فؤاد قنديل من السقف إلى السوق

الكاتب المصري يسرد قصة غريبة حدثت منذ 12 قرنًا حينما كان عمرو بن العاص يستعد للسفر حملة إلى الشام.
عمرو بن العاص للبطريرك بنيامين: ابن كنيسة تحمل اسم هذا القديس العظيم في الإسكندرية
البطريرك بنيامين احتفظ برأس ماري مرقص في قلَّايته حتى بنيت كنيسة عُرفت باسم "الكنيسة المعلقة" في شارع المسلة 

عدة سنوات مضت على رحيل الأديب فؤاد قنديل الذي أصدر في حياته عشرين رواية، وأربع عشرة مجموعة قصص قصيرة، وثلاث عشرة دراسة، أهلته للفوز بعدة جوائز، بدأت بجائزة القباني لأفضل مجموعة قصصية سنة 1979، وجائزة نجيب محفوظ من المجلس الأعلى للثقافة عام 1994، وجائزة الدولة للتفوق عام 2004، ثم جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2010، وجائزة الطيب صالح في القصة القصيرة من السودان عام 2011.
وبعد رحيله، أصدرت "مكتبة الدار العربية للكتاب" بالقاهرة روايته الأخيرة "أهل السوق".
وفؤاد قنديل منذ كتب: "السقف" و"الناب الأزرق" و"شفيقة وسرها الباتع"، إلى آخر كلمة خطها في "أهل السوق" كاتب له طعمه الخاص؛ فهو يوغل في التخيل القائم على عمليات تداعٍ متلاحقة. ففي إحدى رواياته التي يتكلم فيها عن ظهور الطبقة المستغِلَّة للشعب المصري في زمن الانفتاح، نجده يصور كيف حُرِمت الأم من أطفالها كي يوفر المستغلون لبن ثديها لإطعام – بل للمتاجرة – فكيف عبَّر هو عن هذه الفكرة؟
لقد جعل المرأة متمددة وخراطيم شفط اللبن تخرج من صدرها لتدير مصانع الحليب! وهي مبالغة تقترب من اللامعقول، وإن كانت نتيجة استثارة للخيال الفني الذي يتداعى مع روح هذا الفنان في كتاباته.
في هذه الرواية، يبدأ بالحديث عن مشهد تشييع جثة أحد المتوفين، فيرسم صورة النساء بملابسهن الداكنة السواد، والرجال الذين ساروا وراء النعش لمسافة تصل إلى كيلو متر ونصف الكيلو من بيت المتوفى إلى المسجد تحمل تابوته الذي يتبادل حمله أكثر من مائة حبيب وقريب.
وكالعادة في مثل هذه المشاهد، يخرج صوت جرئ أجش مرددًا: "وحدوه.. لا دايم غير الله"، فيرد عليه الجميع كجوقة موسيقية: "لا إله إلا الله"، ولكن المؤلف يترك الملابس السوداء، والرجال، ومشهد الجنازة، لينقلنا إلى أغرب فكرة يمكن أن تخطر ببال، وهي تتصل بكُنه المتوفى، ومن يكون؟

صاحب "الناب الأزرق" يأخذنا في أعماله الأدبية ويطوف بنا بخياله الممتد المتجدد ليمنح قراءه تسلية ومتعة، إن لم يكن فيها معاناة وفكر

وتأتي الإجابة الغريبة، إن من جاءوا خلف الجنازة إنما جاءوا لتوديع "الخواجة".. زميلهم في السوق، ولكنهم سمعوا أن الميت هو "محمد جرجس"، فإذا بالبعض يقول: بل هو "محمود عبدالراضي"، وآخرون "بل ناصر العبد"، بل "شفيق ضرغام"، أو "عماشة النادي" ثم "سيد كمونة" ثم "شوقي برهام" وإذا بصوت يشذ عن كل هؤلاء فيقول مؤكدًا: "بل الراحل هو صاحب الخيرات كامل رشدان"، فيكذبه آخر ويقول "بل سالم الكيلاني". وهكذا يتحول المشهد إلى جدل حول شخص المتوفى وكنهه.
وأمام هذا الجو العبثي تقول الطبيعة كلمتها، فتملأ السماء حمائم وغربان وعصافير وحدادي وصقور، وكأنها من عليائها تودِّع المتوفى الذي اختلف المشيعون في معرفة كنهه. 
هذه هي طريقة فؤاد قنديل في خلق أجواء الإثارة الذهنية في رواياته وقصصه.
والغريب أن الجميع يدركون أن شخصًا مهمًا قد غاب عن هذا المشهد، وهو "محمد جرجس"!
هذا الاسم المركب تركيبًا غير مسبوق في الواقع، يحاول المؤلف أن يصنع من خلاله رابطة أدبية للوحدة الوطنية. والحكاية أن "محمد"، و"جرجس" هما في الواقع جسمًا واحدًا، تشعب إلى جسمين. 
يترك المؤلف الجنازة والمتوفى ليرتد بنا إلى الوراء ثمانين عامًا، في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، وانتبه إلى هذا التوصيف الدقيق في أعقاب معاهدة النحاس والإنجليز الشهيرة بمعاهدة 1936، وبعد تولي فاروق عرش مصر ملكًا عقب رحيل والده فؤاد، وصعود نجم "هتلر" في ألمانيا.. فما هذا الحدث الذي يوصف له الكاتب تاريخًا سياسيًا وتنصيبًا ملكيًا ووفاة لملك وصعودًا لنجم النازي؟
 ما هذا الحدث الجلل الذي يضع له كل هذه التوصيفات؟
إنه حادث قتل تم في أحد نجوع سوهاج، حينما قتل أحد أفراد عائلة "الشهابية" رجلًا من عائلة "الجهاينة". وكعادة أهل الصعيد اجتمعت الأسرة طالبة الثأر لتحدد المطلوب قتله من الأسرة القاتلة وتقرر أن المطلوب يُدعى "عبدالإله جرجس الشهايبي" شقيق "محمد الشهايبي" الذي تحمله الأعناق والرؤوس لتشيعه إلى مثواه الأخير. شيء غريب، لأن عبدالإله جرجس لم يُقتل، أما سبب ذلك  فهو لا يعود إلى أن حياته لا يزال فيها بقية من عمر، وإنما يعود إلى أن القدر سبق أهل القتيل في انتزاع عبدالإله إلى الملكوت الآخر. ذاك أنه كان على متن مركب في النيل، كعادة أبناء تلك البلاد، متجهًا لزيارة خطيبته، في البر الآخر، وكمن له "حمدان الجهيني" أعلى شجرة بعينين حادتين كصقر تراقبان المركب وهي تعبر الماء آتية إليه، فإذا به يرى السفينة تهتز وسط الماء، ثم تغرق، فتكون الكارثة.
ربما تكون هذه إحدى سخريات القدر، ولكن النتيجة أن البلد أقيم فيه مأتمان؛ مأتم على المتوفى، وآخر لأن طالب الثأر خاب سعيه، ولم يحقق هدفه!
فاجتمعت العائلة لترشح شخصًا آخر للثأر منه، فكان ذلك من نصيب أخيه "محمد جرجس". وبطبيعة الحال، علمت قبيلة "الشهايبة" أن "محمد جرجس" هو المطلوب، فبدأت تفكر في مَخْرَجٍ. وهنا أتساءل: إذا كان القاتل يخاف الثأر منه، ويهرب، فلماذا يقتل وهو يدرك أن  الآخرين سيقتلونه؟ هذه أحجية الناس في هذه الأماكن التي لا تزال تظل للتقاليد فيها سطوة.
المهم، أن مناورة صغيرة تحدث، ففي الليل البهيم، يخرج اثنان من البشر: امرأة تركب حمارًا، ورجل يمشي بجوارها متلفعًا بسواد الليل، وعباءة وملابس تخفي ملامحه. وعند محطة القطار يربطان الحمار، ويركبان القطار، ويتحركان إلى خارج هذه البلاد المميتة، ومن القطار القادم من الاتجاه المضاد  ينزل في المحطة، إنسان، ويتجه إلى مكان الحمار فيركبه ويعود به في مناورة تشبه المناورات الحربية.
ونتساءل: أين ذهب "محمد"؟ وكيف صار "جرجس"؟

novel
مناورة تشبه المناورات الحربية

ونفهم أن "محمد" وصل إلى برّ الأمان، هناك في الجيزة حيث صديق طفولته "جرجس"، وهما اللذان تصادقا وتلازما في كل شيء ولم يفترقا. حتى أن والد "جرجس" عندما قرر أن يدفع بابنه المدلل إلى طريق الرجولة بالعمل معه في معصرة الزيوت، طلب منه ابنه أن يعمل معه "محمد" فوافق الأب "متري"، وهكذا استقر "محمد" ورضي عنه "متري" لأنه أخلص في العمل بالمعصرة، إضافة إلى أنه كان أمينًا ويعتمد عليه.
ويضرب القدر ضربة تأخذ "جرجس" بعد أن يفترسه مرض "التيفود"، ويتمسك "متري" بمحمد، لا لأنه معين في العمل فقط، ولكن لأنه كان صديقًا لجرجس، ولذلك كان يقول: "راح جرجس وبقي أخوه"، ومن هنا أصبح اسمه "محمد جرجس".
أما "محمد جرجس" الذي نتكلم عنه، فهل هو "محمد جرجس الأول" أم "محمد جرجس الثاني"، أم "محمد جرجس الثالث" وفقًا لتسلسل الأجيال؟ هل هو "محمد جرجس" الذي هرب من الصعيد، واستقر في الجيزة؟ أم هو غيره؟
يتركنا المؤلف ليستدعي من أعماق التاريخ قصة أخرى لا علاقة لها إلا بفكرة الرباط بين المسلمين والمسيحيين فيما يعرف الآن بـ"الوحدة الوطنية".
ويسرد فؤاد قنديل قصة غريبة حدثت منذ 12 قرنًا حينما كان عمرو بن العاص يستعد للسفر في حملة إلى الشام. وأثناء انتظار الأسطول في ميناء الإسكندرية استعدادًا للرحيل تسلل أحد البحارة متخفيًا بالظلام الحالك إلى كنيسة "بوكالسيا"، وراح يبحث عن أي شيء ثمين يسرقه، إلى أن اصطدمت يداه بتابوت خشبي، فتحه عنوة بخنجر كان في خاصرته، ليجد رأس القديس "ماري مرقص"، وجسده ملفوفين داخل تابوت.
ويبدو أن الرأس كان مفصولًا عن الجسد في عصر الشهداء، فأخذ اللفافة التي بها الرأس معتقدًا أنها كتلة من الذهب وأسرع عائدًا إلى سفينته، حيث أخفاها في مكان لا يبلغه أحد. وعندما أمر ابن العاص بالإبحار، وفردت السفن أقلعتها، انطلقت، إلا السفينة التي في قاعها رأس القديس، فلم تبرح مكانها، على الرغم من محاولات البحارة! فأبلغوا القائد عمرو فأمر بتفتيش السفينة، وأخرج البحارة كل ما في أحشائها حتى عثروا في قاعها على الرأس المغطى باللفائف.
 فسأل ابن العاص عمن خبَّأ الرأس. وبعد صمت، اعترف البحار، وبمجرد خروج الرأس من السفينة، تحررت وتحركت. وأخذ عمرو رأس القديس، واحتفظ به في غرفته الخاصة تحت حراسة مشددة، ثم سأل معاونيه عن بابا الاقباط فقالوا إنه الأنبا بنيامين البطريرك الثاني والثلاثون، وكان هاربًا ومختبئًا داخل ديره بالصعيد، خوفًا على حياته من بطش المسلمين.
فكتب له ابن العاص كتابًا بخط يده يطمئنه فيه ويهديه الأمان، ويطلب منه الحضور إليه لأمر عاجل. فلما حضر البابا الهارب، قابله ابن العاص، ورحب به، وسلَّمه الرأس المقدسة وعشرة آلاف دينار، وقال له: "ابن بها كنيسة تحمل اسم هذا القديس العظيم في الإسكندرية". فاحتفظ البطريرك بنيامين بالرأس في قلَّايته حتى بنيت كنيسة عُرفت باسم "الكنيسة المعلقة" في شارع المسلة.
هكذا يأخذنا فؤاد قنديل في أعماله الأدبية - منذ عمله الأول إلى آخر أعماله - ويطوف بنا بخياله الممتد المتجدد ليمنح قراءه تسلية ومتعة، إن لم يكن فيها معاناة وفكر.