، حتى تستيقظ من ألوانها، الألوان بوصفها كلمات ومعان وأصوات، وتوقظنا ونحن نسرد الحكاية بتفاصيلها وجزيئاتها طيلة سنوات الحلم، وتشعل فينا كل التبصرات التي قد تلد في سياق تشكلها، فعلينا أن نتذكر على نحو دائم كيفية تبدد الإنفعالات وهي تتصالح مع ذاتها ومع تلك الفطنة المتقدة في تلك الخطوات المصانة التي ستوصل شيخموس إلى ما يمكن أن نسميه تموجات لونية مموسقة، تمضي تدريجياً نحو لغة يستطيع بها اأن يوصل تجربته الخاصة بمنتهى القوة النافذة مع التصوير الدقيق للتفاصيل الدقيقة إلى أسمى منازلها، ومن المسلم به أنه في كثير من الأحيان وهو يمضي بتعبيراته تلك بمنتهى دقتها حتى تعتريه نوع من الإستعانة الإضطرارية لخاصتي الارتفاع والانخفاض في الصفة الصوتية لمقاطعه اللونية وما فيها من حركات وسكنات تثري إيحاءاته وتثير في الخيال صوراً خاصة كأن يجمع في وقت واحد التعبير والتصوير والتوصيل، وهذه تسجل له، وتجعله ينقل تجربته إلى الآخرين كتفاهمات جزئية مع الرأي الذي يتبناه ضمن الفضاءات المغلقة والفضاءات المفتوحة على حد سواء، ويواصل بثقة وحزم، وغير مبال بمشقة الصعود، ولا بثقل العبء، يواصل ضمن مسؤوليته الإنسانية في البحث عن عوالم جديدة تخرجه من مكان العتمة، وتدخله إلى منطقة التحقق الفعلي وملامسة جملة النتائج التي ستساهم في كسر الكثير من القيود وزحزحتها من طريقه، ومن قفص ذكرياته، فيبتدع مرويات جديدة، بزمنها وشخوصها، وكائناتها وحكاياتها، وبرؤية فنية جديدة تجعلنا نهتم بهذه التجربة وننظر في طاقاتها الإبداعية ونحدد سماتها الأساسية والتي يمكن اختزالها بأنها مجموعة من الوقائع صنعها كائناته والتي تؤسس لحكاية تتصل بالخلق وتروي على نحو دائم كيفية ظهورها إلى الوجود بكل شيء من أشيائها، وبكل عنصر من عناصرها، وفق إرادتها، تتحرك، تذهب وتجيء، تتحول وتتبدل حتى تمثل الحقيقة الأزلية بكل ضعفها وقوتها بأن الإنسان هو محور العالم حوله تحوم أغلب هذه الأعمال، وحوله تتعدد الأساطير حتى يجد فردوسه المفقود.

عمران شيخموس منذ أن ولد في مدينة عامودا (1967)، المدينة الغافية على الحدود التركية بحزن، بمكنونات تترك أشد الأثر على قلوب أبنائها على نحو عام، والراحلين عنها رغماً عنهم على نحو خاص، المدينة التي ساعدت على الانعتاق الإنساني على مر التاريخ، ولهذا تنبض بالحب والشعر والموسيقا والفن وكل شكل من أشكال الجمال، المدينة التي باتت غريبة الآن عن نفسها، راحت تسيطر عليها الرماد بصورة متزايدة، وتقارع الحياة على نحو متعاظم، وكأنها تردد مع جبران خليل جبران؛ "أهذه هي الحياة التي كنت أركل بطن أمي لأجلها".

أقول منذ أن ولد عمران شيخموس في هذه المدينة وهي قبلته وقبلة أبنائها الذين باتوا مبعثرين في جهات الأرض العشرة، فهم طوال الوقت يحاكونها كشيء مهم في حد ذاتها، ويستحوذون عبرها بذاكرة تمضي بهم نحوها، درس في مدارسها، لينتقل إلى دمشق بعد حصوله على الثانوية العامة، لينتسب إلى كلية الفنون الجميلة فيها، الفرع الذ يحرك شغفه للحياة، وبعد عام دراسي تأتيه منحة دراسية من الاتحاد السوفياتي آنذاك، فيترك دمشق ليتوجه إلى كازخستان احدى الجمهوريات السوفياتية آنذاك، ويتابع دراسته، لكن هذه المرة بإختصاص آخر، هندسة نفط وغاز، ليتخرج منها عام 1995، ولكن بقي الرسم عشقه الذي يرسل الروح فيه، فبقيت الصِّلة الداخلية بينهما، وبقيت العلاقة في أوج شروقها، لهذا اشتغل كثيراً، وبقيت الريش والألوان ينبوعه العذب، منه ينهل حتى يطفىء ظمأه وغليله، اشتغل على نفسه كثيراً وما يزال، حتى بات يفرض نفسه على الآخر ويرغمه على الإصغاء والمشاهدة، قدم معارض سنوية مشتركة مع فنانين من كازخستان وروسيا وعلى نحو أخص في أعياد نوروز، وكذلك قدم معرضاً في فيليج بدسلدورف، وفي متحف الفن الحديث في قبرص عام 2020، ويقوم الآن بتحضير لمعرض آخر في نوروز 2024 في كل من كازخستان وجورجيا.