غادة فؤاد السمان تؤكد أن الثقافة اللبنانية تشهد تراجعًا مريعًا

ما يحدث في لبنان رسالة مباشرة صريحة وواضحة للرئيس سعد الحريري الذي اعتذر لسوريا وحاول أن يقدم لها شيئًا من بياض روحه وقلبه.
الثقافة في لبنان كأنما قدّر لها أن تدخل الثلاجة، أو كتب عليها الإغماء القسري حتى إشعار آخر
الدولار كان قديمًا سيد الموقف والراعي الرسمي لجميع الأدمغة والضامن الوحيد لاستمالة كافة الأقلام

منذ أكثر من عشر سنوات والكاتبة السورية غادة فؤاد السمان لم تبرح العاصمة اللبنانية بيروت؛ فقد اتخذت منها مقرًا دائما لإقامتها، وبينما كنت أهاتفها الثلاثاء الماضي لمست مدى الحزن والأسى بل والرعب الساكن نبرات صوتها، مما أقلقني فاستفسرت منها فقالت "إن انفجارات مدوية في مرفأ بيروت أودت بحياة نحو مائة مواطن وأصابت الألوف وغيبت مثلهم عن ديارهم وأسرهم وقد تضررت البنايات والواجهات في المدينة، وعلت تلال الزجاج وحطام التفجيرات في أكوام فوق سطح الأرض".
وعن تجربتها الشخصية كإنسانة وكاتبة مع هذه الكارثة قالت: الصدمة الحقيقية لا ندرك وقعها فور الكارثة، الصدمة الحقيقية تكون لما بعد، هذا الصباح أشعر أني ناجية من براثن الموت التي طالت العشرات، أشعر أني سليمة من الشظايا التي مزّقت الآلاف، أشعر أني كائن مذهول، عاجز، هش، فزِع، مكسور، ملتاع، مخنوق، خائر، وخائف.
 نحن في بلادنا نعيش الخوف كقدر لا بد منه، نخاف أن نفكر، نخاف أن نعلن، أن نتحدث، أن نناقش، أن ننتقد، أن نعبر، أن نلعن، أن نتمرد، ومع هذا كله فالخوف الباهظ، أحاول أن أجمعه دفعة واحدة ليصير درعًا أو ترسًا أو مدماكًا، ومن خلفه أشهر قلمي كسيف يمزق حجب الظلم والظلام ما بوسعه؛ فتارة أظن نفسي فارسة، وتارة أحسبني قتيلة وأعاود تجددي كي لا استسلم لما يحطمني كإنسانه أولُا وكمواطنة تفتقد إلى مفهوم المواطنة سواء في وطنها الأم "دمشق" أو وطنها المستعار "بيروت"، "بيروت" اللؤلؤة التي نخرها السوس والسياسية والسماسرة والفاسدين، والانفجار الاجتماعي المتفاقم والمتوقع منذ أشهر، لم نكن نأمل أن يكون على الشاكلة المريعة التي حصلت بعد ظهر أمس، صدقا لو قدر لهوليود أن تخترع مشهدًا مروعًا لما استطاعت أن تقارب الواقع ولا ذرة تذكر.
المشهد كان أشبه بالقيامة؛ كنت أودّع الحياة في لحظات، أتشهّد ما بوسعي ظنًا أنه زلزال مدمر. والمبنى الذي تأرجح بي على وقع العاصفة التي أطاحت بي وبكل من دخلت بيته ستجعل مني مجرد رقم تحت الأنقاض.

ظهرت نماذج جديدة للأدباء الجدد حيث لا هوية ولا قضية ولا عناوين عريضة ولا ماهية، مجرد ألفاظ ولعب على الأبجدية التي وجدت عبر وسائل التواصل ضالتها!

كم هي الحياة هزيلة وسخيفة، وكم أرثي لأولئك الذين يعرفون الحقد والسخط والغل لو أنهم يدركون أن الإنسان لا شيء؛ مجرد مشيئة إلهية تحركنا بإرادتها وتعلينا بإرادتها وتكسرنا بإرادتها وتنهينا بإرادتها، لكانت الأرض تعم بالخير والامان والبركة.
وعندما أبادر بسؤالها عن تقديرها الخاص لكيفية حدوث هذه التفجيرات، ومن الذي يقف وراءها؟ وهل لها علاقة بإعلان القضاء لأسماء المتهمين في قضية اغتيال رفيق الحريري؟ ترد قائلة: ليس بوسعي الإدّعاء أنني على بيّنة أو دراية أو منطق لتأويل ما حدث كخبيرة عسكرية، ولكن لو حاولت مقاربة الأمر من باب التداعيات، لوجدتُ الربط اليسير بين الماضي القريب جدًا وما صرّح به نتنياهو منذ أقل من شهر أو أكثر بقليل، أن إسرائيل ستوجع لبنان من شماله حتى أقصى جنوبه بضربة مدوّية تزرع الرعب في قلب الجميع، توعّدا بحزب الله الذي تأهبت لأجله وزرعت كامل عِددها وعتادها العسكري منذ أيام تحسّباً من ضربة مرتقبه فوق الأراضي المحتلة من حزب الله، الذي فقد أحد قياديه فوق الأراضي السورية بغارة إسرائيلية، ولدى نشر صور التأهب الكامل في صفوف العدو صار المتوقع لدى الجميع أن إسرائيل لن تكون بحالة دفاع بل ستكون بحالة هجوم، والواضح أن الخطة الإسرائيلية كانت أخبث من كل التوقعات، فالضربة الموجعة لم تكن في الجنوب ولم تكن على الضاحية الجنوبية لبيروت خشية تعاطف اللبنانيون مع سكان الضاحية التي عرفت تفاصيل النكبة في حرب 2006، فضربت إسرائيل بيروت ضربتها الغاشمة لعدة أهداف مجتمعة؛ أولها لتترك بصمة على كامل الخرائط والخطط والخيارات العسكرية أمام حزب الله.
 ثانيًا رسالة مباشرة صريحة وواضحة للرئيس سعد الحريري الذي اعتذر لسوريا وحاول أن يقدم لها شيئًا من بياض روحه وقلبه.
 ثالثًا ضمان نقمة اللبنانيين السنة والمسحيين على حد سواء تجاه حزب الله، وزعزعة موقفهم التضامني مع المقاومة، وتمردهم على منطلقات الصمود والتحدي للغطرسة الإسرائيلية، ناهيك عن أن هذه الضربة فعليًا قد أوجعت الجميع؛ فالشهداء من مناطق مختلفة من لبنان وهم عابروا سبيل أو عمال أو موظفون في بيروت وذووهم إما في الشمال وإما في الجنوب أو في الجبل، وهكذا طال الوجع لبنان بأكمله دون استثناء، كما وعد نتنياهو في تصريحه حول الضربة الموجعة.
بقي الإشارة إلى أن الإهمال والتسيب والاحتفاظ بمواد خطيرة تهدد أمن عاصمة برمّتها هو شراكة حقيقية في إعدام بيروت والتسبب بحدوث ما جرى، وهذا التسيب وتلك المواد التي لم يصرح حزب الله أي تصريح حول مرجعيتها سواء كانت تخصه أو لا تخصه، حتما إسرائيل تعلم علم اليقين عن تواجدها ولكن إسرائيل التي تدس أنفها في جميع الحيثيات التي تخص لبنان استغلت هذا الإهمال والتسيب لصالحها واعتمدت بإحداثية صغيرة على ضربة واحدة تغني عن عشرات أو مئات الصواريخ باستهداف العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت وكان ما كان.

هنا لا بد من تدخل المجتمع الدولي للتحقيق في شأن الصاروخ الذي يؤكد أهل الجبل رؤيتهم للطائرة التي حلقت على مرأي الكثير ونصبت فخّها لمستودع نترات الامونيوم، وكانت الكارثة بأقل جهد وبأكبر الأضرار المادية والروحية التي لا يقبلها أي ضمير أو وجدان.
وعن رؤيتهم في لبنان لردود الأفعال العربية من هذه التفجيرات التي جعلت من بيروت مدينة منكوبة تقول: ليس من المستغرب على الأخوة العرب في كل شبر من الأرض العربية تعاطفهم ولهفتهم وتعاضدهم ومؤازرتهم؛ فالكويت الشقيق كان السبّاق لتلبية نداء الاستغاثة، وسارع لنجدة لبنان بملايين الدولارات، وبعدها الإمارات العربية المتحدة لم تقف مكتوفة الأيدي بل هبّت لنجدة لبنان بغيث إضافي من ملايين الدولارات، وكالعادة لم تصمت الشقيقة الكبرى مصر التي أرسلت المساعدات الطبية ومستشفى للطوارئ، ولا بد من التذكير بأن العناية الإلهية أنقذت الكثير الكثير، وأنا منهم، عن إمكانية الدمار الشامل، فحسب التقارير الدولية أن الانفجار قد تبدّد منه ثلثي النطاق المدمر في عرض البحر، ولولا تدخل العناية الالهية ووجود البحر لكانت بيروت برمّتها مدينة من الماضي، ولا شك أن الاستشهاد الفوري رحمة من الله وفضل.
لهفة الأشقاء العرب جاءت بحجم الكارثة بل أكبر
وتطرح الكاتبة غادة فؤاد السمان سؤالًا مهمًا للغاية: هل حقًا المبالغ التي تنهال على خزينة الدولة اللبنانية ستصرف بحصافة وإنصاف وعدل وضمير على الجميع، ونحن نعلم علم اليقين قوانين الاستنسابية والمحسوبيات والانحياز الطائفي والمذهبي والمراوغات بشأن الصرف وهذا ليس بجديد فهو معهود ومشهود في الحكومات المتعاقبة؟  
وكان حريا بالحكومة الحالية التي تلقت وما زالت تتلقى من الأخ العربي والصديق الغربي كل المساعدات الممكنة لو أنها تملك الحد الأدنى من الحسّ الإداري لتلافت في هذه المحنة مسألة التقنين الكهربائي الذي لم تفعله أية حكومة سابقة منذ ثلاثين عام، وحتى أيام الحرب الاهلية لا أعادها الله لم يشهد لبنان هذه النسبة الفاقعة جدًا من التقنين الفادح والفاضح لفشل الحكومة التي تتفنن بإيجاد الأعذار والحجج والمبررات لمسألة التقنين للتيار الكهربائي الذي هو عصب الحياة حتى البدائية.
فما بالك ونحن قد أصبح العالم كله سكان قرية واحدة، نعيش نحن فقط في الجانب المظلم منها تمامًا، وهذه بصمة فشل ووصمة عار على من أغرق لبنان في ظلام دامس منذ أكثر من شهرين، وكأنه لا يعلم من أمر الوباء شيئًا، ولا يدري من أمر الكارثة التي طالت جميع سكان العاصمة أي خبر، لهذا على الدول الشقيقة ومثلها الصديقة أن تتولى أمر الإشراف عن طريق سفاراتها على أوامر الصرف وسُبُل إنفاق تلك الملايين التي تدخل عادة خزائن الدولة، ولا أحد يعرف كيف تخرج للمصارف الخارجية لتندرج في حسابات المسؤولين الأشراف الأفاضل الكرام.
وأسألها: إلى أي مدى تضررت الثقافة في لبنان بسبب أجواء القلق وعدم الاستقرار الشارع اللبناني، فتقول: الثقافة اللبنانية فعلا تشهد تراجعًا مريعًا، كأنما قدّر لها أن تدخل الثلاجة، أو كتب عليها الإغماء القسري حتى إشعار آخر يصعب تحديد نهايته! وهذا الأمر ليس نتيجة آنية لما يعصف في لبنان من ظروف، بل في تقديري هو وليد عدة عوامل متداخلة ومتكاملة و"متشائكة" ببعضها البعض، ففي بداية التسعينيات وبعد الحرب الطويلة التي استنزفت الكوادر السياسية كلها في لبنان، كان الجنوح إلى الثقافة كوسيلة من وسائل الخلاص والتحرر من قبح الحرب وتبعاتها؛ فنشطت الحركة الثقافية بتهافت الجميع على الكتابة والنشر، وفي حينه كانت دول الخليج متعطشة للخروج من عزلتها وسباتها الطويل ونهضتها الطارئة وعشقها للبنان بلد التنوع والتميز والانفتاح وحلبة صراعاتها ورهاناتها الموثوقة، فكثرت الصحف والمجلات التي تدار برئاسة تحرير لبنانية في معظمها، الأمر الذي فتح الأبواب على غاربها أمام الجميع ليجد المساحة الأنسب للتعبير عن فضاءاته الإبداعية على اختلاف أبعادها.  

Literary dialogue
أغلقت معظم المنابر بعد سقوط الرؤساء 

وكان الدولار سيد الموقف والراعي الرسمي لجميع الأدمغة والضامن الوحيد لاستمالة كافة الأقلام، فازدادت الحماسة وكثرت المنافسات وطغى التكريس وسادت الفرص، لكن مع الوقت وتراكم التجارب والأسماء والإصدارات بدأت عملية الفرز والتصنيف والانحياز التي أدت إلى ظهور الشللية كظاهرة إيجابية في البداية طابعها الاجتهاد والسعي للأفضل ضمن منهجيات جديرة بالتقدير إلى حد الإعجاب، ولكن سرعان ما تحولت هذه الظاهرة إلى حالة من الإلغاء الذميم ودخلت الأنانية وتمادت الشخصانية، وتفاقمت الأطماع وتسابق الجميع لتدمير الجميع أمام أصحاب المؤسسات وخاصة الخليجية التي نشطوا معها وكبروا بها وتنازعوا عليها، وفي عز الخلافات التي بدات تضرب الوسط الثقافي في لبنان، كان الخليج يلتفت إلى التجارب الخليجية ويعنى بها ويتيح لها المساحة الشاسعة التي لم ينتبه إليها المثقف اللبناني، وصولا إلى عصر النت الذي أزاحه تمامًا عن متن الصحيفة والمجلة وكل المرتكزات التي تضمن له حياة كريمة يطمح لها دائمًا والتي اعتادها بحكم عقد ونصف من الاعتماد الكلي على الصحف الخليجية كمنابر لتكريس الأنا وكمصادر رزق ممتازة، ولكن النت وظهور وسائل التواصل واستسهال الأدب والكتابة لدى الجميع، وتداخل الحابل بالنابل سحب البساط من تحت أقدام المكرسين وجعل الطفرة تتقدم على الخبرة.
وظهرت نماذج جديدة للأدباء الجدد حيث لا هوية ولا قضية ولا عناوين عريضة ولا ماهية، مجرد ألفاظ ولعب على الأبجدية التي وجدت عبر وسائل التواصل ضالتها! وأصبح الأديب أو المثقف في حيرة من أمره هل ينسحب من الحياة الثقافية وقد أغلقت معظم المنابر الورقية وسدت عليه أبواب الرزق، وانهار المستوى وضاعت القيم والأسس والمبادىء واختفت المعايير لدخول المعترك الثقافي، وأصبح كل من هب ودب يملك عشرات الألقاب تكفلها ظاهرة "اللايك" و"الكومنت" وكأن الأدب أصبح "شغلة اللي مالو شغلة"، وهكذا بدأ المشهد الثقافي في لبنان يبهت في حين أنه استطاع الصمود في مصر مثلًا كونها من الأساس اعتمدت على منابرها الخاصة وعلى كتابها وأقلام أدبائها وحافظت على استمراريتها، بينما في لبنان أغلقت معظم المنابر بعد سقوط الرؤساء في العراق وليبيا وغيرهما؛ كالسفير والأنوار والنهار في الطريق.
وعن المبدعين اللبنانيين الذين لا تزال تنغمس حروفهم في الوجع اللبناني، تقول: المنغمسون في الوجع اللبناني للأسف تحولت مشاعرهم من العام إلى الخاص، والأدباء الذين رهنوا أدمغتهم ونفوسهم وأرواحهم للبنان لتكريس عروبته أو حتى تكريس سوريته كجزء من الهلال الخصيب، أو سوريا الكبرى، جميعهم رحلوا، ومن بقي،.. بقي مع همه الذاتي واستبدل جميع الشعارات التي سقطت بسقوط النظريات الثورية، بشعار "أنا أولًا".
والأديب أو المثقف الذي يدور في فلكه الخاص لا يمكن التعويل عليه جماهيريًا، ربما يستطيع أن يلفت انتباه من هم على شاكلته من عشاق الذات والمرايا.
ولكن لا يمكن التأسيس لحالة ثقافية أو حتي اجتماعية تذكر.
ولهذا فالنشر والطباعة لم يعدا ميزان الحياة الثقافية، ولا شك في أن الكم لا يزال هو الغالب اليوم، لكن الكيف شبه معدوم. ولأنه لا بد من الإنصاف فربما هناك عشرات الموهوبين اليوم، ولكن انعدام النقد وافتقاد المناخ الثقافي لن يصنع اسمًا جديدًا.